من القوانين الحاكمة للتاريخ الإنساني، هو أن الدول والأنظمة والإمبراطوريات كثيراً ما تلجأ إلى مواجهة أزماتها الداخلية المتفاقمة بالهروب إلى الخارج، ولم يكن الثائر البلشفي الكبير (لينين) بعيداً عن هذه القوانين حين رأى أن الاستعمار هو أعلى مراحل الرأسمالية، وأن الاحتكارات المستغِّلة (بكسر الغين) في بلادها كثيراً ما تلجأ إلى نهب ثروات الشعوب الأخرى لتُعطي الفتات إلى الطبقات المستغَّلة (بفتح الغين) فتُخمد ثوراتها وتُطفئ تمردها.
وفي عصرنا الحديث، وحين ظّن كثيرون أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إلى ذروة نفوذها وقوتها وهيمنتها في العالم مع نهايات القرن الماضي، وبدايات القرن الجديد، كان أهل الثروة والسلطة في واشنطن ونيويورك يُدركون قبل غيرهم حجم الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تتربص ببلادهم بعد أن ضاقت إمكانات اقتصادهم عن تحمّل مستوى معيشة مجتمعاتهم لا سيّما في ظل نهب لا يمكن وصفه من قِبل تحالف السلطة والفساد والاحتكارات.
ظّن "عباقرة" الإمبراطورية الأمريكية المتنامية القوة والقدرة، لا سيّما بعد سقوط القطب السوفيتي المنافس، أن حلّ هذه الأزمـة يتم بالخروج عسـكرياً إلى العالم، ولو بأسـاليب الاسـتعمار القديم؛ فتحت ستار مكافحة "الإرهاب" شُنت غزوات مماثلة لحروب الاستعمار القديم، فكانت حروب مباشرة على أفغانستان والعراق، وحروب صهيونية بالواسطة على لبنان وفلسطين، وحروب سياسية واقتصادية وإعلامية وأمنية متنوعة على سوريا وإيران والسودان وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا ودول عديدة أخرى.
ولكن هذه الحروب لم تُحقق أهدافها، بل تحوّلت هي الأخرى إلى أعباء إضافية على بنية اقتصادية ومالية مترهلة أساساً، واتضح أن التوسع العسكري المطلوب لن تستطيع القدرات الإستراتيجية الأمريكية على تحمل تكاليفه العسكرية والسياسية والبشرية والاقتصادية، إلى درجة أن الكونغرس الأمريكي ـ يا للمفارقـة المخزيـة والمضحكـة ـ بدأ يُطالب العراقيين بالتعويض على الولايات المتحدة ودفع تكاليف غزوها لبلدهم واحتلالها للعراق منذ 8 سـنوات، بعد أن كانت واشـنطن قد أمطرت الشـعب العراقي وعوداً بالرفاه والأعمار والازدهار. لم تكن تقل كذباً عن وعودها لأبناء الرافدين بالحريـة والديمقراطية أو عن تلك الأسـباب التي تذرعت بها لشـن الحرب.
اليوم يبدو أن أوروبا، لا سيّما بقطبيها الفرنسي والبريطاني، تعيش الظرف نفسه الذي عاشته الولايات المتحدة، وتُحاول أن تلعب الدور ذاته، بل أن تستكمل ما فشلت الإدارة الأمريكية في إنجازه، ووفق توزيع أدوار مكشوفة، تحت مظلة الحلف الأطلسي مرّة أو عبر إنشاء تحالف دولي من خارج المنظومة الدولية مرة ثانية بعد أن أبدى الروس والصينيون والهنود والبرازيليون والجنوب أفريقيون ولبنان صلابة في وجه مشاريع قراراتهم في مجلس الأمن.
فالإتحاد الأوروبي الذي لا يستبعد المحللون الإستراتيجيون في الاقتصاد والسياسة، وفي المقدمة منهم الصديق الدكتور زياد الحافظ الخبير بالشؤون الاقتصادية الدولية، أن ينفجر من داخله نتيجة الهوّة المتباعدة بين رغبته في التوسع جغرافياً وبين قدرته على مواجهة كلفة ذلك التوسع اقتصادياً.
