لا يستطيع أحد أن يدعي أنه استطاع تنبؤ انهيار الأنظمة العربية على الشكل والتوقيت الذي نشاهده في هذه الفترة. إذن فإن الأنظمة النظرية التي قرأنا بواسطتها المجتمعات والأنظمة السياسية العربية كانت عاجزة على فهم وتنبؤ السيرورات السياسية والاجتماعية وعليه فإننا مطالبون اليوم بمراجعة وتعديل الأنظمة النظرية لتستطيع قراءة وتنبؤ الأحداث، وقادرة على التوجيه إلى سبل التأثير على السيرورات الاجتماعية والسياسية.
"السلطة البطركية" أمام "سلطة الشعب"
يكاد يكون إجماع في الأدبيات التي درست وحللت المجتمع العربي على أن السيرورات السائدة فيه هي سيرورات تحركها سلطة "أبوية" غالبا ذكورة في الأسرة والحزب والمجتمع والدولة. طبعا لم يكن باستطاعة هذه النظريات تنبؤ ما يحدث من سقوط الأنظمة السياسية البطركية القامعة اليوم، والتي هي سيرورات ثورية شعبية دون قيادة أو سلطة بطركية. ثورة عارمة لكنها غير منفلتة بل خاضعة للانضباط الذاتي لكل فرد مشارك فيها وجميعهم يسيرون نحو هدف واحد. الانضباط الذاتي قاد جماهير هذه الثورة نحو الهدف وكان هذا الانضباط أقوى من الضوابط الخارجية التي وضعتها الأنظمة السياسية على مدار عقود من الزمن. عجز النظرية البطركية عن تنبؤ وقوع هذه الثورات يحتم علينا مراجعة هذه النظرية.
من المبكر طبعا "تأبين" النظرية البطركية إذ أن السيرورات البطركية ما زالت فاعلة في مجتمعنا، لكن الجديد هو أن ندرك أنه بالإمكان وقوع سيرورات فردية أو جماعية ثورية تتحدى وتهدد المؤسسات البطركية. من شأن مثل هذا الإدراك أن يجعل السلطات البطركية تعيد حساباتها وبالتالي سلوكها من جهة، ويجعل الناس تتجرأ أكثر على تحقيق ذواتها الفردية والجماعية متحدية السلطة البطركية في الأسرة والمدرسة والعمل والحزب والدولة.
"الظروف القاهرة" أمام "الإرادة"
هناك نمط سائد لدى الناس يعزون فيه سبب معاناتهم لظروف قاهرة في البيت والمجتمع والدولة وهكذا يبقون في حالة عجز دون ممارسة سيادتهم على نفوسهم لاختيار الطريقة التي يريدون مواجهة هذه الظروف بواسطتها. هذا النمط من التفكير يستبعد دور الإرادة والإيمان بقدرات الفرد أو الناس في التغيير. إذا عدنا للثورات التونسية والمصرية والليبية نجدها تحركت ليس بفعل تغيير غير عادي في الظروف، إذ لم يقع أي حدث مؤسس للثورة التونسية وبعدها المصرية والليبية وغيرها. التغيير الأساسي الذي وقع هو تغيير في الوعي الذي شمل إيمان الناس بقدرتهم على التغيير وجرأتهم على تفعيل إرادتهم واستعدادهم لدفع ثمن هذا القرار. طبعا لا يمكن التغاضي عن تراكم أثر الاضطهاد والقمع على مدار عقود أو التغاضي عن تأثير نجاح الثورة التونسية على بقية الثورات، لكن الأثر التراكمي كان قائما قبل سنة وقبل عقد من السنين أو أكثر ومع هذا لم تقع الثورات حينها. دون التقليل من أهمية القمع المتراكم لا بد لنا أن ندرك أن هناك "أداة" أو طاقة، منسية عادة، اسمها "الإرادة" أو السيادة على الذات. أقول منسية، لأنها كانت قائمة قبل سنة وقبل سنين وكان بالإمكان تفعيلها وإحداث الثورة في وقت مبكر، إلا أن الشعب لم يكن يعي قوة إيمانه وإرادته.
حين نعود ونتذكر قوة هذه الإرادة أمام أي مأزق نواجهه في حياتنا الشخصية والاجتماعية والسياسية نستطيع عندها الاهتداء إلى بدائل مواجهة جديدة وفعالة لهذه الظروف التي اعتبرناها قاهرة. حالة العجز ليست حالة موضوعية بل ذاتية تتعلق بقراءتنا لواقعنا وبقراراتنا. حين يدرك معلمو المدرسة أنهم يملكون إرادة ويكونون جاهزين لتحمل نتائج قراراتهم ودفع الثمن فتتحول الظروف القاهرة التي يشكون منها إلى ظروف خاضعة لإرادتهم. حين يدرك مواطنو بلدة معينة أنهم يملكون إرادة ويكونوا مستعدين إلى دفع الثمن عندها يستطيعون تغيير واقع بدلتهم. وحين ندرك نحن المواطنون العرب في إسرائيل أننا أسياد أنفسنا ونملك إرادة ومستعدون إلى دفع ثمن قراراتنا عندها نستطيع قهر الواقع السياسي وتغييره.
