جلوساً كنا في قاعة كبيرة لمؤتمر علمي رفيع المستوى، عني باللغة العربية وإشكالية الُهوية، شارك فيه شخصيات علمية لامعة من أقطار عربية شتّى، وأثناء جلسة علمية فجر أحد المشاركين “قنبلة لسانية” بقوله: لدينا مشكلة لغوية يجب التصدي لها، وتتمثل -في رأيه- بوجود كلمات أجنبية لا ننطقها بشكل سليم وساق لذلك نموذجاً يتمثل في: كلمة “إنجليزي”، واستطرد بالقول إننا نلفظها بـ “الجيم”، مع أنها ليست بالجيم في لغتها الأصلية English، فهي أقرب ما تكون إلى “الجيم القاهرية”، ثم طلب ذلك المتداخل رأياً لسانياً مختصاً في هذه المسألة وكان حاضراً معنا في القاعة، وعجبت أن الطرح توجه بالقول إلى أن هنالك كلمات أجنبية كثيرة، لا نحسن نحن العرب نطقها كما هي في لغاتها الأصلية، وما الحل عند أولئك الإخوة المختصين؟ الحل يكمن في إدخال حروف جديدة إلى البناء اللغوي للعربية. وكثيرة هي الحروف التي يقترح البعض “إقحامها” في الضاد ومنها: گ پ چ... وغيرها.
ويزعم البعض أن اللغات المتطورة التي تتوخى لنفسها درجة كافية من التجدد والحيوية تتجه إلى تطوير منظومة الحروف لديها، بما في ذلك إضافة أو ابتكار حروف جديدة. هكذا يزعمون، وهكذا يظنون. ونحن نعلم جميعاً أن مجامعنا اللغوية قد قطعت في هذه المسألة برفضها المطلق إدخال أو ابتكار أي حرف في المنظومة اللغوية للعربية، لأسباب عديدة ومن أهمها أنها لغة معيارية حققت “اكتمالاً مستقراً” في بنائها اللغوي. مع تقرير المجامع بأن الكلمات الأجنبية تنطق بأقرب الحروف العربية إليها، وهكذا تحل مشكلة النطق بتلك الكلمات، وهي ليست مشكلة عويصة، والعربية ليست بدعاً، فكل لغات الدنيا تعجز عن نطق كل الكلمات الأجنبية كما هي في لغاتها الأصلية. ومما يؤسف له أن بعض الداعين لمثل تلك المبادرات اللغوية الخطرة يرشقون المجامع اللغوية والعلماء الذين يتصدون لمثل تلك “الرخاوة اللغوية” بالتشدد والجمود، وليس صحيحاً ما يزعمه البعض -مثلاً- بأن اللغة “من موضوعات الوصف كالتشريح، لا مجموعة من القواعد كالقانون” (تمام حسان، اللغة بين المعيارية والوصفية، عالم الكتب، 2000م، ص 23)، فاللغة العربية قائمة على قواعد معيارية مستقرة.
وفي هذا المقال سأعرض لبعض فوائد ذلك التشدد “المزعوم” والجمود “المتوهم” في سياق حضوري لذلك المؤتمر اللغوي المميز.
