طبيعي في خضم أية ثورة أن ينقسم المجتمع إلى ثوريين يسعون إلى التغيير هدما للقديم، وبناءا للجديد، ومحافظين يرضون بالحد الأدنى من تحقيق المطالب، حفاظا على الاستقرار كما يرونه، وبناءا على التفاعل والتفاوض والتكامل والتدافع بين هؤلاء وأولئك، بل والإنصات والتنسيق بين الصوت المحافظ والثوري بداخل كل إنسان، تسير عملية التغيير والتحول متنامية ومتوازنة في المجتمعات التي تشهد ثورة.
تأملوا معي في خريطة ثورة مصر، وحاولوا تمييز الثوري والمحافظ، ستجدون فئة عريضة جدا من الناس مش فاهمة حاجة لسه، وبالتالي "واخدين جنب"، وكأن ما حصل لا يعنيهم، أو هم يكتفون بالفرجة عليه من بعيد لبعيد، وأعراض الفرجة من القلق الشديد والتوتر، والخوف، واليأس، والتشاؤم بشأن المستقبل، وبالتالي الاستعداد الدائم لنشر الفزع والفزاعات، والشائعات، وهذا الجمهور العريض هو محافظ بامتياز، فإذا أضفنا له المؤسسة العسكرية التي هي محافظة أيضا بحكم التكوين والمهام الدائمة، والجهاز البيروقراطي الحكومي المضغوط جدا حاليا تحت تأثير وهدير المظاهرات الفئوية، وكذلك كتلة كبيرة جدا هي أغلبية جماعة الإخوان المسلمين، وأصحاب التوجهات السلفية، والخط الرسمي للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، هؤلاء جميعا.. ليسوا أعداءا للثورة بقدر ما هم محافظون ومتحفظون بشأن المزيد من التغيير السريع، وبشأن إعادة تشكيل مواقفهم وطريقة أدائهم وتعاطيهم مع القضايا.
في صف الثوريين سنجد كتلا كبيرة أيضا بعضهم ينشط في خطوط عمل وإنتاج واضحة، وأغلبهم يبدو مرتبكا، والبعض الآخر، يبدو مذبذبا بين الحماس غير المنظم، وغير الفاعل للثورة، وبين الدخول في معارك جانبية بعضها حقيقي، ربما ليس وقته الآن، وبعضها مصطنع، الكتل شديدة الحماس للثورة، وبخاصة من الشباب، تشعر بالتوتر الشديد وهي ترى التباطؤ في تنفيذ المطالب، والتلكؤ في حسم ملفات عاجلة وخطيرة، مع استمرار وجود بقايا النظام القديم في مواقع كثيرة جدا متنفذة، دون ملاحقة، ولا محاسبة، ولا حتى تهديد بالمحاكمة، وبقية المشهد تحتله تلك المخالب المتمكنة القابضة الملفوفة في قفاز من الحرير، في محاولات دؤوبة لإجهاض الثورة، ولو بتمرير الوقت، وتفريق الناس، أو شغلهم بقضايا خلافية، وأنواع من الفتن الطائفية أو السياسية، والتحريض بين فئات الشعب، ولا مانع من ترويعه بطرق مختلفة، لأن الخائفين هم الوقود الأهم لأية ثورة مضادة، ومناخ الخوف هو الأفضل والأمتع لكل مستبد وظالم.
وتضغط الجماهير المتحمسة للثورة عبر الحشود، وعبر تكرار المطالب والمطالبة، منتظرة من الأطراف غير الثورية، وبعضها معادٍ للثورة، تنتظر منها التنفيذ!!! أي أنها تطلب من المحافظين بحكم التكوين، أو بحكم الوظيفة أن يقوموا بالواجبات الثورية، وتحقيق المطالب والمهام الثورية!!! وهذا عجيب للغاية، ونتائجه واضحة لكل مراقب.
الأجهزة المحافظة والفاسدة ستظل قدرتها على الاستجابة وإنجاز الأهداف الثورية محدودة للغاية، وأحيانا ستبدو مناهضة، والحل أن ننتقل من المناشدة والمطالبة، إلى مستويات أكثر فاعلية وتركيبا، تنقل الثورة من الكلام إلى الفعل المباشر، والتنفيذ العملي.
هذا هو عمل جماعات الضغط والمراقبة وتطوير الأداء الشعبي، وتنسيق الجهود والإرادة الثورية لجماهير عريضة، وهو عمل يشبه العمل النقابي، والعمل التكويني الجماعي، المسمى بالعمل المدني، وهو مختلف عن تأسيس الأحزاب، ومختلف عن العمل ضمن كيانات طائفية، أو طبقية، أو فئوية، إنه تنظيم جهود الناس المتحمسين ليفعلوا.
