المقدمة:
إن عملية الذاكرة Memory رائعة ومخزون الإنسان من الذكريات لا حدود له. لكن البشر يختلف بعضهم عن بعض بتلك القابلية ألا وهي استرجاع الذكريات.
يستقبل الإنسان الكثير من الحوافز البصرية والسمعية والجسدية التي لا حدود لها. وبعد أن يتم تقييمها بسرعة البرق تبدأ عملية الذاكرة وأحياناً بدون أن يشعر الإنسان بها. لتوضيح عملية الذاكرة واسترجاع الذكريات هناك خمسة مراحل وهي:
1- تسجيل الحدث أو الإحساس Registration .
2- خزن الحدث أو الإحساس Retention .
3- استرجاع الحدث أو الإحساس Retrieval .
4- تذكر الحدث أو الإحساس Recall .
5- تمييز الحدث والإحساس Recognition .
ويمكن تشبيه عملية الذاكرة في الإنسان بجهاز الكمبيوتر.
قابلية الإنسان لاسترجاع الذكريات وتمييز بعضها عن البعض يمكن تشبيهها بذاكرة الوصول العشوائي (Random Access Memory (RAM . كل ما أزداد حجم هذه الذاكرة كان الأداء أفضل ومُوَفقاً، ومتى كانت قليلة ترى الجهاز يصبح علة لابد من التخلص منها.
أما سعة الذاكرة أو قدرة الكمبيوتر على خزن المعلومات Storage Capacity فتتحدد بحجم القرص الصلب Hard Disc ، ولا يوجد أكبر من القرص الصلب الذي في وسط الدماغ ألا وهو ذلك الجزء الصغير المدعو بالحصين Hippocampus . يضمن الدماغ عدم فقدان المعلومات فترى الخزن يتم في اليمين واليسار. أي بعبارة أخرى أحدهما يعمل كقرص احتياطي.
بالطبع يتميز الدماغ بخزنه المعلومات وجميع ما يتعلق بها من مشاعر مثل الغضب والحب والحزن. أما الكمبيوتر فهو غير قادر على ذلك أبداً.
رغم ذلك ترى الإنسان رغم كمال جهاز الذاكرة أعلاه وعدم إصابته بمرض ما يمنعه عن استرجاع بعض الذكريات، لكنه يصعب عليه ذلك أحياناً لأسباب نفسية. بالتحديد يعالج المقال مسألة استرجاع ذكريات حوادث كان لها تأثير الصدمة على الإنسان يمكن أن تسميها ذكريات رَضِّيَّة أو ذكريات رضْحِيَّة Traumatic Memories .
حكاية مراهقة:
بدأت يوماً ليس كغيره من الأيام، وسيطر عليها إحساس غريب وجديد لا سابقة لها به. بدأت تتصور نفسها على مسرح بمفردها لا يشاركها فيه أحد، العالم كله جالساً على مقاعد صالة ينظرون إليها بصمت. تضاعفت هذه المشاعر الغريبة وأحست بأن دورها في هذا العرض مجهول والأشد غرابة هو أن الجمهور ينظر إليها بصمت ولا ينتظر منها أداء أي دور. حاولت أن تتحرك صوب جمهورها وأحست بعجز في الحركة وكان هناك باب زجاجية لا يمكن التحرك صوبها وتفصلها عنهم. لم تتوقف هذه المشاعر لساعات عدة ومعها تلاشت ذكرياتها لسنوات. أحست بالاختناق ونزلت من غرفتها وهي صامتة واستقبلتها أمها التي فوجئت بابنتها وقد تحولت من فتاة في السادسة عشر من العمر إلى طفلة لم تتجاوز الأربعة أعوام في كلامها ونظراتها وحركاتها.
انتهى الأمر بدخولها المستشفى، ولأن عمرها كان دون السابعة عشر انتهت في ردهة للأطفال. تم الكشف عليها وكان تشخيص الأطباء بأنها مصابة بإرهاق جسدي وربما تمر بأزمة ذهانية حادة.، ونصح كادرها الطبي الوالدين بمغادرة المستشفى في أقرب وقت وطمأن الأهل بأن حالات الصمت المؤقت ليست بالنادرة في الأطفال وحتى المراهقين.