فالدول الأوروبية الأربع من الصف الثاني في أوروبا والتي يُطلق عليها اسم PIGS (أي الخنازير)، نسبة إلى الأحرف الأولى من أسمائها (البرتغال، ايرلندا، اليونان، وأسبانيا)، تُعاني من أزمات اقتصادية ضخمة، بعضها متفجر في الوقت الحاضر (اليونان والبرتغال)، وبعضها ينتظر الانفجار (كأسبانيا وايرلندا وصولاً إلى إيطاليا)، ناهيك عن أزمات دول أوروبا الشرقية التي لم يستطع الإتحاد الأوروبي الكبير أن يستوعب حاجاتها.
هذه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتجولة في بلدان أوروبا، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، والواردة من خلف الأطلسي والمتجهة إليه، تُشّدد الخناق على هذه المنظومة القارّية وتضعها أمام حلّين لا ثالث لهما: إما الغرق في رمال أزمتها الاقتصاديـة والاجتماعيـة المتحركـة، وإما الهروب إلى الخارج علّها تجد حلولاً لهذه الأزمات على حسـاب أمم وشـعوب أخرى.
ويبدو أن باريس ومعها لندن، ومن يلحق بهما، فضّلا اللجوء إلى الحل الثاني حتى الآن، وإن كانت برلين ، وربما عواصم أوروبية أخرى، لم تُشاركهما تماماً الاندفاع ذاته وأن بقيت تراعيهما آخذاً بعين الاعتبار ترابط المصالح والمصائر بين هذه الدول جمعاء.
كانت الخطوة الأوروبية الأولى في الطريق الوعرة هي الانزلاق إلى تدخل عسكري فظ في ليبيا باسم حماية المدنيين، فإذا بطائرات "الناتو" ترتكب المجازر بحق المدنيين الليبيين بحجة مطاردة كتائب القذافي، وبحق المعارضين الليبيين أنفسهم بذريعة "أخطاء غير مقصودة"، دون أن تستطيع إخفاء الخطة المقصودة "للناتو" في ليبيا، وهي إدامـة الصراع والحرب في البلد العربي العزيز بهدف ابتزاز طرفيّ الصراع، ونهب بلد نفطي، وتدمير بناه التحتيـة والفوقيـة، ليُصار إلى إعادة إعماره من قِبل شـركات أوروبيـة على غِرار ما فعل الأمريكيون في الكويت بعد 1991، وفي العراق بعد 2003...!!!
أما الخطوة الثانية فكانت تصعيد كل أشكال الضغط على سوريا، تمهيداً لحصار اقتصادي خبره السوريون طويلاً، ولتدخلٍ عسكري أجنبي إذا أمكن ذلك، وسط ضجيج إعلامي لافت فقدت فيه وسائل إعلام أوروبية الكثير من مصداقيتها وهيمنتها وموضوعيتها. ولعل في فضيحة القناة 24 الفرنسية مع سفيرة سوريا في باريس د. لميا شكور أبلغ دليل على الانحطاط الإعلامي الذي وصلت إليه بعض وسائل الإعلام الأوروبية!
ويبدو أن باريس لم تكتفِ بما تُمارسه من ضغوط متنوعة على سوريا، بل أخذت على عاتقها مهمة تذليل الاعتراض الروسي على الاقتراح الفرنسي ـ البريطاني ضد سوريا في مجلس الأمن، واستخدام الورقة الاقتصادية "والغازية" (صادرت الغاز الروسي إلى أوروبا) التي تملكها في هذا الصدد.
