يعتبرُ الوطاءُ Hypothalamus؛ وهو منطقةٌ من الدماغ المتوسط.. مركزَ التنظيم للعديد من الوظائف الحيوية، والمسؤول عن ضبط معدلات الحرارة وعن تنظيم عملية الشرب والأكل، وغير ذلك من الوظائف الحيوية المختلفة، ولعلَّ كونَ الوطاء غنيًّا بالأوعية الدموية وبالتجمعات العصبية التي تتصل بكل الأجهزة الحيوية عبر الجهاز العصبي المستقلي Autonomic Nervous System هو ما يجعله أهلاً لذلك التحكم، فغنى الوطاء بالأوعية الدموية يعطيها الفرصةَ لقياس تغيرات نسب المواد الكيميائية المختلفة التي يحملها الدم، كما أن كونها مركزَ تحكمٍ دماغيٍّ علويٍّ للجهاز العصبي المستقلي يجعلُ تأثيرها مباشرًا على الأجهزة اللاإرادية في الجسد (أي الجهاز الدوري والتنفسي والهضمي والبولي)، وما يعنينا هنا بالطبع هو الجهاز الهضمي، وقد أجريت دراساتٌ عديدةٌ على الوطاء في الحيوانات، استخدمت فيها طريقةُ إتلاف الخلايا والألياف العصبية في مناطق الوطاء المختلفة مرةً بعد مرةٍ ودراسة التغيرات التي تطرأُ على سلوكيات الحيوان بعد إتلاف كلٍّ من هذه المناطق المختلفة، وقد بينت هذه الدراساتُ وجود منطقتين مهمتين في الوطاء تتحكمان بشكلٍ متبادل في عملية الأكل:
٠ المنطقة الأولى:
تُوجد في الجزء الجانبي Lateral من الوطاء؛ وهي ما نستطيع تسميتها بمركز الجوع Feeding Center، وإتلافُ هذا المركزِ يؤدي -بوجهٍ عام- إلى تقليل الأكل، بينما تؤدي استثارته من خلال لاحبٍ مجهريٍّ (مَسْرَى مِكْرَوي) مزروعٍ Implanted Microelectrode فيه إلى استثارة سلوكيات الأكل.
٠ المنطقةُ الثانيةُ:
تُوجد في الجزء البطني الوَسَطِيِّ Ventro-Medial من الوطاء؛ وهي ما نستطيع تسميتها بمركز الشبع Satiety Center، وإتلافُ هذا الجزء يؤدي -بوجهٍ عام- إلى زيادة الأكل إلى حد البدانة، بينما تؤدي استثارته من خلال لاحبٍ مجهريٍّ مزروعٍ Implanted Microelectrode فيه إلى الشعور بالشبع وتقليل الأكل (Rolls , 1975).
إلا أن الأمرَ لم يكنْ أبدًا بالبساطةِ التي بدت للعلماءِ لأول وهلة، حيث إن الفأرَ الذي أتلفَ مركزُ الجوعِ في وطائه أثبتَ أنه يستطيعُ تكييف سلوك أكله بالرغم من ذلك! لأن ما يحدث في هذا الفأر ليس البقاءَ على حالٍ واحد، ففي هذه الحالة التي تعرفُ باسم زملة الوطاء الجانبي Lateral Hypothalamic Syndrome يمرُّ الفأرُ بثلاثِ مراحل، في المرحلة الأولى يرفضُ الأكل والشربَ تمامًا، ويموتُ إذا لم تتم تغذيته بالحقن، وبعد عدةِ أسابيعَ تبدأُ المرحلةُ التاليةُ في معظم الحالات؛ وفيها يأكلُ الفأرُ الأغذيةَ الطريةَ السهلةَ الأكل فقط، ولا يشرب، وفي المرحلة الثالثةِ يستعيدُ أكله الطبيعيَّ؛ بما في ذلك الأطعمةُ الجافةُ الصلبةُ ويشربُ أيضًا! ويعاودَ تنظيمَ وزن جسده، وإن كانَ في وزنٍ أقلَّ من وزنه الأول قبل الإتلاف! ومعنى ذلك أن هناكَ مركزًا أعلى يمكنُ أن يتولى وظيفةَ إشعاره بالجوع حتى بعد تدمير الجزء الجانبي من الوطاء.
