أسلوب يتم إعتماده لترويض النفوس على العجز والاستسلام والركون لليأس وعدم القدرة على التحرك إلى الأمام. والإنهاك بمعنى استنزاف الطاقات البشرية في غير مواضعها ومساراتها التي يجب أن تكون عليها وتتحقق فيها. وبهذا فهو أسلوب لتبديد القدرات المعرفية والفكرية والإبداعية وكل ما يرتبط بالحياة من آليات لصناعة البناء والارتقاء.
وقد لعب الإنهاك النفسي دوره الكبير في حياة مجتمعاتنا على مدى القرن العشرين ولا زال مؤثرا ومتحكما في صيرورات سلبية وتداعيات مأساوية في عدد منها. وهو من أهم الأسباب التي أدت إلى المراوحة أو التقهقر الحضاري الذي ألمّ بالأمة.
فبعد سقوط بغداد والأندلس تم الاستثمار في ترويض العقلية العربية وإنهاك النفس والروح, وتدمير كيان الحضارة والتقدم والارتقاء, وزرع الشعور بالدونية والتخلف والانكفاء في أعماق النفوس حتى صارت الأجيال تلو الأجيال تصدّق بأنها عاجزة ومتخلفة وغير قادرة على الحياة.
وهذا الشعور السلبي دفعنا إلى عدم القدرة على إطعام أنفسنا وبناء أوطاننا, والانحسار في زوايا الضعف وفقدان الثقة بالنفس وعدم رؤية المستقبل وانعدام آليات قراءة أبجديات الحاضر, والتخبط في موضوعات تساهم في إبعادنا وتدمير قدراتنا وتطلعاتنا, فصار المثقف فينا منبوذا ومحاصرا ومتهما, مما أدى إلى التراخي والترامي في أحضان الآخرين.
ومن أبشع النتائج التي نجمت عن الإنهاك النفسي هي صناعة الاستبداد, لأن الإنسان الذي تفاعلت في أعماقه عوامل الضعف والعجز والاستسلام, راح يبحث في لاوعيه عمّا يمكّنه أن يتدبر أمره ويفعل فيه ما يشاء, فكان لابد من الكراسي الحديدية التي تقبض على مصير الناس وتتحكم بوجودهم وترسم خارطة حياتهم وتأخذهم إلى حيث تريد. وهذه الكراسي التي خلقتها الحاجات النفسية الخفية, تعاني من ذات العاهات النفسية والمشاكل الحضارية, فأوجدت ما ينطبق عليه المثل (وافق شنٌ طبقه).
وفي هذه المحنة الحضارية التي امتدت لأكثر من قرن شديد مشحون بالخسائر المتوالية والتداعيات المتكررة والمتراكمة, أصبح الإنسان بارعا في خلق المشاكل وتطويرها, وفقدان أية قدرة لديه على حلها. فالمشاكل عندنا تُرحّل ولا تُحل.
ومن أفظع الآليات التي قيّدت القدرات, هي آلية الترحيل إلى الماضي, فصار تفكيرنا وطاقاتنا تنصب في موضوعات بائدة لا تنفع أبدا, فترى العقول مشغولة بمشاكل حصلت قبل عدة قرون, وتحمل أفكارا أورقت في حينها وأكدت دورها وتأثيرها, لكنهم يريدون التفاعل معها اليوم. وهذه الآلية الخطيرة, أسهمت في إلغاء المعاصرة والتفاعل المستنير مع الواقع الإنساني الذي صرنا نسير بعكس اتجاهاته. وبسبب ذلك فإن المشاكل القائمة ما هي إلا نتيجة للاجترار المرعب لحالات أكلها التراب وما عادت تصلح للحياة, وإنما هي عبءٌ ثقيل عليها.
لكن النفس المنهوكة العاجزة المملوكة المسحوقة والمعبأة بالسلبيات والمخنوقة بالتداعيات, لا تجد أفضل من هذا التلهي والعبث بما ذهب مع الريح.
وأصبحنا وكأننا نعيش في حالة خرف حضاري كالمريض المصاب بالخرف, فهو لا يدري ما يدور حوله ولا يعرف جديدا أو حاضرا, لكنه يحدثك عن طفولته بإسهاب, وكأنه يعيش تلك اللحظات بانفعالية واضحة تؤكد انقطاعه التام عن زمنه وفقدان القدرة على التخطيط للمستقبل.
وتلك محنة أمة عليها أن تستفيق لكي تواجهها بشجاعة وقدرة على الوثوب إلى الأمام وليس بالغوص في سوالف الأزمان.
مع خالص الود والتقدير
واقرأ أيضاً:
ديناميكية انهيار الطغاة..!