ثورية "الأحزاب" أمام ثورية "الناس"
طالما اعتقدنا أن التغيير يحدث من خلال أحزاب ثورية تحشد الجماهير خلفها من أجل إحداث تغيير في النظام. وطالما انتظرنا تحرك الأحزاب ولم تتحرك وبقينا في امتعاضنا. هذه قناعة يجب إعادة النظر فيها على ضوء ما يحدث في العالم العربي. ليس أن أحزاب المعارضة في تونس ومصر لم تكن وراء التغيير بل كانت أحزابا إصلاحية وجزءًا من النظام السائد ولم ترتق إلى مستوى تطلعات الجماهير. كانت الأحزاب قيادة مذنبة للجماهير ولم تكن في الطليعة.
إذا نظرنا إلى دور الأحزاب العربية نراها أيضا لا ترتقي لمستوى تطلعات الناس. هي تسبق الناس في شعاراتها لكنها تتخلف وراءهم في فعلها. دون إلغاء دور الأحزاب، علينا أن نعيد النظر بالتعويل المفرط عليها وعدم انتظارها لتتحرك، بل نتيح لأنفسنا أفرادا وجماعات وجمعيات أن نتحرك في مختلف الدوائر المحلية والقطرية.
"المختلف عليه" أمام "المشترك المتفق عليه"
ما جعل الثورات العربية تنجح هو أن الناس غلّبت القضية العامة المشتركة، إسقاط النظام، على جميع الخلافات الفئوية والأيديولوجية والشخصية. في واقعنا العربي في إسرائيل تصرف طاقات هائلة على الاختلافات والخلافات بين الأحزاب وبين الفئات والطوائف كلها على حساب القضية المشتركة العامة. يجري استعمال الديمقراطية والحق بالتعبير في الأساس لمقارعة الآخر الأقرب بدل استعمال هذا الحيز للتحالف مع الطرف الأقرب من أجل القضايا المشتركة ومقارعة الآخر الأبعد.
على التيارات المتصارعة في العالم العربي أن تغلب القضية المشتركة فوق كل الخلافات والتمايزات وتنحية المصالح الحزبية والفئوية والشخصية جانبا.
"قوة السلاح" أمام "قوة الحق والأخلاق"
ما شاهدناه في تونس ومصر وليبيا هو انتصار لجمهور أعزل من السلاح لكنه مدجج بالحق والأخلاق والإصرار. لقد رأينا مثل هذه المعادلة في الانتفاضة الأولى أيضا. هناك ضرورة لدمج فكرة "قوة الحق والإصرار الفعال" ضمن منظومة تفكيرنا لكي ندرك أن المعركة لا تتطلب دائما مواجهة السلاح بالسلاح، بل أحيانا يمكن مواجهته باللا-سلاح والإصرار الإنساني الفعال على الحق والاستعداد إلى دفع الثمن. وفي كثير من الأحيان يكون هذا الأسلوب هو الأنجع في مقاومة السلاح. بل وأحيانا، في غياب توازن بين القوى العسكرية للفريقين، تكون مقاومة السلاح بالسلاح عملية تضر بالفريق الأضعف. إن ما شهدناه في الدول العربية يحتم علينا إعادة النظر بمفهوم "المقاومة". دون التقليل من أهمية ودور من يطلق على مشروعه مشروع المقاومة، علينا أن ندرك أن المقاومة غير المسلحة تكون أحيانا هي المقاومة الحقيقية المجدية.
"قضايا الخبز" أمام "قضايا الحريات"
بالرغم من الظروف الاقتصادية التي عانت منها الشعوب العربية نتيجة الأنظمة القامعة إلا أن المطلب الأساسي الذي طرحته الشعوب العربية هو مطلب الحرية: إسقاط النظام والمشاركة في اتخاذ القرار. لا أعتقد أن التغيير الثوري كان يمكن أن يحصل لو انحصر مطلب المتظاهرين بتحسين ظروفهم المعيشية. كذلك هذا أمر جديد يجب أن يدخل منظومة تفكيرنا. الحرية ليست فقط أداة لتحقيق المطالب المعيشية بل هي قيمة ومطلب أعلى لا يمكن للحياة الكريمة أن تتم بدونه.
إذا أدخل الأهل والمربين مفهوم الحرية إلى منظومة تفكيرهم عندها يدركون أن دورهم لا ينتهي بتوفير الحاجات المادية لأبنائهم أو لطلابهم بل يشمل توفير الحرية وتمكين الأبناء والطلاب من ممارسة سيادتهم على نفوسهم.
أخيرا، لا توجد إجابات بسيطة لمآزق الناس ولمواجهة الاضطهاد والقمع، لكن من المهم أن ندرك أن أمام كل مأزق أو اضطهاد هناك أكثر من بديل للمواجهة منها البدائل التي استخدمت حتى الآن ومنها بدائل أخرى استخدمت ونجحت مؤخرا في تونس ومصر وليبيا وغيرها. علينا أن ندرك أن التحرك الشعبي التلقائي دون قيادة بطركية ودون انتظار الأحزاب، وتفعيل الإرادة والسيادة على الذات، وإدراك قوة الحق والأخلاق، والتمسك بالحق والإصرار الفعال والاستعداد لدفع الثمن، وتغليب القضية المشتركة على القضايا المختلف عليها، كلها بدائل واردة وتكون فعالة في ظروف معينة كما رأيناها فعالة أسقطت أنظمة قمعية غاشمة.
نقلا عن الشبكة العربية للعلوم النفسية