حين انتهى أولئك الإخوة من طروحاتهم المؤيدة لما أسميته بـ”الرخاوة اللغوية” -وأرجو ألا يعتبوا عليّ في ذلك- أخذتني موجة من التأمل داخل أروقة القاعة.. فجلست أنظر ذات اليمين وذات الشمال، والتقط الكلمات والنبرات، فتجسدت أمامي “عبقرية الضاد” وقدرتها الفائقة على توصيل الأفكار والمعاني والدلالات فيما بيننا، وقد توافد المشاركون في المؤتمر من بلاد المشرق والمغرب العربيين، وجاء آخرون من خارج العالم العربي، فبعضهم يدرّس في جامعات غربية، وتأملت ملياً المشهد اللغوي، وطربت كثيراً لجودة اللغة الفصيحة المستخدمة وسلامتها وجودتها، مع تنوع نطق المشاركين بالضاد والتزامهم بقدر كبير من “الصلابة اللغوية” في جوانبها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية.. نعم مدهشة أنت أيتها الضاد في توحيد ألسنتنا وضبط كلماتنا، مع أننا متنوعون من حيث القطر والتخصص والخلفية العلمية والفكرية.. كيف تتوفرين -وأنت اللغة المعمرة- على كل هذا القدر الباذخ من الفعالية التواصلية؟
إنه “التقنين الدقيق” الذي بناه العلماء الجهابذة وفق منهجية علمية صارمة، أفلحت في تشييد “معيارية اللغة العربية” أو ما يمكننا تسميته بـ”الصلابة اللغوية للضاد”، وتأملوا معي حال الضاد لو أننا تساهلنا في تطبيق بعض الأفكار والمبادرات اللغوية التي من شأنها خرق المعيارية بطريقة أو بأخرى. تخيلوا معي أن عملية تطبيق تلك الأفكار والمبادرات قد بدأت قبل مائة سنة من عقد ذلك المؤتمر اللغوي، فكيف يمكن لنا أن نتخيل واقع اللغة العربية في جلساته؟ مؤكد بأن التخيل صعب للغاية، ولكي أقرب الصورة -كما أراها- فسوف ألجأ إلى الصورة المجازية التالية:
يطرح البعض أفكاراً ومبادرات لغوية من شأنها -في رأيهم- تعضيد المرونة اللغوية للضاد وزيادة حيويتها العصرية، ولذلك فهم يؤيدون تطبيقها وإن كان يؤثر سلباً على معيارية الضاد (الصلابة اللغوية)، فالمرونة والحيوية مطلب ملح كي تبقى اللغة وتزدهر في استجابتها لتحديات العصر ومتطلباته. هكذا يقررون، وما علموا أن تلك الأفكار والمبادرات ستخلق شرخاً كـ”رأس المثلث” في “السطح الزجاجي” للغة، والحياة الاجتماعية والثقافية بحراكها وتنوعها ستجعل طرفي الشرخ ينموان في اتجاهين متجافيين، ليوسعا من ثم “الفجوة اللغوية”، وليسهما في ضعضعة المعيارية وخرقها باستثناءات متزايدة؛ يرى كل فريق بأنها مبرَّرة ومحقِّقة لقدر جيد من المرونة والحيوية، وذلك كله سيقودنا إلى التباعد والتنافر في الألسن والأساليب والتراكيب والأصوات والدلالات بمرور الوقت، الأمر الذي قد يدفع “المعيارية الأم” إلى ولادة قيصرية لمعياريات عربية فرعية مشوهة، مع تلبسها بالبعد القطري لكل بلد أو ناحية جغرافية. وتلك هي بداية النهاية للضاد المعيارية، لا سمح الله.
وهذا ما يجعلني أشدد على خطورة “الرخاوة اللغوية” وحتمية التمسك بـ”المعيارية” أو “الصلابة اللغوية”.
طبعاً، ما سبق، لا ينفي الحاجة الماسة إلى بذل جهود بحثية وفكرية وإعلامية وتربوية تستهدف تفعيل خصائص الضاد في البعد التركيبي والصوتي والأسلوبي والدلالي لجعلها تتفاعل بشكل أفضل في سياق المستجدات والتحديات العصرية، خاصة أننا نعيش في ثورة اتصالات هائلة، ولعلنا هنا نستذكر “النبوءة اللسانية” التي قال بها الكاتب والروائي الإسباني “كاميلو خوسيه سيلا” - الحائز على نوبل 1989م والمتوفى 2002م- حيث أكد على أن ثمة أربع لغات فقط تمتلك مواصفات “اللغات العالمية” و”التداول الإنساني” في سياق ثورة الاتصالات، وهي: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية (أنظر: سليمان العسكري، أزمة العربية أم أزمة التعريب، مجلة العربي، ع 545، 2004م، ص 11).
