تعريف الشائعة:
ليس من السهل أن نضع تعريفا دقيقا محددا لكلمة الشائعة. فهي تحمل كثيرا من المعاني التي سنحاول أن نبرزها هنا. ويعرف الشائعة كل من جولدن البورت وليوبوستمان. في كتابهما سيكولوجية الشائعة بأنها "اصطلاح يطلق على رأي موضوعي معين مطروح كي يؤمن به من يسمعه" وهي تنتقل عادة من شخص إلى أخر عن طريق الكلمة الشفهية دون أن يتطلب ذلك مستوى من البرهان أو الدليل... علي انه كثيرا ما تنتقل الشائعة عن طريق: الصحافة أو الإذاعة أو أجهزه الإعلام الأخرى..... وهي تتسم بصفه التناقض، فقد تبدأ علي شكل حملات هامسة، أو تهب كريح عاصفة عاتية, وقد تكون مسالمة لا تحمل أكثر من تمنيات طيبة للمستقبل أو مدمرة تحمل بين طياتها كل المعاني الجهد والكراهية والتخريب. وهي من جهة أخرى أشبه بموج البحر الذي يعلو فجأة على سطحه ثم يغطس ثانية إلى القاع ليعاود الظهور إذا ما تهيأت الظروف المناسبة. وعلى كل حال فهي وباء اجتماعي يصيب الإنسان ولا يستطيع أن يبتعد عنه أو يتخلص منه بسهوله.
ولما كانت تتضمن عادة موضوعا معينا فإن الاهتمام بها يكون مؤقتا. فهي تروج في الظروف الملائمة للموضوع، ثم تنتهي بموتها ودفنها على أنه من ناحية أخرى قد تعاود الظهور مرة أخرى إذا ما وجدت الأرض الخصبة المناسبة.
والشائعة تمس أحيانا أحداثا مثل الحرب والتظاهرات والفيضانات والكوارث وارتفاع الأسعار والعلاقات السياسية والموضوعات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية وانتشار مرض معين…. الخ كما تمس أشخاصا مثل: رئيس الدولة أو رجال الحكومة أو الصحفي ع أو السيدة س... هذه بعض النماذج لأهداف الشائعات مع أن هناك أشكالا أخرى ملموسة تظهر فيها مثل الثرثرة والنكات والتقولات والقذف والتنبؤ بخير أو شر – بالأحداث ألمقبله.
وتعتمد الشائعة على جزء من الحقيقة فيها لخلق كيانها وترويجها ويجب أن نفرق هنا بين الخبر والشائعة. فالخبر يعتمد على البرهان والدليل القاطع أما الشائعة فإن برهانها يكون باهتا غير واضح. فمثلا إذا نشرت صحيفة ما قانون تأجير المساكن فإن ذلك يعتبر خبرا صحيحا ولكن حينما يبدأ نقل هذا الخبر بين الأفراد مبتعدين عن حقيقة ما جاء به فهنا تبدأ الشائعة, ويستمر ترديدها دون برهان أو دليل حتى يكاد يصدقها الكثير من الناس وتأخذ في النهاية أسلوبا معينا في الترويج مثل ذلك "أنهم يقولون……. أو سمعت من مصدر مسئول أن….. أو لدي أخبار مؤكدة بأن... الخ. وهناك شرط أساسي لاكتمالها وهو أهميه الحدث أو الشخص مع ضرورة توافر الغموض الذي يكتنف الشائعة علاوة علي الدوافع النفسية التي تبعث على خلقها وترويجها كما سيجيء ذلك فيما بعد.
لماذا تنتشر الشائعات؟
يمكننا أن نتساءل، هل يصدق كل الناس الشائعة وهل يعمل أي فرد على ترديدها ونشرها؟
الواقع أن الشائعات غالبا ما يرددها ويصدقها أغلب الناس حتى أولئك الذين لا يصدقون ما يحكيه غيرهم، فعادة ما تخرج الشائعة بطابع التشويق، لأن الذين يعملون على خلقها وترويجها يبذلون أقصى جهدهم في صياغتها بشكل يحقق رواجها ونشرها مستغليين في ذلك ما يختلج نفوس الناس من خوف وشك وآمال وأحلام يقظة ونحو ذلك مما لا يستطيعون النطق به مباشرة أو التعبير عنه إعلانية... وكلما كان الاتصال سهلا انتقلت الشائعة لمسافات كبيرة كما أنها تزداد قوة حينما يكون لدى الناس الرغبة في تصديقها أو عندما يحسون في الإنصات إليها أو نقلها نوعا من الرضا. للإنسان عادة ما يسره أن يكرر القصة التي تحقق شكوكه أو التي تعبر عن مخاوفه كما أنه يرغب في أن يضحك أو يهزأ على حساب آخر لا يحبه... ومن ثم يمكن القول: أن الرأي العام هو الذي يخلق الشائعات ويبدعها كما أن الشائعات القوية الجريئة هي تلك التي تتمشى مع المخاوف والشكوك التي يشترك فيها كل شخص مع غيره من الناس... هذا من ناحية أما من ناحية أخرى فإن الشائعات قد تخلق الرأي العام أيضا وتوجده.