وأما الفأر الذي يتمُّ تجويعه قبل إحداث الإتلافِ فأنه لا يمرُّ بالمرحلة الأولى بل إنه ربما يسرفُ في الأكل حتى بعد تدمير الجزء الجانبي من الوطاء! ولكن فقط ليصل إلى وزنٍ أقلَّ من وزنه الأول (Mitchell & Keesey , 1974).
وأما في الفأر الذي يتمٌّ إتلافُ مركزِ الشبع Satiety Center في وطائه والذي تعرفُ حالته بزملة الوطاء البطني الوسطي Ventro-Medial Hypothalamic Syndrome فيمرُّ بمرحلتين؛ تستمرُّ الأولى بين 4 أسابيعَ و12 أسبوع، ويأكلُ فيها كل شيءٍ بشراهةٍ إلى حد أنه قد يزنُ ثلاثةَ أمثال وزنه الأصلي! لكنه في المرحلة الثانية يكفُّ عن شراهته تلك فينقصُ كميةَ أكله إلى ما هو أعلى بقليلٍ من الطبيعي، ويعاود القدرةَ على المحافظة على وزنه الجديد السمين، كما أنه يظهرُ حساسيةً أكثرَ للأغذية ذات الطعم الشهي، ويصبحُ أضعفَ أمامها منه أمامَ الأغذية المعتادة له! كما أنه إذا قمنا بتقليل الطعام المتاح له سيعود مرةً أخرى إلى وزنه الطبيعي، وإذا سمحَ له بأكل ما يشاءُ مرةً ثانيةً فإنه سيعود إلى وزنه السمين الذي كان قد وصله من قبل.
ومعنى ذلك أيضًا أنَّ هناكَ مركزًا أعلى يمكنُ أن يتولى وظيفةَ إشعار الحيوان بالشبع حتى بعد تدمير الجزء البطنيِّ الوسطي من الوطاء، أو أن هناكَ مراكزُ تحكمٍ أخرى تتولى تنظيم الإحساس بالشبع ووزن الجسد، وإن كانَ تدمير الجزء البطني الوسطي أو الجزء الجانبي من الوطاء يغير مرحليا من آلية التنظيم هذه، ولكن الحيوانَ يعاود القدرةَ على تنظيم وزنه بعد فترةٍ؛ في مستوى أثقلَ من سابق عهده في حالة تدمير مركز الشبع الوطائي، وفي مستوى أقل من السابق في حالة تدمير مركز الجوع الوطائي (Mitchell & Keesey , 1974).
والحقيقةُ أن مثل هذه النتائجُ قد أوصلت بعض العلماء إلى افتراض وجود نقطةٍ محددةٍ لوزن الجسد Set Point هي النقطةُ التي تناسبُ هذا الجسد وتصبحُ عملياته الحيوية المختلفةُ أكثرَ انتظامًا وانضباطًا مادام في حدود هذه النقطة، وأما دور مركزي الجوع والشبع الوطائيين فهو التأثيرُ التبادليُّ Reciprocal Effect على هذه النقطة المحددة، بحيث إن تدمير مركز الجوع يؤدي إلى إنزال هذه النقطة وبالتالي يصبحُ الجسد متزنًا عند وزن أقل من السابق، والعكس يحدثُ عند تدمير مركز الشبع فترتفعُ النقطة المحددةُ للجسد، بل تبين بعد ذلك أنه لو تم التدمير الجزئيُّ لمركزي الشبع والجوع الوطائيين بالتساوي فإن الحيوان لن يغير من كمية أكله بعد الجراحة وسيحافظُ على وزنه الأصلي (Keesey & Powley , 1975).
