هناك مرضى نفسيون يعانون من اضطرابات نفسية لا تفقدهم وعيهم "الاستبصار" بمرضهم؛ وقد يدفعهم هذا الاستبصار لطلب العلاج ليتسنى لهم الوصول لحالة جيدة من السواء النفسي. وحتى يتسنى لهؤلاء المرضى تحقيق الشفاء، عليهم أولاً أن يعترفوا بوجود مشكلة ما لديهم، ثم عليهم أيضاً تحمل المسئولية لاتخاذ ما يلزم من خطوات علاجية والتي تبدأ بفهم المرض "التشخيص"، وما يلي ذلك من إجراءات حتى يتحقق لهم الشفاء. وكما هو الحال مع هؤلاء المرضى فإن الأمر لا يختلف كثيراً مع الثوار والداعمين للثورة في مصر، إذ يشعر المرء أحياناً بأن عليهم الاعتراف بمعاناتهم من مشكلة ما، وأن عليهم بالضرورة تحمل المسئولية فيتخذوا ما يلزم ليتسنى لهم المضي قدماً نحو بناء مصر الجديدة والتي نحلم بها جميعاً. ويناقش هذا المقال نموذجاً لما أعانيه على المستوى الشخصي، وقد يشترك معي غيري في نفس المعاناة، وسأحاول أن أفهم معاناتي هذه من خلال وجهة النظر التي طرحتها في هذه المقدمة. ويتمثل هذا النموذج في شهادة المشير في المحكمة يوم 25 سبتمبر من هذا العام.
السؤال الذي طرحته دوماً على نفسي لماذا هذا الإصرار على أن المخلوع قد أعطى أوامره بإطلاق النيران على المتظاهرين السلميين في الثورة، وأن المجلس العسكري رفض تنفيذ تلك الأوامر؟ لماذا الإصرار على تكذيب أقوال المخلوع في المحكمة بأن أوامره فقط كانت بنزول الجيش إلى الشوارع لحماية المنشآت الحيوية في البلاد خوفاً من تخريب المتظاهرين لها؟ لماذا الإصرار على تكذيب شهادة المشير في المحكمة والتي شهد فيها بأن الرئيس المخلوع لم يعط أوامره للجيش بإطلاق الرصاص على المتظاهرين.
أعتقد أنه يجب عليّ الاعتراف بأني أعاني من مشكلة ما، وفي محاولة لفهم هذا الإصرار كي أصل إلى تشخيص ومن ثم التحرك نحو العلاج سأعيد على مسامعي سرد لأحداث الثورة والتي أتصور أنها كانت كالتالي:
- أمر المخلوع مبارك بنزول الشرطة لقمع المتظاهرين في يوم 25 يناير.
- أمر مبارك يوم 28 يناير بنزول الجيش لحماية المنشآت الحيوية في البلاد لثقته أنه باق وأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد زوبعة في فنجان وسرعان ما سينتهي الأمر.
- بعدما فشلت الشرطة بقواتها النظامية أيام 25 ، 26، 27، 28 من شهر يناير في قمع المتظاهرين، وبعد نفاذ كل ما لديها من أدوات للقمع، قررت الشرطة تنفيذ خطتها البديلة والأخيرة يوم 29 يناير بنشر الفوضى في البلاد وذلك بالانسحاب من البلاد والدفع بالبلطجية وتهريب المساجين حتى يخرج الشعب ضد المتظاهرين طلباً للأمن والآمان فيقضي الشعب بنفسه على الثوار.
- قام المخلوع بتقديم بعض التنازلات للمتظاهرين، والتي تمثلت وقتها في تعيين أحمد شفيق رئيساً للوزراء يوم 29 يناير، ثم إقالة حبيب العادلي من وزارة الداخلية وتعيين محمود وجدي خلفاً له يوم 31 يناير.
- قام الشعب بعمل اللجان الشعبية التي أحبطت مخطط العادلي ورجاله في نشر الفوضى بالبلاد.
- قرر بعض رجال مبارك من أمثال سرور وصفوت الشريف وغيرهم حماية لمصالحهم، وبعد موافقة نجلي الرئيس على الخطة، بالقيام بتوجيه ضربة قاضية للثوار في يوم 2 فبراير فقاموا بتجييش البلطجية للقضاء على الثورة فيما عُرف بموقعة الجمل. ولم يتدخل الجيش لحماية الثوار يوم موقعة الجمل لالتزامه بما تم تكليفه به وهو حماية المنشآت، وبحجة التزامه الحياد بعدم التدخل بين المدنيين؛ حتى لا يفهم أن الجيش قد انحاز لفئة دون أخرى.
- استمرار رفض الرئيس للتخلي عن السلطة ثم إلقائه لخطابه المستفز يوم 10 فبراير الذي أشعل الثوار غضباً، فقرروا الزحف لقصوره الرئاسية.
- بضغوط من أمريكا وإسرائيل والغرب لحماية مصالحهم في مصر، ولحماية البلاد من الدخول إلى مجهول إذا ما استولى الثوار غير المعروف هويتهم على السلطة، ثم لحماية مبارك حتى لا يلقى مصيراً أشبه بمصير تشاوشيسكو، حصل الجيش على تفويض بالقفز على الثورة وتنحية مبارك بعد وعود لمبارك بعدم المساس به، وبوعود مماثلة للغرب بعدم المساس بمصالحهم، فكان بيان تخلي مبارك عن السلطة والذي ألقاه الفريق عمر سليمان يوم 11 فبراير.