المراحل النفسية التي يتم فيها تحريف القصة:
من الملاحظ أن نفس نمط التحريف يوجد في التغييرات التي يمر بها إدراك الفرد وذكرياته على مر الوقت, وفي التحريفات التي تتم في القصة في أثناء انتقالها من شخص إلى شخص. وهناك ثلاثة مظاهر لهذا التحريف وهي: التسوية – والشحذ – والاستيعاب.
فالقصة تميل وهي تنتقل من شخص إلى شخص إلى أن تصبح أقصر من ذي قبل وأسهل فهما وأيسر رواية. وفي أثناء عملية انتقالها المتوالي "تسوى" كثير من التفصيلات الأصلية شيئا فشيئا. وقد لوحظ من التجارب التي أجريت على الشائعات أن كثيرا من التفاصيل التي كانت موجودة تسقط بشدة في أول سلسلة الانتقالات. وفي كل مرة تروى فيها الشائعة يستمر عدد التفاصيل في الهبوط – ولكن ببطء – ويحدث نفس الشيء في الشائعات الاجتماعية في دقائق معدودات تستغرق أسابيع في حالة الشائعة الفردية.
وفي الوقت الذي تتم فيه تسوية التفاصيل تشحذ فيه التفاصيل المتبقية وتدل عمليه الشحذ على إدراك انتقائي وعلى استبقاء انتقائي وعلى تفاصيل قليلة عن الموضوع الأصلي الكبير. وبالرغم من أن عملية الشحذ – كعملية التسوية تتم في كل مرة تروى فيها الشائعة فإن العناصر التي يقع التركيز عليها ليست هي نفسها في كل مرة. ويعتمد هذا كثيرا على تركيب الجماعة التي تنتقل بينها الشائعة. فتشحذ العناصر التي تلقي اهتماما خاصا من رواة الشائعة.
أما عملية الاستيعاب فهي نتيجة للقوة الجذابة للعادات والرغبات والمشاعر الموجودة في عقل المستمع.. فرواية الشائعة ثم إعادة روايتها مرة أو مرات أخرى يعتمد على الدافع الداخلي لكل شخص الذي جعله ينقل أو يقول القصة، وغالبا ما يتفق الاستيعاب مع المتوقع فتدرك الأشياء ونتذكر كما هي العادة. وعملية الاستيعاب تعبر عن نفسها بتغيرات وتحريفات تعكس عواطف الشخص العميقة الجذور كما تعكس موقفه وتحيزه... بهذه العملية يتضح لنا كيف يتم إغفال بعض التفاصيل وإبراز البعض الآخر وكذلك نقل أجزاء مكان أجزاء أخرى مما يغير من الحقيقة.
وبالرغم من أن التسوية والشحذ والاستيعاب بتميز الواحد منها عن الآخر بغرض التحليل. فإنها ليست عملية مستقلة، إنها تعمل مجتمعة في نفس الوقت، وهي تعكس العملية الفريدة ذات الصبغة الشخصية التي تؤدي إلى التحريف الذي يميز الشائعة.
تصنيف الشائعات:
أولا: من حيث طريقة وسرعة انتشارها:
1) الشائعة الزاحفة:-
وهي التي تروج ببطء ويتناقلها الناس همسا وبطريقة سرية تنتهي في آخر الأمر إلى أن يعرفها الجميع... إن هذا النوع من الشائعات يتضمن تلك القصص العدائية التي توجه في المجتمع ضد رجال الحكومة والمسئولين أو ضد مجموعات من الشعب لمحاولة تلطيخ سمعتهم، وكذلك تلك القصص الزائفة التي تروج لعرقلة أي تقدم: اقتصادي، أو سياسي أو اجتماعي، ويدخل في ذلك ما يقوم به المروجون في نشر التنبؤات بوقوع أحداث سيئة تمس هذه الموضوعات. ويقوم مروجو هذا النوع من الشائعات بنسخ سلسلة لا تنتهي من القصص ويستمرون في العمل على تغذيتها واستمرار نشرها.
