ثورة سلمية محمية2
لو طبقنا ما شرعه الله لنا فسنسعد في هذه الدنيا، سواء كنا مؤمنين، أو كنا كافرين، أو كنا خليطاً من المؤمنين والكافرين. إن الغذاء النافع، والدواء الموافق للداء، ينفع الجميع مؤمنهم وكافرهم، وكذلك شرع الله وحلاله وحرامه، ينفع كل من يأخذ به ويطبقه، مؤمناً كان أو كافراً. وإن تحريم اقتتال أبناء الأمة الواحدة لحل خلافاتهم السياسية نافع لنا، حتى لو كان بعضنا كافراً، فالترياق ينفعنا من حيث أننا بشر، نشترك بإنسانية واحدة، ولدينا المشاعر والعواطف والدوافع النفسية المتشابهة، فكلنا إخوة في الإنسانية، ويصلح لنا ما يصلح للمؤمنين من شرع الله وهديه.
ثم إن الكثير مما حرمه الله علينا ينطبق، حتى لو كان الطرف الآخر كافراً. فالزنا محرم، سواء كان بمؤمنة أو بكافرة، والسرقة محرمة، سواء كانت سرقة لمال مؤمن أو مال كافر، صحيح أن التحريمات كانت موجهة للمؤمنين، وكان الخطاب للمسلمين، لكننا لسنا مثل بني إسرائيل الذين أحلوا لأنفسهم أموال ودماء وأعراض غير اليهود، لأنهم كفار بالنسبة لهم، وقالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، كما حكى لنا ربنا في سورة آل عمران عندما قال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}.
وأعود وأذكر بما قلته في مقالي الطائفية والثورة في سورية حيث بينت أن آية السيف، التي أمرت المؤمنين بقتال المشركين وقتلهم ما لم يؤمنوا أو يرحلوا من أرض العرب، كانت الاستثناء من القاعدة التي هي لا إكراه في الدين، والتي تحرم دماء البشر جميعهم، مؤمنهم وكافرهم، إلا بالحق، وبحكم قاض نزيه عادل، أو دفعاً لصائل مهاجم معتدٍ. وكان هذا الاستثناء من أجل ضمان قيام دولة تحمي الاسلام من التحريف، وكان منطبقاً على المشركين العرب وحدهم في حدود ما كان يسمى أرض العرب وقتها، ولم يقم المسلمون بقتل مشرك من غير العرب لإجباره على أن يؤمن، وهم قد فتحوا بلاداً كثيرة، أهلها مشركون أو وثنيون يعبدون غير الله، فلم يستحلوا دماءهم وأعراضهم وأموالهم، إلا بما منحته لهم قوانين الحرب المتعارف عليها في ذلك الزمان، من غنائم وامتيازات للأمة الغالبة.
أن يكون لقاء المسلمين بسيفيهما لحل خلافاتهما السياسية محرماً والقاتل والمقتول فيه في النار، لا يعني أن لقاء المسلم بالكافر الذي يشاركه الوطن نفسه وينتمي للأمة ذاتها لحل الخلافات السياسية بينهما حلال، لمجرد أن الطرف الآخر كافر. كان المؤمنون في مكة قبل الهجرة مضطهدين، لكن لم يأذن الله لهم بالقتال الهجومي، إلا بعد أن صارت لهم دولة يقاتلون تحت لوائها متميزين عن غيرهم؛
أما عندما كانوا أفراداً في مجتمع مكة الذي اختلط فيه المؤمنون بالمشركين فإنهم لم يكن مأذوناً لهم بأي هجوم على المشركين حتى لو ظلموهم، ومع أن حقهم في الدفاع عن أنفسهم مكفول ومن مات دون نفسه أو ماله أو عرضه فهو شهيد فإنهم التزموا بالعزيمة، وهي أن يكفوا أيديهم مهما أصابهم من ظلم وعدوان، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وكلنا يعرف التهديد الذي أطلقه عمر بن الخطاب، عندما هاجر من مكة جهاراً نهاراً، وتوعد من يلحق به من المشركين بالموت، أي كان على استعداد لمقاتلة من يهاجمه، ولم ينكر عليه نبينا ذلك فيما بعد، لأن الإذن بالدفاع المحض عن النفس هو من المعروف، الذي تقبله نفوس البشر جميعهم، والإسلام جاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان الصحابة بلغوا مستوىً مثالياً في الأخذ بالعزائم التي أمروا بها.
