كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التوجه العربي الإسلامي بعد الربيع العربي الذي أصبح يوصف بالربيع الإسلامي أحياناً الكثير من المؤشرات تشير إلى أن التيار الإسلامي قد اختطف الثورات العربية في مصر وتونس وقريباً ليبيا كان قرار محمد مرسي باحتكار السلطة خير مثال على قلق الشعوب من المد الإسلامي بعد الربيع العربي.
هناك من ينتقد الأوضاع ويتهم العرب بأنهم غير قادرين على التوجه نحو المستقبل ويعيشون في ماضي مزدحم بالأوهام رغم ذلك فإن الجزم بأن العرب يكتفون بالنظر إلى الماضي دون المستقبل مقارنة بغيرهم من المجموعات البشرية رأي يثير مبالغ فيه على أقل تقدير ليس هناك مجتمعاً لا يتفحص تاريخه ويدرسه بصورة علمية، ويتوسع ويدرس ويحلل تاريخ المجتمعات الأخرى كذلك ليس هناك مجتمعاً لا يسعى إلى تطوير نفسه ويثور على الفساد والطغيان مهما طال به الزمن. وقبل التطرق إلى صفات المجموعة البشرية العربية يستحسن مراجعة قواعد متفق عليها في قيام الحضارات البشرية.
ولادة الحضارات:
تكتسب المجموعة البشرية تعاليم من جراء تفاعلها بالبيئة وتعامل أفرادها بعضهم مع بعض من جراء ذلك تظهر مفاهيم عند هذه المجموعة البشرية ناتجة من التعاليم التي اكتسبتها بعد ذلك تتطور التعاليم والمفاهيم إلى مقترحات تعتمد على موقع تلك المجموعة البشرية جغرافياً، وتعمل على تحريك المجموعة من أجل البقاء والتنافس مع غيرها من المجموعات البشرية المحيطة بها(1).
إن عملية اكتساب التعاليم Percepts وتطورها إلى مفاهيم Concepts ومن ثم إلى مقترحات Propositions عملية حركية قابلة للتحوير اعتمادا على المكان والزمان، والأهم من ذلك نجاحها في سد الاحتياجات الناقصة للمجموعة البشرية التي لم يتم تلبيتها والتي بدورها حيوية لبقاء المجموعة.
مع مرور الوقت تتحول العملية الاجتماعية النفسية إلى عملية انجاب معتقدات Beliefs والتي يمكن تعريفها بأنها مقترحات صادقة شرعية غير مزيفة لا جدال فيها ضمن أفراد المجموعة هذه المعتقدات بدورها تتحول إلى قيم Values يتمسك بها أفراد المجموعة ويتوارثها الجيل بعد الآخر، ويعملون على تصنيفها هرمياً على مقدار أهميتها وقوتها.
بعدها تتحول القيم والمعتقدات إلى وصفات Recipes يستعملها أفراد المجموعة إلى تنظيم جهودهم لإنجاز المهمات والواجبات التي على عاتقهم.
المجموعة العربية عبر التاريخ:
يمكن دراسة المجموعة الحضارية العربية أو بالأدق العربية الإسلامية من هذا المنظار اكتسبت المجموعة تعاليم خاصة بها تحولت إلى مفاهيم ومعتقدات ظلت سائدة حتى انهيار الدولة العثمانية أو كما يفضل البعض استعمال مصطلح الخلافة العثمانية كانت الدولة العثمانية في صراع مستمر مع غيرها من الحضارات ولكنها لم تفتح أبوابها للنهضة الأوربية التي حدثت مع إطلالة القرن السادس العشر والقريبة من حدودها كان تفاعل الدولة العثمانية مع النهضة الأوربية تفاعلاً طبيعياً دفاعياً وتوقفت عملية التطور وأغلقت حدودها خوفاً من أن تجرفها أمواج الغرب وتستعيد منها القسطنطينية.
مثل هذا التفاعل السلبي أعلاه لا تصعب ملاحظته اليوم على مستوى الأفراد والمجموعات البشرية الصغيرة في المهاجرين من العالم الشرقي والعربي في أوربا هناك الكثير من المهاجرين الصينين الذين لا يتكلمون سوى اللغة الصينية إلى اليوم في أوربا، وترى المجموعات العربية والكردية في العالم الغربي أشد تمسكاً بالمعتقدات والقيم والوصفات التي تم توارثها في الوطن الأم.
غير أن هذه المعتقدات والقيم تتأثر بالقوى الاجتماعية والاقتصادية في البيئة الجديدة متى ما نجحت البيئة الجديدة في تلبية الاحتياجات الناقصة لهذه المجموعات، تبدأ عملية ولادة تعاليم ومفاهيم ومعتقدات جديدة متى ما فشلت المجتمعات في تلبية الاحتياجات الناقصة للمجموعات الصغيرة، وتنجح بتهميشها تبدأ عملية ولادة التطرف والغلو ضمن هذه المجتمعات والتي تتحول مع الوقت إلى عملية صراع غير متكافئ.
