الإجابةُ البديهيةُ لهذا السؤال هي عندما نشبع، وهنا يصبحُ السؤال هو: وما هي مستشعرات الشبع Satiety Sensors تلك؟ وأينَ توجد في الجسد؟... إن ما يمكنُ استنتاجه من محاولات الإجابة على السؤالين السابقين هو أن مستشعرات الشبع لابد أن توجدَ في مكان ما يمرُّ عليه الأكلُ أو تؤثرُ فيه عمليةُ الأكل قبل مكان مستشعرات الجوع؛ أي أننا ببساطة يجبُ أن نبحثَ في الفم والحلق والمعدة والأمعاء وربما الكبد، وإن كانَ دور الكبد هو القيام بعمليات الاستقلاب التي تلي عملية الهضم؛ أي أنه دورٌ متأخرٌ من الناحية الزمنية؛ لأننا لا نستمر في الأكل ثلاثةَ ساعات مثلاً كما قلت من قبل!
ولكي يتمَّ التأكدُ من وجود مستشعرات الشبع في الفم والحلق قام باحثان غربيان (Janowitz & Grossman , 1949) بقطع المريء في كلب تجارب وأخرجا طرفيه من خلال فتحةٍ في الجلد؛ بحيثُ إذا أكل الكلب لم يتمكن الطعام من الوصول إلى المعدة، وبهذه الطريقة لا يكونُ هناكَ تأثيرٌ لمستشعرات الشبع الموجودةِ فيما بعد الفم والحلق وربما الجزء العلوي من المريء، فماذا حدثَ؟
لقد أكل هذا الكلبُ أكثرَ قليلاً من المعتاد ثم توقفَ، وهو ما يؤكدُ وجود مستشعراتٍ للشبع في الفم والحلق، إلا أن الكلب عاد للأكل مرةً أخرى بعد فترةٍ قصيرةٍ، مما يبينُ أن تأثير مستشعرات الشبع في الفم والحلق هو تأثيرٌ مؤقتٌ أو قصيرُ الأمد إلى حد ما (Janowitz & Grossman , 1949).
ولاختبار وجود مستشعرات شبعٍ في المعدةِ والإثني عشر (الجزء الذي يلي المعدة مباشرةً من الأمعاء) قام العلماءُ في تجربةٍ أخرى بتجويع الحيوان أولاً، ثم حقن الغذاء مباشرةً في معدته ثانيًا، ثم عرض الطعام عليه في الخطوة الثالثة، فتناولَ قدرًا أقل من الطعام الذي كانَ يتوقعُ أن يأكله بعد التجويع، ومن هنا أمكنَ استنتاجُ أن المعدةَ وإن كانتْ تلعبُ دورًا ما في إشعارنا بالجوع إلا أن دورها الأكبر هو في إشعارنا بالشبع والامتلاء بعد الأكل (Atkinson et al.,1987).
وفي تجربةٍ أخرى مشابهةٌ فيما عدا أن الحقن كانَ في الاثني عشر مباشرةً وليس المعدة، قلَّت أيضًا كميةُ الطعام التي تناولها الحيوان، ويبدو أن مستشعر الشبع الموجود هنا (أي في الاثني عشر) ذو علاقةٍ بهرمون الكوليسيستوكينين Cholecystokinin الذي يفرزه الجزءُ العلويُّ من الأمعاء في الدم، ويهدئُ هذا الهرمون من مرور الطعام من المعدةِ إلى الأمعاء، كما يعتقدُ أن المخَّ يستشعرُ وجودَ الكوليسيستوكينين في الدم فيثبطُ سلوكَ الأكل؛ لأن حقن هذا الهرمون في الدم يقلل من كمية الأكل المتناول كما بينت دراساتٌ عديدة (Carlson , 1985).
لكن دراساتٍ أحدثَ أرجعت التأثير المثبط للجوع الذي يحدثه إفرازُ الكوليسيستوكينين إلى تأثيره على مستشعرات حشويةٍ وليست دماغيةً؛ وذلك لأن التأثير يصبحُ ضعيفًا جدًّا إذا مُنِعَ تأثير العصب الحائر على الأحشاء تحت الحجاب الحاجز Sub diaphragmatic Vagotomy بشكلٍ أو بآخر، ووضعت بِناءً على ذلك نظريةُ الهضميدات المعوية Gut Peptides Theory والتي تشمل الكوليسيستوكينين والجلوكاجون Glucagon والسوماتوستاتين Somatostatin، إلا أن أسئلةً كثيرةً ما زالت تحتاجُ أبحاثًا للإجابة عليها قبل أن نستطيعَ اعتبارَ أيٍّ من الهضميدات أو الهرمونات المعوية عاملاً منظمًا بشكلٍ قاطع للجوع أو الشهية (Ganong,1999).
وينطبقُ نفس الكلام على الكبد؛ حيثُ يؤدي حقن الجلوكوز مباشرةً في الكبد إلى تقليل كمية الأكل التي يتناولها الحيوان الجائع، ويبدو أن مستشعرات الشبع الكبدية تستشعرُ وجودَ الغذاء في الأمعاء وتبلغُ المخ بذلك (Russek,1971).