فحتى لو هاجم أحياءنا وبلداتنا شبيحة أو ميليشيا تنتمي لطائفة معينة، فإن لنا الحق أن ندافع بالسلاح ونقاتل، فنقتلهم أو نقتل، لكن لا نغزو قراهم، ولا نقتل أحداً من أهليهم أو عشائرهم ما لم يكن مهاجماً لنا. ومع أن هذا يعني إعطاء الأمان للطوائف والأقوام التي ينتمي إليها المعتدون، وعدم معاملتهم بالمثل، بل إعطاء الأمان لأسر وأقرباء من اعتدوا على أسرنا وأعراضنا، فإنه أبداً ليس وليد ضعف أو جبن أو تخاذل، ولا دليلاً على شيء من ذلك، إنما هو ضبط للنفس والتزام بشرع الله مع الثقة أننا بذلك سننتصر عليهم، فالقضية ليست حرب إبادة من طرف لطرف، إنما هي جهاد من أجل حياة أفضل لجميع السوريين مؤمنهم وكافرهم، ولا يتحقق هذا الهدف إلا بالامتناع عن مهاجمة أحد منهم، إلا انتقاماً وقصاصاً، إن كنا نعرف المعتدي منهم بشخصه، وتأكدنا من هويته، لكننا نميل إلى العزيمة ما استطعنا، لأنه لا بد أنها خير لنا مما رخص الله لنا فعله مراعاة لضعفنا البشري.
في الجهاد من أجل الحرية والديمقراطية ودولة القانون والمواطنة، الهدف، هو تحييد أكبر عدد من أعوان الطاغية من أجل عزله، وتغيير مواقف أعوانه والمخدوعين به، والإبقاء على خط رجعة لهم، وعلى مكان لهم في دولتنا المنشودة، رغم تورطهم في الدفاع عن النظام الظالم، ألم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، مع أن من مات منهم في تلك اللحظة فإلى النار، أي كانوا مسؤولين عما يرتكبونه من فسق وعصيان، لكنهم كانوا لا يعلمون مصلحتهم أين، كما هو حال جند النظام وشبيحته الآن، فهم لا يعلمون أين هي مصلحتهم الحقيقية، ويظنونها مع النظام الجائر الظالم.
الكثير من السوريين يجهلون عدالة القضية التي قامت من أجلها الثورة في سورية، وهم مغرر بهم، ومتوهمون أن الثورة إن انتصرت فستكون نهايتهم، وستقطع أرزاقهم وأعناقهم، ويظنون أنهم بدفاعهم عن النظام إنما هم يدافعون عن أنفسهم وعن أرزاقهم، ولا يعلمون أنهم يبيعون أرواحهم للمحافظة على مكتسبات عصابة متسلطة على البلاد والعباد، ومستأثرة بخيرات الوطن، وتتمتع بالكبرياء في الأرض على حساب كرامة باقي السوريين، حتى لو كانوا من طائفتهم أو منطقتهم، ما لم يكونوا موالين لهم ومستعدين للموت في سبيلهم.
لن نكون قديسين، ولن نُدِر الخد الأيمن لمن لطمنا على الخد الأيسر، بل سنرد العدوان ونقاتل في سبيل أهلنا وعرضنا ومالنا حتى الموت، وهذا حق كفله لنا الإسلام، طالما أننا لم نحتمل أن نتلقى الاعتداءات، التي طالت أعراض نسائنا وأرواح أطفالنا، ندافع، ومن مات منا فهو شهيد، لكن لا نسعى إلى الثأر ممن لم يعتدِ علينا بنفسه، فنحن أمة العدل، ثم نحن في جهاد في سبيل الله، نطالب بحريتنا، وبأن نشارك في تقرير حاضر ومستقبل بلدنا، كما يشارك أي مواطن في دولة متحضرة، وليست العداوة شخصية، بل بمجرد أن نحصل على الحرية والديمقراطية ودولة المواطنة والقانون لجميع السوريين، نحتسب ما أصابنا عند الله، ونفتح قلوبنا لإخواننا مهما بلغت إساءاتهم لنا، ونبدأ معهم صفحة جديدة، أمة متحابة متماسكة، لا يفرقها عرق أو دين، تماماً كما يتحاب أعضاء الأسرة الواحدة، حتى لو اختلفوا في الدين أو العرق.... نعم نبدأ صفحة جديدة بلا أحقاد ولا انتقام، أليس قتلانا شهداء وأحياء عند ربهم يرزقون؟ وهل يصنع الانتقام فرقاً بالنسبة لهم؟
لا تتعجبوا من هذا الكلام، فهذا ديننا، لا يلاحق فيه البغاة إذا ما هُزموا، ولا إذا ما كفوا عن القتال ومالوا إلى السلم والصلح، البغاة في المجتمع المسلم هم من يخرجون بالسلاح على باقي الأمة، لغرض سياسي، يغلب أن يجدوا له مبرراً دينياً. وما أسهل أن تجد في الدين تبريراً لما تريد إن كنت ذكياً وعالماً بالتفاصيل.