وهنا أشدد على أن تلك النبوءة تؤكد على حتمية تلبسنا وتمسكنا بـ”الصلابة اللغوية”، فثورة الاتصالات والثورة التقنية أوجدتا ظواهر وإشكاليات لغوية جديدة، ومنها أن عالمنا المعاصر صنّع “لوحة مفاتيح كونية”، أسهمت في نقل “الفعل الكتابي” من كونه “فعلاً نخبوياً” إلى “فعل شعبوي”، وهذا يعني -ضمن أشياء كثيرة- أن مختلف الفئات الشعبية باتت تمتلك قدرة على التأثير لا على “اللغة المنطوقة” فحسب، بل على “اللغة المكتوبة” أيضاً، وكل ذلك مؤذن بتزايد التهديدات اللغوية وآثارها المدمرة على أبنية اللغات وتماسكها، فالعامة بطبعها تستسهل الأخطاء اللغوية ولا تعبأ بها، بل تراكم تلك الأخطاء وتعمل على توثيقها ودحرجتها، لتشوه اللغات وتدفعها إلى نوع من التشظي وربما الانتحار اللغوي. وهنا تكمن خطورة قاتلة. ولنأخذ مثالاً واحداً على ذلك، فلوحة المفاتيح الكونية دفعت بالكثيرين إلى فعلٍ كتابيٍ مشوهٍ لآية قرآنية كريمة، حيث وجدت تناقلاً لخطأ شنيع في قول الحق تبارك وتعالى في سورة الأحزاب (25): {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}، فكثيرون يضيفون كلمة “شر” لتصبح “شر القتال”، وقد أظهر محرك “قوقل” أن ذلك الخطأ وقع فيما يقارب 36 ألف حالة كتابية، في حين أن الصواب يقدر بنحو 56 ألف حالة فحسب، وربما يغالب الخطأ الصواب بعد زمن قصير، وليتكم تتابعون ذلك مستقبلاً. بل إنه قد غلبه فعلاً، فبحذف لفظ الجلالة (الله) من النص غير الصحيح، ُيظهر محرك “قوقل” أكثر من 49 ألف حالة كتابية تتضمن ذلك الخطأ الشنيع (شر القتال). وهذا يعني أن الفعل الكتابي الخاطئ قد تغلب فعلاً على الصحيح بنحو 30 ألف حالة كتابية، وهو في نمو مطرد كما يبدو، وذاك كان إزاء جزء مقدس من الضاد (النص الديني)، فما بالكم بالجزء غير المقدس منها؟ (تاريخ البحث في قوقل 20-4-2012م، الساعة 2 فجراً).
ولإيضاح معالم أخرى من خطورة “الرخاوة اللغوية”، أشير إلى الفرق البيّن بين الفعل الكتابي في المشهد البحثي والفكري العربي والفعل الكتابي في المشهد الصحافي العربي، فالمشهد الأول أخذ بحظ كبير من “الصلابة اللغوية”، مما عضّد القدرةَ التواصليةَ للضاد فيما بين العرب المعاصرين في حقل الكتب والبحث العلمي والفكري، في حين اكتفى المشهد الصحافي بقدر قليل من تلك الصلابة، الأمر الذي أدى إلى جعل الصحافة العربية تتلبس بقدر كبير من “اللغة القطرية”، مما يقلل من فهم العربي المعاصر للصحافة القطرية خارج بلده، مع وجود درجة من التقارب في اللغة الصحافية بين بلاد المشرق العربي من جهة، وبلاد المغرب العربي من جهة أخرى.
وكل ما سبق من عوامل وظواهر وحيثيات وأمثالها كثير ليؤكد على ضرورة التمسك بـ”الصلابة اللغوية”، إن كنا نروم لغة موحِدة لنا، ومعلية لشأننا الحضاري، ومعززة لاقتصادياتنا العربية؛ وفق منظور تنموي تكاملي استراتيجي.
واقرأ أيضاً:
اللغة العربية.. عداء الذات!/ اللغة العربية.. عداء الآخر/ اللغة العربية في إسرائيل/ من إهانتنا للغة العربية/ الإنسان العربي المعاصر.. ولغتنا العربية/ لغتنا الجميلة... واحد / صفر/ لغتنا الجميلة/ القوةُ تفني ذاتها.. اللغة الإنجليزية نموذجاً!