وقد أصبح المفترض الآن هو وجود ما يسمى بالمحور المعوي الدماغي (Gut–Brain Axis (Schwartz, 2004، حيث ترسل مستشعراتٌ في المعدة والاثني عشر وربما غيرها من أجزاء القناة الهضمية إشارات للدماغ عبر العصب المبهم vagus nerve (العصب الجمجمي العاشر) والذي يعتبر أهم بنية عصبية في تحديد حجم الوجبة (Schwartz, 2000)، إلى مناطق في الدماغ مسؤولة عن إيقاف عملية الأكل بتفعيل الشعور بالشبع، وتظهر أهمية هذا المحور المعوي الدماغي في محاولات علاج البدانة الجراحية حيث تستهدف الأجزاء المعوية من المحور (جراحات تصغير المعدة أو المساحة العاملة منها أو الاثني عشر) أو تنبيه العصب المبهم جراحيا Gastric Vagal Stimulation، وقد أثبت أن قطع الألياف العصبية الحسية لهذا العصب تؤدي إلى زيادة كل من حجم ومدة الوجبة (Schwartz, et al., 1999).
وتلخيصًا لما سبق ولما سنفصِّله في آخر هذا الفصل عند الحديث عن منظمات الشهية الكيميائية، يمكننا أن نقول: إنه في أوائل الخمسينات من القرن الماضي افترض لأول مرة أن المقدار المأكول من الطعام يرتبط بكمية الطاقة المختزنة في الجسد، وخلال السبعينات والثمانينات من نفس القرن اعتبرت الهضميدات المعوية؛ مثل الكوليسيستين Cholecystokinin والبومبسين Bombesin والهضميد المحرر للجاسترين Gastrin-Releasing Peptide، والنيوروميدين ب Neuromedin B، والجلوكاجون Glucagon.. اعتبرت كلها إشارات شبع يفرزها السبيل الهضمي Gastrointestinal Tract استجابة لوجود الطعام؛
وفي التسعينات أيضًا تم التعرف على النحيفين أو الليبتين كهرمون يرتبط إفرازه ويتناسب مع مخزون الجسد من الدهون، وإضافة لتأثيره المباشر على علامات الشبع الخارجية فإن النحيفين والإنسولين يعملان على الجهاز العصبي المركزي لتثبيط تناول الطعام (Flier & Maratos-Flier, 1998)، ويفترض النموذج المقبول حاليًا عن كيفية توازن الطاقة أنَّ الإشاراتِ الخارجية تتكامل مع المنظماتِ الأخرى؛ كحضورِ الغذاءِ، أو العادات الغذائية، والسلوك الاجتماعي.... لدفعنا لتناول الطعام، وبنفس الطريقة؛ فإن إنهاء وجبةِ طعام أو ما يجعلنا نتوقف عن الأكل إنما يُحْكَمُ بعوامل خارجيةٍ وعوامل داخلية، وتشمل العوامل الأخيرةُ الإشاراتِ التي تصدر من الكائن الحي استجابةً لتناول الطعام ووجوده في السبيل الهضمي (Gale et al, 2004).
لكن المهم في هذا الفصل هو ما يظهر جليًّا من أن معظمَ الطرق -إن لم تكن كل الطرق- تؤدي إلى الدماغ! وأن المحطةَ النهائيةَ في كل الأبعاد التي ناقشناها هي الدماغ، فما هي يا ترى الآليات التي يؤديها الدماغ؟ وهذا هو السؤال الرابعُ الذي سنحاولُ الإجابةَ عليه.
المراجع:
1) Janowitz, H. D. & Grossman, M. I. (1949): Some Factors Affecting the Food Intake of normal Dogs and Dogs Esophagostomy and Gastric Fistula. Am. J. Physiology, Vol. 149, Page:143-148.
2) Atkinson L.R., Atkinson, R.C., Smith, E.E. & Hilgard, E.R. (1987): Basic Motives , Hunger , In: Atkinson L.R. , Atkinson R. C etal (editors) Introduction to Psychology, 9th ed, Harcourt Brace Jovanovich, Publishers. International Edition. Page 319.
3) Carlson , N. R. (1985): Physiology of Behavior (3rd Edition). Boston: Allyn and Bacon. 59,321,349.
4) Ganong , W. (1999): Central Regulation of Visceral Function , In Jack and DeLoris Review of Medical Physiology , 19th Edition , Middle East Edition , Appelton and Lange, Lebanon.
5) Russek , M. (1971): Hepatic Receptors and the Neurophysiological Mechanisms controlling Feeding Behavior. In Ehreupries S.(Ed.).Neurosciences Research,V. 4 , New York, Academic Press.
6) Schwartz, J.G. (2004): Biology of Eating Behavior in Obesity. Obesity Research 12:102S-106S
7) Schwartz, GJ. (2000): The role of gastrointestinal vagal afferents in the control of food intake: current prospects Nutrition 6,866-873
8) Schwartz, GJ, Salorio, CF, Skoglund, C, Moran, TH. (1999) Gut vagal afferent lesions increase meal size but do not block gastric preload-induced feeding suppression Am J Physiol. 276,R1623-R1629
9) Flier, J. S. & Maratos-Flier, E. (1998) Obesity and the hypothalamus: novel peptides for new pathways. Cell 92:437-440.
10) Gale, SM., Castracane, VD. & Mantzoros, CS (2004): Energy Homeostasis, Obesity and Eating Disorders: Recent Advances in Endocrinology. J. Nutr. 134:295-298
واقرأ أيضًا:
ماذا نفعل مع الطعام في الأوقات الحرجة؟ / أولا لا تعبدي الصورة وثانيا تابعينا / الأصل وصورة المرآة: وما أدراك ما المرآة / من قال إنها إرادة؟.. إنه الجسد صنع الله