وذهبَ علماءُ آخرونَ إلى أن التأثيرات الناجمة عن تجارب تدمير أجزاء من الوطاء ليستَ نتيجة تدمير خلايا الوطاء وإنما نتيجةُ تدمير القنوات العصبية Nerve Tracts المختلفة التي تمر بالوطاء، والذي يؤثرُ على نشاط الجهاز العصبي المستقلي Autonomic Nervous System بشكلٍ يغيرُ من عمليات الأيض (الاستقلاب) الحيوية، ومِن نسب تحول المواد الغذائية إلى دهون واختزانها في الجسد بدلَ استخدامها لإنتاج الطاقة، ومعنى ذلك أن الحيوانَ الذي دمر الجزءُ البطني الوسطيُّ من وطائه Ventro-Medial Hypothalamic Syndrome يأكلُ أكثرَ مما كانَ يأكلُ قبل الجراحة لأنه لا يستطيعُ استخدام ما يأكله في إنتاج الطاقة بنفس الطريقة التي كانَ عليها قبل الجراحة، وتكونُ النتيجةُ هي زيادةُ الوزن.
كما بينت الدراسات الأحدثُ أن إتلافَ مناطقَ أخرى من الوطاء كالنواة جار البطينية Paraventricular Nucleus والنواةُ الظهرية الوسطية Dorsomedial Nucleus يؤدي إلى نفس نتيجة إتلاف النواة البطنية الوسطية من الوطاء (Kalra et al.,1999).
وأما في زملة الوطاء الجانبي Lateral Hypothalamic Syndrome فقد تبين حدوثُ التلفِ في حزمة عصبيةٍ هي الحزمةُ السوداءُ المخططة Nigro-striatal Bundle (والتي تمتدُّ ما بين منطقتين في الدماغ المتوسط هما المادةُ السوداءُ والجسد المخطط)، وهذه الحزمةُ تنشطُ إقدامَ الكائن الحي على العديد من أنواع السلوك المختلفة وليسَ الأكل فقط، وتدميرها يؤدي إلى العجز أو ضعف القدرة على الانخراط في العديد من النشاطات بما فيها الأكل (وهذه الحزمةُ هي ما يصيبها الخلل في مرض الشلل الرعاش Parkinson's Disease والذي يظهرُ فيه البطءُ وضعفُ القدرة على الشروع في الحركة والنشاط)، وقد تبينت صحةُ إرجاع أعراض زملة الوطاء الجانبي إلى تلف الحزمة السوداء المخططة أكثرَ ما تبينت عندما أوضحت تجارب أخرى أن كل الأعراض تحدثُ عندما يتم إتلافُ هذه الحزمة خارجَ منطقة الوطاء (Friedman & Stricker , 1976).
والواضحُ مما سبقَ أن التفسيرات المختلفة التي وضعها العلماء لتفسير أعراض زملتي الوطاء الجانبي والبطنيُّ الوسطيُّ في محاولة لفهم الآليات الدماغية المنظمة لسلوكيات الأكل هي تفسيراتٌ متباينةٌ، فقد تراوحت أفكارهم من مراكز الجوع والشبع إلى افتراض نظرية النقطة المحددة إلى التأثيرات المحتملة لإتلاف القنوات العصبية التي تمرُّ بمنطقة الوطاء، والواقعُ أن الوطاءَ ما يزالُ مركزَ العمل وإن كانَ الفهم العلمي الحديثُ قد بدأ يبتعدُ عن التفسيرات البسيطة في كل ما يتعلق بالسلوك والمخ، كما أن القناعةَ العلمية الآن هي أن التفسيرات القديمة لنتائج إتلاف مناطق معينةٍ من الوطاء وتأثير ذلك على سلوكيات الأكل في الحيوانات كانت كلها تفسيراتٍ مفرطةٍ في التبسيط، وهو ما تبين بعده عن الحقيقةِ، والأمر يزدادُ تعقيدًا إذا نظرنا إلى الإنسان (Kalra et al.,1999).