2) الشائعة العنيفة:
وهي تتصف بالعنف، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، وهذا النوع من الشائعات يغطي جماعة كبيرة جدا في وقت بالغ القصر.... ومن نمط هذا النوع تلك التي تروج عن الحوادث والكوارث أو عن الانتصارات الباهرة أو الهزيمة في زمن الحرب... ولأن هذه الشائعة تبدأ بشحنة كبيرة فإنها تثير العمل الثوري لأنها تستند إلى العواطف الجياشة من: الذعر، والغضب، والسرور المفاجئ.
3) الشائعات الغائصة:
وهي التي تروج في أول الأمر ثم تغوص تحت السطح لتظهر مرة أخرى عندما تتهيأ لها الظرف للظهور، ويكثر هذا النوع من الشائعات في القصص المماثلة التي تعاود الظهور في كل حرب كتلك التي تدور حول تسميم قوات العدو لمياه الشرب، أو التي تصف وحشية العدو وقسوته مع الأطفال والنساء.
ثانيا: تقسيم الشائعات من حيث الدوافع النفسية:
فقد ثبت أن معظم الشائعات تعبر عن: إما العداوة والكراهية، وإما الرغبة، وإما الخوف، وقليل منها يعبر عن توتر نفسي، أو رغبة في حب الاستطلاع، وبوجه عام يمكن تقسيم الشائعات على أساس الدوافع التي وراءها إلى:
1- الشائعات الحالمة: أو بمعنى آخر المليئة بالخيالات التصويرية وهي تعبر عن الأماني والأحلام، وفي مثل هذه الشائعات نجد أنها تعبر عن سرور مرددها وارتياحه إلى تصديق ما يأمل أن يكون حقيقة واقعة.
2- الشائعات الوهمية: وهي تعبر عن الخوف وليس عن رغبة، ومن أمثلة ذلك الشائعات المغرضة عن أعداد مبالغ فيها من القتلى والجرحى أثناء المظاهرات أو الحروب.
3- الشائعات التفريقية: وهي تهدف لإحداث فرقة وانفصال بين أفراد الشعب أو بين الدول وبعضها.
أثر الشائعات على الروح المعنوية:
ويمكننا الآن أن نقف لحظة لنتساءل... ما آثار هذه الشائعات على الروح المعنوية القومية؟
الواقع أن الشائعة في مضمونها تلعب دورا كبيرا في التأثير على معنويات الشعب وإن اختلفت درجة تأثيرها تبعا لنوعها والدوافع التي تكمن خلفها، (فشائعات الخوف) – من شأنها أن تشيع عدم الثقة في جدوى المجهودات العسكرية، وهذا يؤدي بدوره إلى إشاعة الروح الانهزامية لإثارة الذعر والرعب بين المواطنين... أما (شائعات الأماني) - فهي تؤدي إلى هدوء الناس والتخفيف من توترهم لما فيها من وعود وتفاؤل.
والشخص الذي يجري وراء الشائعات ويصدقها قد يحمل بين طياته موطن الخطر، والخطر هنا خطر حقيقيي مباشر، وهو كذلك واضح محسوس ذلك لأن يسمع مثل تلك الشائعة قد يقوم بعمل عنيف و مفاجئ كأن يسارع بالفكاك والهجرة، فيجمع القليل من أهم ما في حوزته من ممتلكات ويسارع إلى ترك المدينة أو القرية مع أسرته. وهو بتصرفه هذا إنما يخلق شائعة مادية قد تجعل باقي الناس يتصرفون مثله.
الدوافع السيكولوجية وراء الشائعة:
ينجم الغموض الذي يكتنف قصه أي شائعة عن عوامل عده منها انقطاع الأنباء أو تناقصها، وعدم تصديق الشعب لأي خبر يذاع وفي هذه الحال يكون ثمة مجال للتوترات العاطفية التي من شانها أن تجعل الفرد عاجزا عن الوصول إلى الحقائق أو زاهدا فيها.