بعد ساعة من النوم صحت الفتاة وبدأت تسترجع لقطات من حوادث اليوم. كانت صورة واسم رجل ظهر على موقع الإنترنت بداية لعرض سينمائي وكأنه فلم كتبت هي قصته، لعبت فيه دور البطلة، أشرفت على إخراجه، ولكنها فشلت في عرضه بصورة واضحة. كان الفلم مشوشاً فهو أحياناً ملونٌ وأحياناً بدون ألوان ولم يكن بمقدرتها معرفة بدايته ونهايته. لم تعرف من كان يشاركها في التمثيل ولكنها كانت على يقين بان اسم هذا الرجل وصورته هو الممثل الآخر بل والوحيد في هذا الفلم الذي لم يتسنى لها عرضه.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أثار الاسم مشاعر في داخلها لم تحسن تصنيفها منذ أكثر من سنتين. لكنها بدأت بتنصيف المشاعر التي تتولد في داخلها عند رؤية أو سماع كلمة اسم الرجل. يمكن أن تكون تلك المشاعر مزيجا من القلق، الكآبة، الخوف، والغضب. لا شك أن الغضب هو الأقوى ويولد طاقة لابد من توجيهها إما صوب من هي غاضبة منه وإما صوب نفسها وجسدها. طالما راودتها الذات بجرح ذراعها أو ساقيها فعسى خروج الدم من جسدها يسحب معه غضبا لا يمكن حصره.
كانت رؤية صورة هذا الرجل على موقع الإنترنت مثيراً لغضبها وبصورة يصعب تفسيرها. كانت تلك الرائحة التي طغت على غرفتها مرعبة وكأنها إشعاع صادر عبر شاشة الكمبيوتر. كانت رائحة إنسان يعرق بشدة ومثيرة للاشمئزاز ومولدة للغضب. كانت هذه الرائحة بداية لتسجيل هذا الفلم السينمائي المرتبك والذي عزلها فجأة عن من حولها بل ومن الدنيا بأسرها. لكنها رغم كل هذا تسمع وتشاهد وتستوعب ما يجري حولها. استمرت في صحوتها وهي راقدة على سرير المستشفى ولا تزال منفصلة عن محيطها، ومقاطع الفلم الذي تمثله وتخرجه أصبحت أكثر وضوحاً.
الانفصال Dissociation وفقدان الذاكرة الانفصالي Dissociative Amnesia:
الانفصال هو عملية نفسية تَحيَّر الكثيرون في تعريفها وتفسيرها. يميل الكثير إلى تصنفيها كعملية غير شعورية أو وسيلة دفاع نفسية Defense Mechanism لتحمل مشاعر مؤلمة مثل القلق والكآبة والغضب. البعض الآخر يميل إلى تصنيفها كعملية شبه شعورية لتحمُّل مشاعر مؤلمة غير أن الإنسان دائماً في إدراك لنفسه ومحيطه عند وجودها. ولتوضيح الأمر يمكن أن نتصور الإنسان في أي وقت ما كالآتي:
1- الإنسان ومحيطه في اتصال مستمر.
2- حاضر الإنسان وماضيه في اتصال مستمر.
3- أحداث اليوم وذكريات الماضي في اتصال مستمر.
4- وعي الإنسان بذاته وكمال شخصيته في اتصال مستمر.
متى ما حدث انقطاع بين ما دون أعلاه دخل الإنسان في حالة من حالات الظواهر الانفصالية Dissociative Phenomena وهي:
1- تبدد الشخصية (أو اختلال الإنية) Depersonalisation.
2- تبدد الواقع . Derealisation
3- فك الارتباط بما حوله. Disengagement
4- فقدان الذاكرة الانفصالي . Dissociative amnesia
5- اضطراب الهوية الانفصالي Dissociative identity Disorder.
6- الانقباض العاطفي. Emotional Constriction
الغالبية العظمى من الناس قد تشعر بهذه الأعراض بين الحين والآخر ولفترات قصيرة جداً من الزمن من جراء ضغوط نفسية واجتماعية ومهنية وعائلية. كذلك يمكن أن تكون مصاحبة لأعراض نفسية أخرى لأمراض ذهانية وعصابية وحتى عضوية. الحقيقة ليس هناك مرض نفسي أو عصبي يخلو من هذه الأعراض، غير أن في بعض الحالات قد تكون هي الأعراض الوحيدة وفي النصف من هذه المجموعة من الأفراد تكون الظواهر الانفصالية مزمنة ومرتبطة بصدمات عاطفية شديدة في مراحل الطفولة أو بعد البلوغ.
