يسألني مرضاي الطيبون كثيرا وأنا أكتب روشتة العلاج: هل للدواء الموصوف أعراض جانبية؟، فأجيب: بالطبع نعم، إذ لا يوجد دواء فعّال ونافع دون أن يكون له بعض الأعراض الجانبية والتي على المريض أن يتحملها حتى يشفى من علته، والأمر يقاس في الطب بنسبية النفع والضرر. وللأسف الشديد فإن كثير من الأدوية تظهر أعراضها الجانبية مبكرا في الأيام الأولى لتعاطيها بينما لا يظهر الأثر العلاجي إلا بعد أيام أو أسابيع، وهنا نرى كثير من المرضى "المستعجلين" يتوقفون عن تعاطي الدواء بمجرد شعورهم بأعراضه الجانبية وربما يتصلون بالطبيب في حالة غضب لأنهم ذهبوا إليه ليستريحوا من المرض لا ليأخذوا دواءً يزيد من متاعبهم، ويرد الطبيب بأن هذه مرحلة لابد وأن نتحملها في طريق العلاج حتى نصل إلى الشفاء. والنتيجة الواقعية هي أن بعض المرضى يتحملون ويثابرون وبعضهم الآخر يترددون ويتراجعون.
هذا هو ما نعيشه في مصر الآن، فنحن لم نجن بعد مكاسب الثورة إلا في مساحات بسيطة مثل حرية التعبير، وحرية تكوين الأحزاب، وحرية التظاهر والاعتصام، ولكننا لم نبن بعد مؤسسات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية جديدة تقوم على فكر الثورة وفلسفتها وتوجهاتها، كما أن الجرح المزمن الذي استمر لسنوات طويلة في جسد مصر مازال مملوءا بالصديد، وميكروبات وفيروسات النظام البائد مازالت تسرح في الجسد بلا كلل وتنتظر اللحظة التي تضعف فيها المناعة للانقضاض مرة أخرى.
وإذا كان الثوار ومؤيدوهم قادرون على تحمل الأعراض الجانبية للثورة ويعرفون أنها جزء حتمي في كل الثورات وهم قادرون على استشراف المستقبل الذي يحمل في طياته ثمرات التغيير الثوري، إلا أن عموم الناس قد لا يستطيعون تحمل تلك الأعراض الجانبية فهم في حالة خوف وجزع وقلة صبر، وهم يستعجلون النتائج، ويتشككون في المستقبل، بل وربما يتحسرون على الماضي بكل ما فيه من فساد وفقر ومرض وقمع وقهر. ويزيد الأمر خطورة أن المناهضين للثورة يلعبون على هذا الوتر ويستثيرون غضب الغالبية الصامتة ضد الثورة، ويستشهدون على فشلها بتضخيم أعراضها الجانبية مثل غياب الأمن (مع أنه غائب من قبل الثورة) والبلطجة (مع أنها نشأت وترعرعت في أحضان النظام السابق) وتأزم الوضع الاقتصادي (مع أنه متأزم من سنوات طوال) وزيادة وتيرة العنف المجتمعي (مع أنه لم يختلف قبل الثورة عن بعدها)، وانفلات الشارع، وكثرة المظاهرات والاعتصامات، وارتفاع حدة الخطاب الشعبي، وكثرة المنازعات الحزبية والطائفية.
وهنا مكمن الخطر في أن ينجح المناهضون للثورة في استثارة مشاعر الغالبية الصامتة ضد الثورة فتبدأ هذه الغالبية بالارتداد على الثورة ورفض الثوار ومبادئهم والتضحية بكل ما حدث ثم الرغبة بالعودة للقديم على قاعدة "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش" و"من فات قديمه تاه" و"القديمة تحلا ولو كانت وحله"، خاصة أن الشعب المصري بتركيبته يخاف من التغيير ويخاف من الجديد ويخاف من المجهول ويعشق الاستقرار، ولهذا عبر أحد هؤلاء الخائفين بقوله: "كنا أيام مبارك ما نعرفش إيه اللي هايحصل بكره... والأيام دي بقينا خايفين من بكره". تلك هي الحالة النفسية لمن لا يتحملون مغامرة التغيير ومخاطرة التطور.
والصورة ليست كلها كذلك ففئة الشباب والثوار منهم بشكل خاص لهم تركيبة نفسية مختلفة فقد تربوا على التجديد والتحديث وعايشوا عالم التكنولوجيا الحديثة المليء بالغرائب والعجائب والتغيرات السريعة المتلاحقة، ولديهم تطلع نحو مستقبل يعرفونه وينتزعونه من وسط حاضر مضطرب.
إذن فنحن أمام فجوة بين جيلين الآن، جيل قديم ظل صامتا لسنوات طويلة خوفا من المواجهة وخوفا من المجهول، وجيل جديد صنع المواجهة في ميادين التحرير وهو يقتحم المجهول ولا يخشى أي قوة مهما كانت. جيل قديم كانت تخدعه وسائل الإعلام الرسمية التي صنعها صفوت الشريف وأنس الفقي لتقوم بواجب التضليل الشعبي العام، وجيل جديد يصل إلى الحقيقة بوسائله الخاصة (المحلية والعالمية) من خلال الشبكة العنكبوتية في ثوان معدودة. جيل قديم عاش على الخوف من الخفير ومن العسكري ومن الضابط، وجيل جديد لا يهاب الحكومة ولا تخيفه تلميحات أو تهديدات المجلس العسكري. جيل قديم بطئ الإيقاع يحسب ألف حساب قبل أي خطوة وفي النهاية ربما لا يخطو، وجيل جديد يتعامل بسرعة فائقة مع أدوات العصر ويسابق الزمن للحصول على المعرفة من كل بقعة في العالم. جيل قديم يرضى بالقليل وشعاره دائما "كفاية كده بقى عايزين الدنيا تهدا" و"من رضي بقليله عاش" وجيل جديد مصر على استكمال مشوار الثورة حتى النهاية التي يريدها.
وهذه هي أحد الأعراض الجانبية للثورة، تلك الفجوة بين جيلين وبين طريقتين في التفكير وبين منهجين في الحياة... وتزيد تلك الفجوة بين من يقفون في التحرير ومن يقفون في مصطفى محمود أو ميدان روكسي، وفي النهاية ينتصر قانون الحياة ويحدث التغيير رغم خوف الخائفين ورغم تردد المترددين ورغم تثبيط المثبطين وتعويق المعوقين، فالثورة دواء لداء الفساد والتعفن والجمود، وما دامت دواءً فلابد لها من أعراض جانبية نتحملها ونتجاوزها وننضج بألمها.
واقرأ أيضاً:
منظومة الحرية/ الرؤية المستقبلية لمصر/ لا.... للإحباط/ مشروع الثورة، والوعي الجمْعي الجديد