- فرح الثوار بإسقاط مبارك، واعتقدوا أن الجيش هو حام للثورة وشريك فيها، وأنه سيكمل ما بدأه، فاكتفوا بهذا القدر وعادوا لمنازلهم.
- عندما وجد المجلس أن الثوار ظنوا فيه أنه شريك وحام للثورة قرر استثمار الفكرة لإضفاء المزيد من الشرعية على شراكته في الثورة، فأكد على فكره حمايته للبلاد من الفوضى وأخفي الأهداف الأخرى من وجوده مثل حماية مصالح الغرب وحماية مبارك.
- استخدم المجلس العسكري أداتين لتأصيل ما صدقه الثوار من أن المجلس هو حام للثورة وشريك فيها، فكانت وسيلته في ذلك هي الجهاز الإعلامي الذي تركه لهم مبارك. كما استخدام قيادات المجلس العسكري بعض الإيحاءات اللفظية في أحاديثهم الإعلامية تتشابه والتي استخدمها المشير في حفل تخريج ضباط الشرطة يوم 16 مايو؛ والتي قال فيها ما يمكن تأويله بأن الجيش رفض تنفيذ أوامر مبارك بإطلاق الرصاص على الثوار. فكان لهذه الإيحاءات الأثر الكبير علينا في تصديق ما حكوه لنا من حدوتة حماية الثورة والشراكة فيها. وبناء على ذلك طالب محامو شهداء ومصابي الثورة شهادة المشير في محاكمة مبارك بشأن مخالفة المشير لأوامر المخلوع لهم بإطلاق الرصاص على الثوار.
- أقسم المشير اليمين في المحكمة يوم 25 سبتمبر وشهد شهادة صدق فقال الرجل بأن الجيش لم يتلق أوامر من مبارك بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وبالتالي فإن مبارك بريء من هذه التهمة.
- قامت الدنيا ولم تقعد بعد هذه الشهادة واتهمنا جميعاً المشير بأنه قد شهد زوراً ليحمي مبارك من حبل المشنقة، وأنه على خلاف ما شهد به فقد تلق المشير الأوامر من مبارك بإطلاق الرصاص على الثوار وأنه المشير رفض تنفيذ هذه الأوامر.
أعود الآن إلى معاناتي الشخصية والتي قد يشاركني فيها غيري فأقول إنني مازلت أصر على أن مبارك قد أعطى الأمر بإطلاق الرصاص على الثوار، وأن المجلس العسكري رفض تنفيذ الأمر، كما أنني مازلت أصر على عدم تصديق شهادة المشير التي أقسم على صدقها. أظن هنا أن هذا الإصرار إنما يعكس وجود مشكلة لدي وأنه يجب عليّ الاعتراف بذلك.
قد تكمن المشكلة عندي في غلبة الرغبة لدي في إصدار حكم سريع انتقامي على مبارك بالإعدام، متوحداً في ذلك بثوار رومانيا لأفعل بمبارك مثلما فعلوا هم بتشاوشيسكو. ثم أيضاً متوحداً بثوار تونس الذين رفض جيشهم قتل الثوار، فقمت لا شعورياً بخلق بطل يجسد أوهامي أو أحلامي هذه، فكان المجلس تجسيداً لهذه الأوهام والأحلام. لهذا علي أن أعترف يا سادة بأني أعاني من مشكلة يمكن تشخيصها في الرغبة على تأكيد وجود الشر أو الشيطان "المخلوع" في مقابل خلق أسطورة الخير أو البطل "المجلس". إن مشكلة خلق الشيطان في مقابل البطل جعلتني في مواجهة صريحة مع نفسي إذ أدركت وللأسف الشديد أنني "مغفل"، وأن الآخر بإيحاءاته قد قام بالنصب عليّ في واحدة من أشهر الصفقات التي سيكتب عنها التاريخ يوماً ما؛ صفقة أطرافها المجلس والمخلوع والغرب وأنا بغبائي وسذاجتي، إذ باركت هذا الآخر ومنحته صلواتي ودعائي لينتهي الوضع على أنا فيه.
الآن وبعد أن اعترفت بمشكلتي وواجهت نفسي بتشخيصي وهو أني وللأسف مغفل وفي أفضل الأحوال ساذج، فإنه يجب عليّ تحمل المسئولية. ولا أعني بتحمل المسئولية هنا أن أتحمل تبعة سذاجتي بأن أقبل هذا الآخر الذي قفز على السلطة. إن تحمل المسئولية الذي أقصده هنا إنما يعني ضرورة أن أصلح ما أفسدته بيدي؛ وهذا يعني في تصوري أن أتخذ كل ما يلزم من إجراءات كأن أعتصم حتى أحطم هذا الصنم الذي صنعته يداي وسجدت له عابدا. أعلم أنه قد يقتلني كهنة المعبد، لا .. بل سيسقط مثلما سقط كبيرهم أيضاً بيداي. نعم يجب أن أتحمل المسئولية، وإلاّ فما جدوى البقاء، إن مشكلتي يا سادة أني سئمت السذاجة، مللت الغباء.
برادعي عليه أن يبقى قائداَ لحركة تسمح لجميع الأطياف من الشعب بما فيهم من ينتمون لحزب أو تيار سياسي أو ديني أن ينضموا إليه. على البرادعي أن يبقى كما هو فقط فكرة وفلسفة تتسع للجميع كما كان الحال مع الجمعية المصرية للتغيير.
واقرأ أيضاً:
محنة الشرف العسكري/ صاحب العباءة وبنات الثورة/ سيناريوهات الذكرى السنوية للثورة/ حكاوي القهاوي