تأزمت العلاقة بين رجل الأمن وبين المواطن في برّ مصر إلى حدّ أن واحداً من الناس قال أنه بمجرد رؤية رجل أمن في زيه الرسمي يخاف وينزعج، عكس ما يحدث في أوروبا مثلاً، رؤية رجل الأمن تبعث على الارتياح.
يُحكى أن رجل أمن آخر في زيه المدني، اقترب من مواطن دخل إلى دورة مياه ليقضى حاجته، وعند خروجه سمع حديثاً شَدَّه، لرجل دين يلقي درساً على مجموعة من الناس، أنخرط معهم وخرج بعد أربعين دقيقة عدّها عليه المخبر الواقف بباب بيت الله.
بعدها أخذه وعاين هويته ثم دفع به إلى ميكروباص (من إياهم)، وانتهى به الأمر إلى 48 ساعة قيد الاعتقال والتحقيق والسؤال عن إمام المسجد الذي في شارعهم (عرفه ضابط أمن الدولة من البطاقة)، كما سُئل لماذا لا يصلي وراءه، فأجاب لأنه يطيل في الخطبة، فطلب الشاب الذي قضى حاجته سيجارة من رجل الأمن ليطفئ بها شهوة احتمال أن يكون سلفياً! (حيلة أتبعها البعض ونجحت)، ولما تركوه لحال سبيله يسعى إلى رزقه طلبوا منه كالعادة أن يعمل معهم (متعاوناً)، (مخبراً)، (مُرشداً)، فوعد ورفض ونفذ بجلده، أما شابٌ آخر فلم يسلم من قبضتهم، عُذِّب بالصعق في مركز الذكورة لديه مما أدى إلى تقرحات لم يزل يُعالج منها حتى الآن.
يسرى حسان يقول أنه باعتباره من "ثوار روض الفرج" فلقد اتخذ قراراً بأن ينام سكان بولاق أبو العلا من العصر، لأن أصواتهم تزعجه ولا تدع له فرصة تدخين الشيشة في هدوء، بالطبع القصص لا تنتهي، ونفضل عدم الخوض فيها، فبعد الثورة انتابت الناس حالة عامة من القلق والشك والريبة وعدم الأمان، التخوين، والاضطهاد، والاكتئاب، والإحساس بالخوف من الآخر بشكل عام، وممن تحوم حولهم شبهات التعاون مع رجال الأمن، وتخف حدة المسألة قليلاً عندما يكون رجل الأمن في زيه الرسمي واضحاً جلياً دون لبْس أو تخفي.
قبل تخلّي حسنى مبارك عن السلطة وبعد انتصار الثورة، رأى البعض أنه كان من المفضل استمراره حتى سبتمبر، لكن جموع الناس رأت أن المسألة ليست في شخصه ولكن في نظامه، ذلك الذي سيشحذ همته أكثر ويتوغل في الدنيا والوطن أكثر، عزا الفريق الأول حالة شبه الفوضى وانتشار البلطجة والعنف (الذي كانت مسئولة عنه فلول النظام السابق)، إلى (الخلخلة) التي نجمت عن "طغيان الثورة" هذا النجاح الفائق لثورة سلمية، حدا ببعض الناس ثوار كانوا أم محكومين برغبة عارمة في التشفي وطلب (القصاص) العادل (ولنعذرهم)، ولكن انتقلت الحالة الثورية تلك إلى صيرورة وإصرار وتخوين للآخر، التشكيك فيه وعدم السماح لأي أحد (تعاون) أو (هادن) نظام مبارك، ولدّ هذا زملة أعراض قريبة جداً من الحالة الاضطهادية، خاصة بين رجال الأمن وبين الناس اللذين يحتاجونهم لحمايتهم من البلطجية لأن تلك هي وظيفتهم، وهنا نحن لا نُشخص شعباً أو طائفة ولكننا نرصد حالة، مزيج من اكتئاب ما بعد الثورة، انحسار الحماسة وانطفاء الوهج والقعدة على الكنبة بدلاً من الوقوف ليل نهار في ميدان التحرير وغيره.