قال الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب قتال أهل البغي وأهل الردة من كتابه الكبير "الأم": {والباغي خارج من أن يقال له حلالَ الدم مطلقا غير مستثنى فيه، وإنما يقال إذا بغى وامتنع، أو قاتل مع أهل الامتناع، قوتل دفعاً عن أن يَقْتُل، أو منازعة ليرجع، أو يدفع حقاً إن منعه، فإن أتى، لا قتال على نفسه، فلا عقل فيه ولا قود، فإنا أبحنا قتاله، ولو ولى عن القتال، أو اعتزل، أو جرح، أو أسر، أو كان مريضا لا قتال به، لم يقتل في شيء من هذه الحالات، ولا يقال للباغي وحاله هكذا حلال الدم، ولو حل دمه ما حقن بالتولية والإسار والجرح وعزله القتال}.
وقال الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته: {والفرق بين الباغي والمحارب: أن المحارب يخرج فسقاً وعصياناً على غير تأويل، والباغي: هو الذي يحارب على تأويل، فيقتل ويأخذ المال، وإذا أخذ الباغي ولم يتب، فإنه لا يقام عليه حد الحرابة، ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسراً ، إلا أن يوجد بيده شيء بعينه، فيرد إلى صاحبه (4)}.
وقال أيضاً: {قال الحنفية والمالكية والحنابلة، والشافعية في أظهر القولين عندهم: لايضمن البغاة المتأولون ما أتلفوه حال القتال من نفس ولا مال، بدليل ماروى الزهري، فقال: «كانت الفتنة العظمى بين الناس، وفيهم البدريون، فأجمعوا ـ أي في وقائعهم كوقعة الجمل وصفِّين ـ على ألا يقام حد على رجل استحل فرجاً حراماً بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دماً حراماً بتأويل القرآن، ولا يغرم مال أتلفه بتأويل القرآن»(2)؛ ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى كأهل العدل، ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، فلا يشرع كتضمين أهل الحرب}.
صحيح أن هذا الحكم هو في الأصل للبغاة من المؤمنين ضمن أمة مؤمنة، لكن لو تفكرنا في الحكمة من إسقاط الملاحقة عنهم، لوجدناها تتعدى كونهم مؤمنين ولهم اجتهادهم في الدين الذي قاتلونا من أجله، فالاجتهادات لا حدود لها ولا ضابط، ولا يعلم ما في قلوبهم من إخلاص لاجتهاداتهم إلا الله، لكن ذلك لا يغير من الحكم الشرعي شيئاً، ذلك أن الحكمة هي مصلحة الأمة في حقن الدماء وحماية أبنائها من أن يقتل المزيد منهم، حتى لو لم تتحقق العدالة لمن قتلوا أو عذبوا أو اعتدي عليهم خلال النزاع، لأن حفظ الأحياء مقدم على الانتقام والتشفي للأموات مهما كانوا عزيزين على قلوبنا، حيث الإصرار على الملاحقة لمعاقبة كل من ارتكب جرماً في هذه الحرب الدائرة الذي يدغدغ مشاعر من أصيبوا ومشاعر أسر الذين ماتوا؛
ثمنه سقوط المزيد من القتلى والمصابين، لأننا عندما نغلق باب التوبة في وجه هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للنظام، يصبح دفاعهم عن النظام دفاعاً عن أنفسهم وعن وجودهم، فهم إن سقط النظام، لوحقوا وحوكموا وأعدموا وصودرت أموالهم، وهم أمام هذا المصير لا أمل لهم إلا في القتال مع النظام حتى الموت، أو ينتصر النظام وتكون لهم النجاة.
هؤلاء بشر مثلنا ويحسبون الأمور بمدى المنفعة والضرر لهم، فإن طبقنا ما أمرنا به ديننا بخصوص البغاة منا مع أنهم قد يكونون كفاراً بالنسبة لنا، فإننا نستفيد من شرع الله، ونوفر أرواحاً كثيرة وآلاماً عظيمة، كانت ستستمر حتى يتم القضاء عليهم، هذا إن أمكن ذلك.
نعم نغفر لهم، ومن الآن نعدهم بالعفو والمغفرة والأمان، حتى تصبح فكرة تخليهم عن النظام واردة عندهم، وبخاصة عندما يتبين لهم أن الأمل في بقائه ضعيف، طالما أنهم لن يكونوا أسرى ماضيهم، وسيمنحون الفرصة ليبدؤا حياة جديدة كمواطنين صالحين، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
لا تستهينوا بهذا العامل النفسي المهم الذي يجعل النظام معرضاً لأن يتخلى عنه المدافعون عنه في يوم من الأيام، ولا تستهينوا بتأثير المطالبة بالمحاكمة والانتقام ولو من خلال محاكمات عادلة في جعل هؤلاء المدافعين عن النظام لا يتخلون عنه، مهما بدى لهم أنه مهزوم وآيل للسقوط، لأنهم وقتها لا يدافعون عن النظام بل يقاتلون ويقتلون الأبرياء دفاعاً عن أنفسهم، ونكون نحن الذين ألجأناهم لهذه الاستماتة في الدفاع عن النظام، مع ما تعنيه من خسائر ومعاناة كان من الممكن تجنبها.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية4
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4