من الملفت أنه حتى الكيانات التي لعبت دورا مجيدا بوصفها جماعات ضغط غير حزبية مثل: 6 أبريل، وكلنا خالد سعيد، لم تكمل المسيرة في ممارسة أدوارها كجماعات ضغط، وأدوات تنظيم للإرادة والصفوف الثورية، وتبدو وكأنها تبحث لها عن دور، في مجتمع ما بعد الثورة.. بل إن فكرة تحويل الزخم الثوري إلى فعل سياسي حزبي هو اقتراب محافظ جدا بامتياز.
وأتلفت حولي لأتسمع وأتتبع فقهاء العمل المدني وأساطينه، فلا أكاد أسمع لهم صوتا، رغم أن اللحظة هي وقتهم بامتياز، والدور عليهم، والمسئولية هي الآن تتمثل في كيفية تدريب المتحمسين لأداء وتحقيق المهام الثورية على طريقة المجتمع المدني، وليس فقط بالضغط على حكومة منهكة، بجهاز بيروقراطي منهار، أو انتظار حراك ثوري من عسكر محافظين لا علاقة لهم بالسياسة، مع تأكيدي على أهمية استمرار الضغط الشعبي، والاحتشاد الجماهيري لوقف التجاوزات على الأقل، قبل تحقيق الإنجازات التي أراها مرهونة بتنشيط الغدد والهياكل والأفكار التنظيمية على طريقة المجتمع المدني، تلك الطريقة التي قد تبدو غائمة، أو غامضة لمن لا يعرفها جيدا، لكن سؤالي يظل معلقا: أين الذين يجيدونها؟؟
ملفات التحول لن تنجزها إلا الأطراف والقوى والإرادة الثورية المتهيكلة حول الوعي والتنظيم والتدريب والتشبيك والتواصل مع الأجهزة الحكومية أحيانا مراقبة ودعما، وإعادة تشكيل، ومع جهود المجتمع المدني العالمي، وبخاصة مع أصحاب الخبرات السابقة في إدارة ملفات التحول في بلدان مثل أوربا الشرقية، وأمريكا اللاتينية، وغيرها لا الاكتفاء بتأكيد الثقة في المجلس العسكري، وحكومة شرف، ولا مجرد الاكتفاء بالضغط عليهما سينجز المهام الثورية، واستهلاك الطاقة الثورية في مناهضة محاولات الالتفاف، ونقد القوى المحافظة على طريقة.. إطفاء حريق هنا، أو حل مشكلة هناك.. هذا المنوال ليس الأفضل في إدارة الطاقة الثورية، ولا الإرادة الشعبية، لكن يلزم رسم الخرائط، وتحديد الملفات، وتوزيع وتنسيق الأعمال الجماعية، ليتحول الارتباك الغالب على المشهد إلى إنجاز بشأن التحول والتغيير، الهدم والبناء.
طبيعي أن تحدث عمليات مد وجزر ثوري، ولكن الغموض والتشرذم، وزخم الملاسنات والشتائم المتبادلة، والحوارات غير الموجهة، هذا وغيره يمكن أن ينتج ضجيجا ثوريا، لكنه بلا كثير طحن، والله أعلم
7/4/2011
واقرأ أيضاً:
تنظيف مصر من آثار الفرعون بالمقشات/ قلق ما بعد الثورة/ خطورة الشائعات (أقوى أسلحة الحرب النفسية)/ أخطر ما في الثورة المضادة... هو الترويج لها/ الثورة تضرب على قفاها/ تشكيل قيادة موحدة للثورة.... ضرورة ملحة لتفادي الإجهاض/ الثورة في مصر وأبعادها النفسية/ دروس في الحرب النفسية/ كيف تخلص المصريون من الخوف من الحميمية/ ثقافة الخوف والصحوة/ سيكولوجية المنافـق، الضلالي.. والبلطجي/ عيب يا شعب/ إطلالة نفسية على الثورة المصرية/ أسئلة ووصايا إلى الشبان والصبايا 3 من 3/ هل ألقى عمر سليمان خطابه تحت تهديد السلاح؟/ ثورة 25 يناير ومكامن الخطر/ الفاسدون وراثة أم تربية؟/ علاج الاستبداد/ دروس الانتصار/ كنت في التحرير.. لستُ أمّك!/ صحيح مبارك كان كابوس وانزاح/ سيكولوجية الأمن في جمهورية الخوف (مصر ـ سابقاً)/ المستقبل الدستوري لصاحب السيادة/ ثورة 25 يناير وعرس الاستفتاء/ حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء/ باستيل مصر/ منظومة الحرية / الرؤية المستقبلية لمصر/ لا.... للإحباط/ سلوك الحشد/ منظومة الاستبداد (2)/ حكاوي القهاوي (47)/ كشف الطيش.. في مسألة الجيش/ المرشحون للرئاسة بين الكاريزما والضمير2/ ديمقراطية كى جي ون (2 من 3)/ قنا: البحث عن.. جملة مفيدة/ أهم من الاستفتاء، وأخطر من ثورة مضادة.