الخوف كل الخوف أن يتحول الناس، خاصة في تجمعاتهم، ندواتهم، اعتصاماتهم، مطالبهم الفئوية وغير الفئوية، إلى شكل متبادل من القلق من الآخر في أخف تعبيراته، وإلى الرعب والهذيان منه في أسوأ حالاته مما يشكل جسماً ضلالياً، يستمر ويُصبح سمْتاً للشخصية المصرية في تحولها بعد الثورة.
هناك حركة ومنظومة، ناس ترشح للرئاسة من باب الدعابة ومن باب الشهرة، وناس جادّة، وهناك دستور متهم بمحاولات ترقيعه وهناك جدول زمني وخوف من انتخابات رئاسية قبل البرلمانية حتي لا يخلق ديكتاتور جديد بحسب وصف أحد أعضاء المجلس الأعلى، وهناك مطالبة بدستور جديد وأعتقد أن لنا الحق كل الحق في هذا، وهناك مجلس وزراء جديد، وتشكيل جديد لوزارة الداخلية، وهناك القوات المسلحة بأعبائها الجديدة التي فرضت عليها، وهناك الإعلام الذي غصباً عنه، وجهلاً منه، وعمداً أحياناً يدُسّ السم في العسل، تثير الفزع، كل هذا مع إعادة تشكيل المؤسسات الصحفية، يعني إعادة رسم صورة البلد من بطنها وقلبها وفكرها وكيانها ووجدانها وما قد يصاحب ذلك من إنكار وإهمال وتعنت ومرونة تصل إلى حد التساهل أحياناً، والخوف من غضبة الناس، والخوف من العمل خشية ارتكاب الخطأ والخوف من التعود علي ممارسة كانت عادية في ظل نظام مبارك (همس أحدهم في خبث، الشرطة لم تكن تريد العودة لأنها كانت تود أن تعود في شكلها السابق باشوات يتحكمون في مجموع البشر).
إذن يتطور الناس، والوطن، الحكم، الحكومة، الجيش، الأسرة، البيوت، رجال الدين، وتظل كل ذلك احتمالات الصدام بين أصحاب رؤى مختلفة قد تنسف كيان الأمة إذا لم نتوخى الحكمة والحذر.
إن طبيعة المجتمع المصري بعد الثورة اختلفت فلقد زادت نشاطاته واختلفت داخل وخارج البيت، بمعنى أنه أصبح مشغولاً بالشأن العام (الاهتمام بنظافة العمارة، الحفاظ على أمن الحيّ، العمل الجماعي في تحسين صورة وشكل الشارع، محاولة تغيير الأخلاقيات والسلوكيات واختيار الألفاظ، فن الإنصات والتجمهر والقدرة على الاعتذار، بمعنى أن نوعاً من التكامل خلقته روح ميدان التحرير، خلق في مواجهته شكلاً من النفور من (رجال الأمن) أعضاء الحزب الوطني، أي رمز فاسد...)، وقد يزيد هذا من عزله أصحاب الرأي المختلف عن الكثرة التي ليست بالضرورة أن تكون صائبة المعني، هنا تتم بشكل أو بأخر عملية افتقار إلى المعني وإلى الحياة في ظل الخوف من إبداء الرأي الآخر أو الإفصاح عن المهنة (لا أتخيل أن ضابط أمن دولة في شكله الجديد أو المخبر أو معاون مباحث سيتمكن من الإفصاح عن هويته حتى وسط أهله وجيرانه، على الأقل في المستقبل القريب).
أرى أن المصري الذي رفع رأسه يجب أن يستوعب الحدث والتغيير، ولكنه يبدو في كثير من الأحوال (مُستغرب) مما يحدث (غير مصدق) وتبزغ هنا مشكلة كبيرة ألا وهي أنه لا مسلمات ولا حقائق مجردة سوى ما هو واضح وصريح، ولا ينبغي للفاسدين أن يشتروا العفو والرضا بإرجاع ما سرقوه ونهبوه.
تاج إلى مراجعات، نحتاج إلى التفكير قبل الحكم على الأشخاص، التأني قبل وصم موقف أو شخص الحرص قبل إقصاء أو استبعاد جماعة.
واقرأ أيضاً:
ثورة 25 يناير ومكامن الخطر/ الفاسدون وراثة أم تربية؟/ علاج الاستبداد/ دروس الانتصار/ كنت في التحرير.. لستُ أمّك!!/ صحيح مبارك كان كابوس وانزاح/ ملفات أمن الدولة وتوثيق الذكريات