فإذا وصلنا إلى الإنسانِ فإنني سأقفُ عزيزي القارئ عند الوطاءِ كما نفهمه اليومَ باعتباره الجزء من مخك المسؤول عن التأكدِ من أنكَ تُلبي حاجياتكَ الأولية ككائنٍ حي، ومن أهمها الأكل (والشربُ والنومُ ودرجةُ حرارة الجسد)، وربما الجنسُ، إنها باختصار هي مخكَ المُطَعِّم Feeding Brain، كما أنني سأقفُ أيضًا عند الجهاز الحوفي Limbic System وهو مخكَ العاطفيُّ والانفعاليُّ Emotional Brain الذي يبحثُ عن الحِسِّ في كل شيءٍ حولكَ ومن كل الناس، عندما تحسُّ أنكَ تريدُ أن تحتضنَ كل ما تراه من حولك من أشخاصَ ومن أشياءَ وأن تُحْتَضَنَ أنتَ من كل من تراه لأنكَ شخصٌ محبوبٌ ومرغوبٌ فيه، لنجدَ أن الجهاز الحوفي هو الممرُّ الذي يتمُّ فيه الربطُ بين المشاعر والطعام وهو أيضًا مكانُ الكثير من المعلومات المؤثرة في الشهية.
وإذا كانت تجارب العلماء على الحيوانات قد بينت ما نستطيعُ قبوله من افتراضات في الإنسان، فإن معظمَ هذه الافتراضات الآن يرى أن مركزَ الجوع الوطائي هو في حالة نشاط مستمرٍّ ما لم يقم مركزُ الشبع الوطائي بتثبيط نشاطه (Ganong ,1999)، لكنَّ الواضح أن سلوك الإنسان تجاه الأكل ما يزالُ أعقدَ من ذلك لأن القشرة المخية تستطيعُ التأثير في المخ المطعِّمِ والمخ العاطفي والجهاز الحوفي، وكل ما نستطيع قوله على مستوى الإنسان ما يزالُ افتراضيا، لكننا نستطيعُ الآن أن نقول إن هناكَ نوعين من آليات تنظيم الجوع والشهية أحدهما هي الآليةُ أو الآليات القصيرةُ الأمد Short Term Regulation التي تنظمُ الجوع والشهيةَ والشبع ما بين وجبةٍ ووجبة، والأخرى هي الآليةُ أو الآليات الطويلةُ الأمد Long Term Regulation التي تنظمُ الأكل (الجوعَ والشهيةَ والشبعَ) ووزن الجسد أيضًا على المدى الطويل. والواضحُ عند الحد الحالي من المعرفة هو أن مقدار فهمنا للآليات قصيرة الأمد أكثرُ من مقدار فهمنا للآليات طويلة الأمد، فالآليات الأخيرةُ تبدو معتمدةً على الكثير من العوامل المتداخلة بشكلٍ معقد.
المراجع
1) Rolls , E. T. (1975): The Brain and Reward. Pergamon Press , Oxford.
2) Mitchell , J.S and Keesey , R. E. (1974): The Effects of Lateral Hypothalamic Lesions and Castration Upon The Body Weight of Male Rats. Behavioral Biology , Volume 11 , Page: 69-82.
3) Keesey ,R. E. and Powley , T. L. (1975): Hypothalamic Regulation of Body Weight. American Scientist, V. 63, P.:558-565.
4) Kalra, S. P., Dube, M., Pu, B. Xu, T. L. Horvath, & P. S. Kalra. (1999): Interacting appetite-regulating pathways in the hypothalamic regulation of body weight. Endocr. Rev. 20:68–100.
5) Friedman , M. I. and Stricker , E. M. (1976): The Physiological Psychology of Hunger: A Physiological Perspective. Psychological Review, Volume 83 , Page: 401-431.
6) Ganong , W. (1999): Central Regulation of Visceral Function , In Jack and DeLoris Review of Medical Physiology , 19th Edition , Middle East Edition , Appelton and Lange, Lebanon.
واقرأ أيضًا:
ماذا نفعل مع الطعام في الأوقات الحرجة؟ / أولا لا تعبدي الصورة وثانيا تابعينا / الأصل وصورة المرآة: وما أدراك ما المرآة / مسارُ البدانة من الصحة إلى المرض