لا تقتصر هذه العملية على العصر الحديث ويمكن دراسة ومتابعة العديد من حركات الغلاء التي ظهرت أيام الدولة الأموية للتعرف على هذه العملية الاجتماعية النفسية ولدت الكثير من هذه الحركات من جراء قلق الدولة من دخول مجموعات بشرية جديدة في الدين الإسلامي وتم تهميشهم اقتصادياً واجتماعياً تحالفت المجموعات الجديدة بدورها مع مجموعات عربية لم تفلح السلطة في تلبية احتياجاتهم الناقصة ولدت المجموعة بعد الأخرى، ورغم أن التاريخ العربي الإسلامي يمر على هذه الحركات مر الكرام مستعملاً أشد التعابير قسوة في وصفها، ولكنها في النهاية لعبت دورها في نهاية الدولة الأموية مع قيام حركة عبد الله بن معاوية والمؤيدين له من غلاة الجناحية. لكن المؤرخين أهملوا ثورة بن معاوية وبدلاً من ذلك أسرفوا في التركيز على أبي مسلم الخراساني الذي قضى على بن معاوية أولاً، وبعدها على السلالة الحاكمة في دمشق(3).
بعد انهيار الكيان العثماني الذي أرسل المجموعة العربية نحو التخلف وأسرف في تهميشها لأسباب عرقية، تم طلاق العالم العربي من الحضارة التركية، وولد العالم العربي الجديد ولكن ولادته كانت عسيرة ومعقدة لا تخفى على أي قارئ ظهرت حركات وطنية، قطرية وقومية، متعددة ومتنوعة في فكرها صاحبت عملية نمو الحضارة العربية الجديدة عوامل اقتصادية واجتماعية وعالمية متعددة ظلت تعصف به إلى يومنا هذا من جراء ذلك يمكن أن نتوقع النتائج التالية:
1- نبذ ونسيان الماضي، وقيام حركة ليبرالية بحتة تقضي على البرجوازية المتسلطة على المجتمعات على حد قول ماركس واينجل شهد العالم العربي حركات قومية يسارية متعددة في القرن العشرين والتي لعبت دورها في أحداث العالم العربي سياسياً واقتصادياً هذا الاتجاه لم ينجح في عكس مظاهر التخلف أعلاه، وفشل في قيام نهضة اجتماعية.
2- مع تحرر واستقلال العالم العربي تعرض العالم العربي إلى أكثر من عملية إيذاء واستغلال وعلى رأسها كان قيام دولة إسرائيل بصورة لا مثيل لها في التاريخ فشل العالم في حل مشكلة فلسطين إلى اليوم، سياسياً وإنسانياً، وبدأت المجموعة العربية تشعر بما نسميه أحياناً في علم النفس بانتشار الهوية وبدأت تميل إلى ممارسة الانشقاق Splitting في تعاملها مع المجموعات البشرية الأخرى شرقاً وغرباً هذا الانشقاق لم يقتصر على المجموعات البشرية خارج الوطن العربي، وإنما شمل الأقليات العربية غير الإسلامية، والأقليات العرقية الإسلامية الغير عربية.
3- مصادر الطاقة عبر التاريخ ومنذ آلاف السنين كان لها دورها الفعال في ولادة الحضارات وجد العالم العربي نفسه عرضة لمطامع الغرب في ضمان تدفق النفط والذي نجح إلى حد كبير في الهيمنة على العالم العربي بصورة مباشرة وغير مباشرة رغم أن هذا التفوق في مصادر الطاقة بدأ يتغير ولكن العالم العربي لا يزال يشهد تنافساً بين الغرب والصين في ضمان تدفق النفط هذا العامل الاقتصادي لا يزال يلعب دوره بصورة ملحوظة في شئون العالم العربي، وما يهمنا في هذا الأمر تأثيره على انتشار الهوية العربية من خلال العلاقات العربية الدولية.
جميع العوامل الثلاثة لعبت دورها في المعتقدات والقيم والوصفات الحالية التي تميز المجموعة العربية التي عانت من التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لعدة عقود من الزمن فشل النظام بعد الآخر في تلبية احتياجات الإنسان العربي الواحدة بعد الأخرى، ولم تجد المجموعات العربية سوى الماضي والدين الإسلامي تتوجه إليه بدأت التعاليم الإسلامية تتحول إلى مفاهيم ومقترحات يمكن التعبير عنها بمقولة يكثر سماعها وهي الإسلام هو الحل رغم كل الانتقاد للتعاليم الدينية ولكن الحقيقة هي أن لا بديل أفضل منها لتلبية الاحتياجات الروحية البشرية بعدها تمسكت المجموعة البشرية بمعتقدات تحولت إلى قيم ووصفات لمعالجة مشاكلها هذه الوصفة، ويبدو أنها الوصفة الوحيدة، هي دعوة الرجوع إلى الشريعة الإسلامية لإداره شئون المجموعة اقتصادياً وعلمياً واجتماعياً.
