يشغلني الشأن العام هذه الأيام عن الكتابة في الموضوعات النفسية، وإن كنت أكتب دائما متأثرا بما تعلمته وأمارسه من زهاء العقدين، كطبيب نفساني، ولكنني اليوم أكتب بناءا على حوار جرى مؤخرا مع صديقي "وائل خليل" الذي أعاد لبؤرة تركيزي فكرة خطرت لي منذ أسابيع، عن الذين هاصوا ثم لاصوا، أو ما أسميته في حينه: "متلازمة الارتباك الثوري"، وهي أعراض أراها شائعة من حولي، وأراها واردة جدا، ومتوقعة على خلفية ثورة مفاجئة، وتغييرات ضخمة، ومشاعر جارفة، وتفاعلات سريعة ومتنوعة، وطوفان من المعلومات يعجز أي عقل عن اسنيعابه فضلا عن تشغيله، وتحليله، واستخلاص عبره ودروسه............ يحصل لمن يعيشون في هذه الظروف نوع من التحميل الشعوري الزائد .. سينسوري أوفر لود .. مما ينتج ضغطا عصبيا نرى تجلياته بشكل متعدد المستويات، كما يمكن رصد أعراض متلازمة استكهولم لدى البعض، وأعراض الضغط النفسي التالي للكرب لدى آخرين، بوست تروماتيك ستريس ديس أوردر
التغيير الكبير الذي حصل في أوضاع كانت راكدة جامدة،و في حالة كانت أقرب للموت منها للحياة،هذا التغيير يأتي مصحوبا بخوف من المجهول،و قلق الإنتقال والتحول، وهي مشاعر تتصاعد مع شيوع مناخ (الخضة) الناتجة على خلفية إكتشاف وجود فئات وأفكار وممارسات مختلفة تماما عما يعتقد بعضنا صوابه، فما هو مفروغ منه لدى البعض، هو ليس سوى مصدر إزعاج شديد لدى أخرين، ورعب هذه الاكتشافات المتبادلة يأتي بعد عقود طويلة من العزلة الاجتماعية المفروضة والاختيارية، ويفزع الخائفون إلى الحشد والتكتل على أسس الاستقواء القديمة، مما يكرس ويستعيد مناخات الرعب والتخويف و التخوين، والاستقطابات الطائفية، ومنطق من ليس معنا فهو ضدنا، وتقاليد حركة .. الجماهير الغفيرة، واستمرار الاستسهال في فهم وتحليل وإدراك المسائل المركبة، والكسل عن صياغة الأفكار والمواقف الناضجة من الأطراف المتفاعلة، والأحداث المتلاحقة، وبدلا من رسم الخرائط الهادية، وإدارة الحوارات الهادئة، للوصول إلى حلول توافقية مركبة للمشكلات المزمنة والمتراكمة، يفزع الناس إلى إقامة كيانات حمائية .. أحزاب غالبا، للتغلب على الشعور بالضعف، والاستضعاف الناتج عما سبق، وشرحناه توا
الثورة التي جاءت من لاوعي صانعيها، وأكبر من طاقتهم، وقدراتهم على الاستيعاب والتخطيط، وإدارة الموارد، وأكبر من قدرات مجتمع أنهكه الاستبداد، وتصدمه الأن رياح الحرية، وصرخات الأصوات المتعارضة، وهو لم يتعود غير على صوت الواحد، أو صوتين ودمتم
لم يكن لدى الأغلبية أية دوافع -تحت حكم الاستبداد- تحثهم على الخروج من قواقعهم الصلبة المريحة للتعرف على غيرهم من المختلفين معهم، أو الإنصات لأصوات متنوعة، في مصر المبدعة في تنوعها، الأمر الذي صار مرعبا حين سقطت الحواجز والجدران الشعورية بين الناس في مصر
فجأة .. خرجنا من القبور الخانقة المعتمة .. إلى النور .. ومهب رياح تأتينا من كل حدب وصوب
فجأة سبحنا خارج المستنقع الأسن وطحالبه وعفنه، إلى حيث الأمواج العالية، والدوامات الكبيرة، والمد والجزر، والحيتان، وأسماك القرش
فجأة صارت البلد بلدنا، لكل واحد منا رأي محترم، وصوت مسموع، وإرادة نافذة، وإسهام في تشكيل القرار النهائي العام المتعلق بمستقبل أمة، وحياة شعب، ويا لها من مفاجآت سارة، ومسئوليات ثقيلة ومربكة، وبخاصة على من تعود أن ينقاد، ولا يقود، وتقرر له شئونه الخاصة والعامة، فيرضخ أو يتململ
وأعراض الارتباك تبدو في حاجة إلى مزيد اكتشاف، لكن تتواتر شواهد وشهادات على شيوع العجلة وضيق الصدر، وقلق يتحول إلى عنف ضد المنشأت والأفراد، هناك حالة من الرعونة والخفة والانفعالية الزائدة في التعامل مع المستجدات، وبناء ردود الأفعال
هناك توقعات مرتفعة جدا، لا تتناسب مع إيقاع البناء، ولا مع حجم الجهود المبذولة فيه حكوميا وشعبيا، وهناك عجز واضح عن الانطلاق من قيم ومعايير جديدة، وأخلاقيات أكثر إيجابية وفاعلية، وهناك لخبطة كبيرة في احتمال مناخ الحرية وتبعاتها، والتصرف بموجبها
لم تتشكل بعد كيانات فاعلة حاملة لقيم الثورة، ومجسدة لأفكارها وأهدافها، وخيالها، ومشاعرها ونموذجها المثالي الرائع والملهم ... الذي تجلى في ميدان التحرير
ومازال الإعلام على قديمه من حيث غياب الاحترافية، والتسابق على الإثارة، ولو على حساب التدقيق و التوثيق، وما ينفع الناس، ولا أحد يراقب الإعلام ولا يحاسبه
نحن قادمون من ماض شديد البؤس والتشظي والركود، والتشوهات النفسية المركبة، والتفكك الاجتماعي، والانحطاط الثقافي والفكري، ونحتاج فورا إلى بدء جهد كبير ودؤوب ومنظم، وبذل جماعي في مناخ أقل توترا، وأهدأ، وأعمق روحيا .. حتى نستطيع الإنصات لأصوات ضمائرنا، ولبعضنا البعض دون تشنج، وفي ثقة أن الشعب الذي أذهل العالم قادر على أن يجدد حياته، ويتجاوز ماضيه بجهده، وبتوفيق الله الذي نصره
واقرأ أيضاً:
هنا والآن.. الثورة تكون إزاي؟؟ / كشف الطيش.. في مسألة الجيش / أهم من الاستفتاء، وأخطر من ثورة مضادة