بدأت الثورة المضادة على الإسلام في صورة الردة أواخر عصر النبوة, بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من نواحيها المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء متخفية، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري وهو العام الذي مرض ثم مات فيه الرسول صلى الله عليه وسلم, وتناقل الناس الخبر، أخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وأعلن المرتدون عن أنفسهم، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة, وكان أخطرهما مسيلمة الكذاب واسمه الحقيقي مسلمة بن حبيب الحنفي من قبيلة بني حنيفة، واحدة من أكبر القبائل العربية التي سكنت منطقة اليمامة.
كان مسيلمة صاحب منصب وسلطة وكان مسيطراً على مساحة واسعة من شرق الجزيرة العربية في منطقة اليمامة. أي أنه كان مسيطراً على أراضٍ وممتلكات أوسع من تلك التي كان يسيطر عليها المسلمون. بعد مضي تسع سنوات على الهجرة، اصطحب مسيلمة معه وفداً إلى المدينة المنورة واعتنقوا الإسلام وأخذوا هدايا من النبي محمد، ثم عادوا إلى قبيلة بني حنيفة ودعوهم إلى الإسلام وبنوا مسجداً في اليمامة. ولكن مسيلمة كان طامعا في السلطة وطامحا إليها فأعلن النبوة وجمع الناس وقال لهم (مشيراً إلى محمد عليه الصلاة والسلام):
"لقد أشركني معه في الأمر. ألم يقل لوفدنا أني لست أسوأهم؟ هذا لا يعني سوى أنه على علم بأني شريكه في الأمر".
وحتى يصدقه الناس دفع أنصاره ليروجوا عنه بعض خوارق العادات مثل: أن بإمكانه وضع بيضة في زجاجة؛ وبإمكانه قص ريش طائر ثم إعادة الريش ليطير مجدداً، وقد استخدم هذه المهارة ليقنع الناس بأنه يمتلك قدرات منحه إياها الله. كما دعا مسيلمة محمداً صلى الله عليه وسلم صراحة إلى تقاسم السلطة على شبه الجزيرة العربية وكتب له في السنة العاشرة من الهجرة: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: آلا إني أوتيت الأمر معك فلك نصف الأرض ولي نصفها ولكن قريشٌ قومٌ يظلمون".
فرد عليه محمد عليه الصلاة والسلام:
"من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذَّاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"
كان مسيلمة يعتمد على إحداث حالة من البلبلة والغموض وسط الناس حتى يتمكن من قيادتهم والسيطرة عليهم, وكان يثير النزعات القبلية والعرقية في الجزيرة العربية, ويلعب على نقاط الضعف في البشر بصفته عجوز يفهم نوازع البشر (يقال أنه كان قد بلغ المائة والخمسين من عمره حين قتل في موقعة اليمامة), فمثلا عرف أن الناس ترغب في العودة إلى شرب الخمر فأباح لهم الخمر, ولمح في عيونهم شهوة الجنس تتقد فأباح لهم العلاقات المفتوحة, وعرف عنهم التكاسل في الصلوات خاصة في الليل والصبح فأسقط عنهم العشاء والفجر, وعرف فيهم البخل فأسقط عنهم الزكاة, وعرف رغبتهم في أن يتبعوا قائدا أسطوريا له كرامات ومعجزات فأحاط نفسه بقصص خيالية روج لها أتباعه لتعطيه لونا خاصا يبهر العامة.
كان الكذب والدجل والتدليس أهم صفاته, فهو يعد ولا يفي, ويقول ولا يفعل ويخلط الحق بالباطل, ومع هذا فالناس كانوا يتبعونه ربما لكبر سنه, وربما لقدرته على الخداع, وربما لأنه يحقق رغباتهم البدائية, وربما لكونه يملك سلطة وسطوة ومكانة في قومه. وهنا يبرز سؤال: كيف تنجح الثورة المضادة على يد أفاق كمسيلمة بينما دين الإسلام في قوته وعنفوانه سواء في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عهد أبي بكر, والإجابة هي أن الناس عموما لديها مقاومة للتغيير, لذلك فهي في فترات التحولات الكبرى سواء كانت دينية أم سياسية أم اجتماعية تتوق إلى العودة للقديم وتنتظر من يحملها إليه مرة أخرى, لذلك لا تنجح التحولات الدينية أو الثورية ما لم يكن لديها خطط وآليات لمواجهة الردة والثورة المضادة مواجهة حاسمة تقطع دابر الفلول كما تقطع الرغبة في النفوس الضعيفة للعودة إلى الوراء.
وحين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وجد مسيلمة الفرصة سانحة للإنفراد بالسلطة النبوية, وكان يرتكز على وجود خلافات بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج وبين قريش وقبائل عربية أخرى في الجزيرة, وراح يعمق تلك الخلافات ويحاول أن يثير أكبر قدر ممكن من الصراعات وأن يحدث حالة من الانفلات الأمني في الجزيرة العربية, وأن يزرع الخوف في نفوس الناس, وانتبه أبو بكر –خليفة رسول الله – للخطر واستشار عمر وبقية الصحابة ليصل إلى قراره الحاسم بمواجهة الثورة المضادة قبل أن يستفحل أمرها وتأتي على الأخضر واليابس.
فعن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»؟ فقال: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها. وفي رواية: والله لو منعوني عقالاً، كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق، ثم قال عمر بعد ذلك: والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة. وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر -وهو يناقشه- عن ناحية فقهية مهمة أجلاها له وكانت قد غابت عنه، وهي أن جملة جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي الدليل على وجوب محاربة من منع الزكاة حتى إن نطق بالشهادتين، هي قول النبي: «فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».
وفي رواية: قال عمر: فقلت: يا خليفة رسول الله، تألف الناس وأرفق بهم. فقال لي: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام، قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟
ولم يسكت المرتدون بل حاولوا الهجوم على المدينة لاجتثاث الإسلام من جذوره, واتضحت الأمور وهي أن الثورة المضادة لابد من مواجهتها فجهز المسلمون جيشا كبيرا تحت قيادة خالد بن الوليد وبمساعدة القبائل التي بقيت على الإسلام وتحرك الجيش نحو اليمامة وبعد صولات وجولات عنيفة هزم جيش مسيلمة وقتل مسيلمة نفسه بحربة أطلقها عليه وحشي, وتم وأد الفتنة التي لو كان أبو بكر تهاون بشأنها لاستفحلت وأطاحت بدولة الإسلام ولتغير وجه التاريخ, وهكذا تعامل الثورات المضادة في كل مراحل التاريخ.
واقرأ أيضاً:
رؤية طبيب نفسي لخطاب السيد المشير/ تعري علياء وتستر عبد الماجد وتخنث الثورة/ لماذا عادت الثورة من جديد؟