أول عمل نفسي علمي قمت به، كان تقديما لحالة مَرضية أمام عدد من الطلبة والأساتذة، عندما كنت طالبا في الكلية الطبية وفي المرحلة النهائية، وكانت الحالة التي قدمتها "كتاتونك شيزوفرينيا".
وكان المرحوم الأستاذ فخري الدباغ هو المشرف على ذلك التقديم، ووفقا لإرشاداته وتوجيهاته أمضيت وقتا في البحث وجمع المعلومات عن الحالة، كما أضاف للموضوع الكثير من خبراته وتوصيفاته لهذا المرض. وفي يوم التقديم دعي إلى اجتماع في بغداد، فأنابت عنه الأستاذة نجاة الصفار، وهي أول طبيبة نفسية عراقية. وتم التقديم في قاعة "ممتاز قصيرة" في كلية طب الموصل وسط حشد من الحضور، وحسبت أن اسم الدكتور فخري الدباغ قد اجتذبهم لأنه يتميز بإلقائه المشوق وتقديمه الرائع للمواضيع النفسية.
وكان المريض شابا فيه جميع أعراض وعلامات المرض، وكان معي على المسرح، وقد أوضحت تلك الأعراض والعلامات وسط دهشة الحاضرين.
وبعد أن دارت الأيام، أراني اليوم أمام حالة كتاتونك شيزوفرينيا لشاب في العقد الرابع من العمر، وكأنني أمام تلك الحالة التي قدمتها عندما كنت طالبا، لكن المريض من مجتمع آخر، وهو لا يتكلم، فعامل اللغة قد انتفى، لكن تلك الأعراض والعلامات التي قدمتها أجدني أواجهها وأقدمها لفريقي العلاجي.
نعم إنها الكتاتونك شيزوفرينيا
لا فرق بين أعراضها وعلاماتها التي أدهشتني عندما كنت طالبا وبعيدا عن الطب النفسي وما أجده في مريضي اليوم.
ذلك المريض كان في مجتمع غير مجتمع مريضي الحالي، لكن الأعراض واحدة والعلامات متماثلة، وفي ذاكرتي نهضت تلك الصورة التي أراها تماما في هذا المريض.
فهل أن الثقافة واللغة والأسباب الاجتماعية وغيرها الأخرى هي التي صنعت الحالة، كباحث ودارس ومهتم بهذا المرض، يصعب عليّ تفسير ما أراه بأسباب خارجية، فلا يمكن أن تتطابق الأسباب في الحالتين. وهذا يعني أن السبب عضوي ودماغي.
فعندما يُصاب الإنسان بجلطة دماغية في النصف المهيمن من الدماغ، نجد بعض المرضى يستطيعون فهم الكلام لكنهم لا يتمكنون من التعبير بالنطق الصحيح، وكما نعرف فإن منطقة ورنيكا مسؤولة عن الفهم والإدراك ومنطقة بروكا عن التعبير الكلامي للفهم. وربما تصاب الروابط فيما بينهما، فترى المريض يفهم ويتكلم بلا انتظام.
وفي حالة الكتاتونك شيزوفرينيا، يبدو المريض يفهم كل شيء ويؤديه حركيا، لكنه يعجز عن الكلام، وترى ملامح وجهه وتعبيراته مؤكدة للفهم.
فمريضي يتبع الأوامر بالتفصيل ويشير بيديه إلى ألم قدمه اليسرى، ويتفاعل مع الطبيب المعالج بأدب وطاعة واحترام، لكنه لا ينبس ببنت شفة، إلا في بعض الأحايين عندما تخرج من فمه عبارة ما وبصورة آنية. فالخلل والإضطراب الحقيقي قد يكون ما بين المنطقتين، ونعجز عن الوصول إليه، فقد يكون التهابا أو اضطرابَ تواصل أو غير ذلك. لكننا ندري بأننا نجهل وحسب.
مريضاي في الحالتين يقدمان لي ذات الأعراض والعلامات، ولا يمكنني أن أعزو ذلك لخلفية ثقافية أو اجتماعية أو لأسباب خارجية. وهذا يعني أن المرض حالة باثولوجية بشرية وربما تشمل جميع أعضاء المملكة الحيوانية.
فلماذا يتحول البشر إلى صيرورة جامدة؟
وبوضوح أكثر، لماذا يتصمل البشر الحي؟
هل أن الموت حالات متنوعة؟
وهل الفرق ما بين الصمل والكتاتونيا، أن الأول يتحقق في بدن ميت والثاني في بدن حي.
لا أذكر أن مريضي الأول قد خرج من معتقل الكتاتونيا برغم الصدمات الكهربائية التي تلقاها والتي كنا نعطيها بطريقة بدائية. وبين مريضي الذي احتاج موافقات وموافقات لكي أعطيه صدمة كهربائية، وكأنني أقوم بإجراء عملية جراحية كبرى.
ترى أين الخلل؟
وما هو سرّ التفاعلات الكتاتونية الشيزوفرينية؟
لماذا يتجمد البدن ويفقد الإنسان النطق؟
وتراه روبوتا يتحرك أمامك وفقا لإشاراتك، ويقلدك تقليدا كاملا وبلا تردد.
هل أن الإنسان افتقد رأسه؟
أو أن دماغه أصابه الشلل، أو حل به الصمت؟
وهل أن فينا بعضا من طباع القرود؟
وهل سيرضي حاجة السؤال جواب خبير؟
وهل أن في الدماغ مراكز أخرى نجهلها كعادتنا؟
لست بصدد مناقشة العلاج وإنما بصدد محاولة الفهم والاستكناه والوعي والإدراك لسلوك بشري مبهم، قد يصيب الأمم والمجتمعات ويحولها إلى موجودات تتحرك بالإشارة عن بعدٍ أو قرب؟!!
أرى بدنا ولا أدري يراني
ويبدو مثل تمثالٍ يعاني
يُحاكي كل تحريكٍ وفعلٍ
ويرمقني بأحداقٍ كعاني
فهل وأد الزمانُ به عجيبا
وهل ركب الثرى فيها كفاني
أسائله وما نبست شفاهٌ
وجاشت في ملامحه المعاني
وأمضي في مناشدةٍ وأخرى
ويبقى يحتسي ألم الثواني
ويُعجزني بما يشكو ويُخبي
فذا جهلي بمجهول الزمان
تعالت صرخة ضبحت بروحي
تنادي فكرة نحو التداني
لتهديني بما وهبت ونالت
وتشفيني من الكرب المدانِ
فحارت في مطالبها شجوني
وتاهت في مذاهبها ظنوني
فما نابت عقول عن عقولٍ
ولا كشفت لنا ستر المكان
هي الألباب من كنه تساقت
وما وصلت إلى برج iiالعَيان
هو الإنسان ما بقيت سيبقى
جهولا جاهلا يشكو يُجاني
فقل يدري بها ربٌ عليمٌ
وما برزت لمخلوقٍ وثاني
واقرأ أيضاً:
مقالات عن الفصام والوهام / الفصام والوهام Schizophrenias & delusions