من المحتمل أن الكلام أعلاه هو الذي دفع ويدفع الإنسان العربي نحو التركيز على الماضي، ولكنه لا يختلف عن الكثير من المجموعات البشرية في ذلك بعد حركة لوثر توجه الغرب نحو العهد القديم، وبعد ذلك نحو الحضارات الكلاسيكية لم تحدث هذه العملية خلال سنوات وإنما عدة عقود من الزمن الحديث عن التوجه العربي نحو الماضي (الإسلامي) هو بصراحة الحديث عن الفكر الإسلامي الذي يسيطر على المجموعة العربية الراهنة، والذي أصبح أكثر وضوحاً بعد الربيع العربي.
هناك مثال آخر على العملية التي تمت مناقشتها أعلاه يتمثل في مشاكل شمال نايجيريا ومنظمة بوكو حرام المتتبع لولادة الحركة الأخيرة يدرك دور الجنوب النايجيري في تهميش ودفع المجموعة الإسلامية الشمالية نحو التخلف ومارس معها جميع أنواع الاضطهاد.
متناقضة التطور:
هناك ظاهرة اجتماعية يتحدث عنها علماء التاريخ والاجتماع وهي مفارقة أو متناقضة التطور(2) Paradox of Development. تعصف بالمجتمعات البشرية بين الحين والآخر عوامل تدفع بها نحو التخلف حضارياً واجتماعياً واقتصادياً هذه العوامل التي عصفت بالعالم العربي عصفت بغيره من المجتمعات ومنها تغير مناخ العالم العربي من أكثر مناطق العالم جفافاً، ويتفق جميع العلماء بأن العراق واليمن وسوريا أكثر بلاد العالم مهددة بالجفاف التام والاندثار جغرافياً، وكان لهذا العامل دوره في بلاد الصومال أيضاً يضاف إلى ذلك مشاكل التغذية والأمراض وهجرة السكان إلى مناطق أخرى كل هذه العوامل كان لها تأثيرها على المجموعة البشرية العربية، ودفعت به بتجاه التخلف ولكنها مع مرور الزمن حفزته أيضاً بالعمل من أجل التطور وبناء حضارة تنجح في تلبية احتياجات أفراده تدرك المجموعة البشرية بعد فترة زمنية بأن وصفاتها فاشلة ومن جراء ذلك تبدأ عملية تغيير القيم والمعتقدات تصاحب هذه العملية عملية بناء أخرى تبدأ بتعاليم جديدة تتطور إلى مفاهيم وتبدأ المجموعة بدراسة المقترحات الجديدة ووضع معتقدات جديدة خاصة بها.
لم يثور الإنسان العربي ليبدل نظاماً بآخر إلا من أجل التخلص من التخلف وأوبئة اجتماعية مزمنة ليست هناك وصفة معينة للتخلص من الأمراض الاجتماعية، وإن لم يكتسب الإنسان العربي الحرية ويفلح النظام السياسي الجديد في تلبية احتياجاته الناقصة فسيشهد حركة بعد أخرى حتى يصل إلى أهدافه المشروعة.
المصادر:
1- هناك الكثير من المصادر التي تشترك في استعمال التعابير أعلاه من أولى المصادر التي يكثر الرجوع إليها هو المصدر التالي:
Kroeber, A. L.; Kluckhohn, Clyde(1952). Culture: a critical review of concepts and definitions Papers. Peabody Museum of Archaeology & Ethnology, Harvard University, Vol 47(1), 1952, viii, 223
2- تحدث عن هذا الموضوع الكاتب Ian Morris وأشار إليه في عدة مواقع. للمزيد من الإطلاع يرجى مراجعة كتابه: Why The West Rules For Now(2011). Profile Books.
3- هناك الكثير من المصادر التي يمكن الرجوع إليها ومن أكثرها مراجعة: Matti Mossa( 1988). Extremist Shiites: The Ghulat Sects. Syracuse, N.Y.
نقلا عن موقع معارج
واقرأ أيضاً:
الصرع بين العلم والدجل والطب النفسي/ امرأة وفصها الصدغي/ ألم وبرد وغفران/ معاملات بشرية... قصة رجل وحصان/ العقاقير المضادة للصرع والصحة النفسية/ حلم ورؤيا من التراث إلى العلم