ومن المفارقات هنا أن فرنسا التي طالما وقفت ضد دخول تركيا إلى الإتحاد الأوروبي تسعى اليوم بكل الوسائل إلى توريط تركيا في تدخل سياسي وعسكري وإعلامي ضد سوريا؛ فتقوم بواجبها في خدمة الغرب وتحرم من "حقوقها" بالانضمام إلى صفوفه. ففرنسا تريد استخدام الأتراك في حربها ضد سوريا، كما استخدمت سابقاً السنغاليين في قمع السوريين واللبنانيين وقد كانوا جميعاً خاضعين للاستعمار الفرنسي.
ويبدو أن لبنان لن يكون بعيداً عن هذه "التطلعات" الأوروبية التي تعتبر نفسها "تطلعات شعوب المنطقة"، فالاملاءات التي خرجت بها سفيرة الإتحاد الأوروبي (انجلينا انجهورست) من اجتماعها مع رئيس الحكومة الأستاذ نجيب ميقاتي، ووزير الخارجية الدكتور عدنان منصور، تذكرنا بإملاءات سابقة كانت تُتحفنا بها الإدارة الأمريكية عبر مبعوثيها وسفرائها إلى المنطقة بما في ذلك إملاءات (فيلتمان) الأخيرة المتجولة بين تونس وبنغازي وصنعاء والقاهرة وبيروت.
ولم يكن ينقص سفيرة الإتحاد الأوروبي سوى المطالبة بانضمامها إلى لجنة صياغة البيان الوزاري لكي لا يخرج هذا البيان عن تلك الإملاءات التي تسعى إلى "ربط التعاون السياسي الأوثق بالتكامل الاقتصادي الأوثق" كما تقول السفيرة نفسها.
صحيح أن هذه السياسة الأوروبية المكشوفة في ليبيا وسوريا ولبنان وصولاً إلى الأقطار العربية الأخرى، لا سيّما التي تشهد تحولات هامة، لن يكون أفضل حالاً من مصير السياسات الأمريكية والأوروبية السابقة، وما يعود منها إلى مرحلة الاستعمار، والى مرحلة ما بعد الاستعمار، وصولاً إلى مرحلة ما بعد ما بعد الاستعمار.
ولكن السرعة التي تُحدد سقوط هذه السياسة مرهونة بحركة القوى الحية في الأمة والعالم وتُنبه أبناء الأمة العربية، لا سيّما بعض النُخب الثقافية العربية، كي لا يقعوا من جديد ضحايا المنظومات الفكرية والإعلامية والسياسية الغربية فيتجاهلون مخاطر التدخلات الخارجية، التي وإن استغلت ثغرات وممارسات وخللاً في بنانا وعلاقاتنا الداخلية، وإنها استفادت من رغبة شعبية عارمة بالتغيير، ومن رفض متعاظم لسفك الدماء البريئة، إلا إنها تبقى ـ أي التدخلات الخارجيـة ـ خطراً دائماً وموجوداً قبل هذه الأنظمـة، وسـيسـتمر بعدها، ما دامت هناك أزمات كبرى في الغرب يسـعون إلى حلها على حسـابنا ونزعات استعمارية تسـتفيق لدى البعض بين الفينـة والأخرى...!!!
فهل يتعلم الأوروبيون دروساً تعلمها الأمريكيون في العراق وأفغانستان، وهل يتعلم النظام الرسمي العربي الدروس من أخطاء وخطايا وقع بها في الحروب على العراق ولبنان وفلسطين وصولاً إلى ليبيا حين شكل غطاءً للعدوان الخارجي.
وإذا كنّا اليوم في لبنان وسوريا متنبهين منذ البدء لهذا المخطط، فإن المعارضين في ليبيا بدءو يكتشفون ألاعيب الأطلسي وأحابيله في بلادهم وهم مدعوون ـ اليوم قبل الغد ـ إلى الدعوة إلى إنهاء فوري لمهمة (الناتو) في بلادهم وإلى سحب الغطاء الليبي والعربي عنه، وإلى السعي لصيغة سياسية تُنهي مبررات تدخل (الناتو) الدموي في ليبيا، بل صيغة يُقرّر من خلالها الليبيون وحدهم مصيرهم.
23/6/2011