علي أن للقصة أهميتها لأنها تحمل في طياتها دوافع الشائعة، فلو لم يكن الموضوع هاما بالنسبة للشخص الذي يروج الشائعة لما حاول أن يرددها. وهذا له تأثير كبير علي دفع وانتشار معظم الشائعات... إن "الكبت" هو الذي يجعلنا نميل إلى التخيل أو إلى المغالاة في وجود هذه المشاعر في الآخرين. نحن نظن أن العيب موجود في غيرنا وليس فينا على حد قول الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
أجل نحن لا نحب أن نعترف بعيوبنا فإذا أمكن أن نشير إلى هذه العيوب في الآخرين فإن ذلك قد يكسبنا نوعا من احترام النفس. وكثيرون منا يخجلون أو يخافون من دوافعنا وهذا يؤدى بنا إلى أن نتهم الآخرين بالشذوذ. وبدلا من أن نعترف بوجود هذه الصفات الإنسانية الطبيعية فينا يعمد كثيرون منا إلى حبسها في أقسام من العقل ولا نسمح باقتحامها مدعيين أنها ليست موجودة. نحن نترك الجزء الأمامي من عقولنا مفتوحا لاستخدامنا الواعي ولكننا نحتفظ بسريه الجزء الخلفي من عقولنا ولا نسمح بكشفه.
هذا هو التفسير الحقيقي لكثير من الشائعات الكاذبة التي تعبر عن الحقد والكراهية. إنها ليست الحقائق الخارجية التي تدفعنا لأن نسيء الظن ونلطخ سمعة جماعة من الناس ولكنها المشاعر التي حبسناها في الحجرات الخلفية من عقولنا. فمن هذه الحجرات وعن طريق السلالم الخلفية تتسرب الشائعات الخاصة بنقائص الآخرين وانحلالهم. إنها تستغل مخاوفنا وتستغل شعورنا بعدم الطمأنينة ولكننا نحاول دائما أن نبعدها عن الجزء الأمامي من عقولنا.
وبغير إدراك نرفض دائما أن نعترف بنقطه الضعف هذه. ثم بدلا من ذلك نصدق ما يقوله مروجو الشائعة الآخرون. نحن نعكس على ضحية بريئة ما لا نحب أن يكون فينا. وحتى نشعر بزيادة الطمأنينة ننضم إلى مروجي الشائعات ضد هذه الضحية فنروج ونضخم من هذه الشائعة.
ثم هناك شيء أغرب من هذا ولكنه حقيقي. إذا استبدت بنا رغبة – ونحن نعتقد أن هذه الرغبة شريرة وخطيرة – فإننا لا نعمد إلى قتلها ولكننا نحبسها بالحجرة الخلفية من عقولنا ولكن حبسنا إياها لا يعنى أننا سوف لا نحققها، على العكس إننا نعمل على تغذيتها بالثرثرة والشائعات.
وبالاختصار يمكن أن نستمتع بهذه الملاذ الممنوعة – على الأقل – في خيالنا طالما كنا قادرين على أن نحجزها عن الحجرات الأمامية. والحقيقة أن أقفال باب الحجرة الخلفية يعطينا فرصه للاستمتاع بها. ويصدق هذا طالما عجزنا عن أن ندرك بوضوح الدوافع التي تدفعنا إلى هذا فإذا نحن أدركنا هذه الدوافع بدا الخوف يدخل في نفوسنا وعند ذلك نحاول أن نعثر على "كبش الفداء" فنعكسها علي, ولذلك نثير غضبنا عليه.
ومن الأهمية أن نبين هنا الهدف الذي تسعي الشائعة إلى تحقيقه فمهاجمه الشيء الذي يكرهه الإنسان يسري عنه, ثم أن ذلك يؤدى إلى خدمة أخرى في نفس الوقت إذ يبرر شعور هذا الإنسان نحو الموقف ويفسر لنفسه وللآخرين ملابساته. وهكذا تطبق الشائعة أصول المنطق كما أنها تخفف من شده توتره العاطفي فيقول شخصٌ مثلا "لماذا لا أكره هذا النظام"؟ أليس هو السبب في تجريدي من جاهي وسلطاني؟
ومهما يكن من شيء فإن الشائعات بأنواعها حية رقطاء تستطيع أن تنفث سمومها في كل قطاعات الدولة، وهذه السموم التي إذا لم يتكاتف كل أفراد الشعب في مقاومتها ودرئها بكل عنف وقوة تقضي على الروح المعنوية القومية لأي أمة، يمكن لها أن توقف انطلاقتها وتشل تقدمها.
واقرأ أيضاً:
سيناريو الثورة المضادة!/ تنظيف مصر من آثار الفرعون بالمقشات/ حكاوي القهاوي