في الحالة أعلاه نرى بأن المراهقة تعرضت لاعتداء غير أخلاقي أيام طفولتها من رجل بالغ. كان الحدث مؤلماً للغاية ولم يكن لها حل إلا أن تحيط الحدث بحائط يمنع تلك الذكريات من التجوال في وعيها بصورة مستمرة قد تمنعها عن المضي في بناء حياتها وشخصيتها. يتحدث الكثير عن الشعور ودون الشعور أي بعبارة أخرى هناك فاصل أفقي يقسم الشعور إلى الوعي التام في الأعلى من الخط الأفقي وفي الأسفل منه منطقة دون الشعور. أما في مبدأ الانفصال الذي هو أكثر علميةً فترى أن الفاصل بين الشعور وإخفاء الذكريات هو خط عمودي يمكن للإنسان أن يتنقل بين جانبيه بحرية وإرادة أكبر. على ضوء ذلك كان فقدان الذاكرة قبل إصابتها بالعلة أعلاه فقدان ذاكرة انفصالي.
بعد ما استرجعت تلك الذكريات المؤلمة بصورتها البدائية أولاً مثل الرائحة، كان وقع استرجاع الذكريات مؤلماً لدرجة أنها أصيبت بجميع الأعراض الانفصالية المدونة أعلاه وأشدها وقعاً هو اضطراب الهوية الانفصالي.
مناقشة عامة:
إن الحالة أعلاه ربما نادرة بعض الشيء ومعظم ظواهر الانفصال أعلاه تحدث من جراء الإرهاق، القلق، الحزن الشديد، الكآبة وغير ذلك وما لا يقل عن 60% من الأفراد قد يشعرون بهذه الظواهر ومعظمهم في كامل الصحة والعافية.
هناك مقياس لقياس درجة الانفصال كثير الاستعمال طبياً ونفسياً يدعى بمقياس التجارب الانفصالية Dissociative Experience Scale . بعدها يمكن تقسيم النتيجة إلى ثلاثة أقسام:
1- نتائج دون العشرة تقريباً: طبيعية.
2- نتائج بين الحادية عشر إلى 29 تحدث في أمراض نفسية عدة.
3- نتائج فوق 29 تشير إلى احتمال كبير لاضطراب الانفصال.
بعدها لابد من تحديد ظواهر الانفصال كما هي مدونة أعلاه.
إن الاضطرابات الانفصالية ليست بالضرورة نتيجة تعرض للصدمات النفسية ذات الطبيعة العدوانية كما يشير البعض من الأخصائيين. بالطبع فإن البعض من المصابين باضطراب ما بعد الصدمة (أو اضطراب الكرب التالي للرضح) Post Traumatic Stress Disorder يمرون بمرحلة مزمنة ما هي إلا اضطراب انفصالي قلما يتماثل للشفاء الكامل وخاصة في من هم ضحية التعذيب والاغتصاب والجريمة. لكن بعض الحلات المشابهة للحالة أعلاه تحدث جراء خصومات عائلية وأحياناً جراء حدث يغير من موازين العلاقات العائلية مثل ولادة طفل آخر في العائلة.
إن اضطرابات الذاكرة العضوية شائعة وتحدث في الأفراد الأكبر سناً وتختلف في أعراضها عن فقدان الذاكرة الانفصالي.
هناك أسباب متعددة لفقدان الذاكرة الانفصالي ولكن يمكن حصرها بكون الحدث والتجربة وما تم خزنه يحمل معه مشاعر مؤلمة لا يقوى الإنسان على تحملها عاطفياً. على ضوء ذلك يبني عقل الإنسان حائطاً عمودياً حول تلك الذاكرة، غير أن هذا الحائط قد يتم تدميره بظروف مفاجئة بين ليلة وضحاها وعند ذلك لا يوجد حل غير التصرف مع تلك الذكريات مع واقع الحياة والمضي قدماً دون حملها كعقد عصابية جديدة.
العلاج:
كل حالة انفصال لها خصوصيتها وفي الكثير من الأحيان يتم علاج الأعراض المصاحبة للحالة بالعقاقير للمحافظة على توازن المريض عقلياً وعاطفياً.
بعد ذلك لا بديل للعلاج النفسي، وهنا كل حالة لها ظروفها. البعض بحاجة الى علاج عائلي أو مهني او اجتماعي وليس بالضرورة الرقود على أريكة المعالج النفسي.
إن الفشل في معالجة هذه الحالات وتمييزها كثيرا ما يؤدي إلى تشخيص مرض عقلي خاطئ مثل أمراض ذهانية Psychotic Disorders وعند ذاك يبدأ المريض نفسه بالقبول بذلك ويتناول علاجا طوال عمره. وبعدها لا يرضى بتشخيص آخر. بالطبع هذا الطريق كارثة بمعنى الكلمة.
واقرأ أيضاً:
المرأة والرجل على الميزان / الجن وعقل الإنسان / علاج الاكتئاب بالعقاقير بين العلم والفن / زرع الثدي الاصطناعي: الأبعاد الاجتماعية النفسية / الحب وجنون الحب