لا شك أن مأساة سوريا تثير أكثر من علامة استفهام. دخلت الحرب الأهلية عامها الثالث وتغيرت زعامة المعارضة وتمثيلها سياسيا أكثر من مرة، ولا أحد يعرف من يتزعم هذه المعارضة الآن. المأساة تمثل العقم المزمن للبلاد العربية وجامعة الدول العربية في حل أزمة عربية إقليمية وتدويلها وولادة قضية لاجئين عرب يعيشون على مساعدات الجمعيات الخيرية العالمية. توج ولي العهد البريطاني قضية اللاجئين السوريين بزيارته لهم وإلقاء كلمة كان لها وقعها العاطفي على العرب. لكن السؤال ما الذي حدث في سوريا وماذا سيحدث فيها وهل حان الوقت لكتابة نعي هذا البلد قبل أن يقضي عليه الجفاف في عام 2050 بفضل سياسة تركيا المائية1. الاطلاع على هذا الغموض يتبين من متابعة مسلسل الأخبار هذه الأيام.
مسلسل الأخبار2:
في يوم 20 شباط 2013 كانت العنوان الرئيس لمجلة الإيكونيميست الواسعة الانتشار هو موت سوريا وضرورة التدخل الغربي لإنقاذ هذا البلد من دمار حرب أهلية طال أمدها. بعدها بأسبوع نقلت صحيفة التايمس اللندنية تعاون السعودية، الإمارات العربية، قطر، والأردن على شراء السلاح من كرواتيا ونقله إلى المعارضة السورية عن طريق الأردن وتركيا. شكك البعض برواية التايمس اللندنية، والتي أضافت بأن شراء ونقل هذا السلاح تم مع التنسيق والحصول على مواقفة الحكومة الإسرائيلية. تم تأكيد صحة هذا الخبر خلال 24 ساعة عندما أعلنت كرواتيا عن سحب جنودها من قوات حفظ السلام في المنطقة.
تناقلت وكالات الأنباء العالمية يوم 14 آذار 2013 تصريحات الحكومة الفرنسية نيتها إرسال السلاح إلى المعارضة السورية واستعمال حق النقض على نية الاتحاد الأوربي تمديد فترة حظر إرسال السلاح إلى المنطقة تماشياً مع سياسة الحياد في النزاع المسلح. لم يكن تصريح الخارجية البريطانية واضحاً، ولكنها لم تنكر عزمها على استعمال حق النقض وفتح البوابة لإرسال السلاح إلى بلد أصبحت أرقام ضحاياه تتصدر الأخبار بين الحين والآخر عند وصولها إلى رقم معين. احتفلت وكالات الأنباء يوم الحادي عشر من آذار بوصول رقم اللاجئين إلى المليون، وتجاوز عدد الأطفال المصابين بالصدمة إلى المليونين.
هناك اتفاق شامل بين الأطراف بأن الحكومة السورية وجيشها ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. هناك اتفاق أيضاً في الآراء بأن المعارضة السورية ارتكبت هذه الجرائم أيضاً. نقلت صحيفة التايمس اللندنية يوم 14 آذار عن تجنيد الإسلاميين من مختلف الجنسيات من المقيمين في بريطانيا للذهاب إلى سوريا رغم أن جميعهم خاضعين للرقابة بسبب ميولهم الإرهابية.
أسئلة وأجوبة:
ليس من السهولة الإجابة عن أسئلة يتم طرحها لتفسير مأساة سوريا وكتابة نعيها. كان الرأي العام العالمي في بداية عام 2011 أن الوضع الجغرافي والسكاني لسوريا يختلف عن مصر وليبيا وتونس واليمن. القطر السوري يضم عدة أقليات دينية وعرقية لها تاريخها في المنطقة وساهمت في بناء حضارته عبر التاريخ، ويجب الحرص على عدم قيام صراع عسكري يؤدي إلى حرب أهلية تدمر سوريا وقد تنتقل إلى لبنان. هذا التحليل الذي ملأ الصحف والدراسات العالمية كان شائعاً منذ قيام الربيع العربي. أثبت هؤلاء الكتاب صحة رأيهم في عواقب الصراع المسلح ولكن بدون تفسير عقم العالم العربي والعالمي في وقف هذا الصراع. هناك عدة تفسيرات يتم مناقشتها لتفسير التناقضات المتعددة في مأساة سوريا وهي:
1- النظرية العفوية: هناك من يقول بأن الحوادث في سوريا بدأت بصورة عفوية من الداخل وتقليداً للثورة التونسية. كان تعجرف بشار الأسد في ربيع 2011 وتجاهله لمطالب الجماهير سبباً في تأجيج غضبها وقيام عصيان مسلح تجاوز عتبة معينة مما أدى إلى قيام حرب أهلية ضارية. المعارضون لهذا التفكير يشيرون إلى تعدد أطراف المعارضة السورية وإلى أن زعامتها خارجية وليست داخلية. تم تغيير زعامة المعارضة أكثر من مرة وتبعاً لتوجيهات علنية من الولايات المتحدة وفرنسا3. على ضوء ذلك من الصعب القبول بالنظرية العفوية برمتها.
2- النظرية الاقتصادية: تحتل هذه النظرية موقع الصدارة عالمياً في تحليل وتفسير جميع الحوادث السياسية منذ قديم الزمان وهي ليست حكراً على المجتمع الرأسمالي. سوريا بلد فقير مقارنة بالدول المحيطة به. كان قيام الثورة نتيجة طبيعية للاقتصاد السوري المتردي وتطلع الشعب لنهضة اقتصادية ترفع من مستوى المعيشة. غير أن هذه النظرية تتعارض مع تحسن الاقتصاد السوري في الأعوام التي سبقت عام 2011 ومحافظة الليرة السورية على قيمتها في أسواق النقد العالمية لعدة أعوام.
3- القضاء على المقاومة العربية لإسرائيل: يواجه المتحدث بهذه النظرية وصمة بالولع بنظرية التآمر والعمليات الزورانية التي تهيمن عل الفرد العربي والشعوب بأسرها. المتحدث بهذه النظرية يشير إلى أن سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي عارض ويعارض قيام سلام مع إسرائيل وأقام علاقات قوية مع حزب الله وإيران. الحرب الأهلية ستؤدي إلى تورط حزب الله وإيران وسيكفل ذلك إنهاء المقاومة العربية لإسرائيل والتخلص من الإزعاج الإيراني واللبناني بدون إطلاق قذيفة إسرائيلية واحدة.
من الصعب الـتأكد من هذا الاستنتاج نظراً للحياد الإسرائيلي الملتزم حيال الحرب الأهلية السورية. رغم أن البعض أشار إلى أن هجوم إسرائيل على غزة ما هو إلا دليل على عدم صحة هذه النظرية، ولكن هناك من أشار مؤخراً إلى شلل المقاومة الفلسطينية في غزة الآن والوضع الاقتصادي المرعب فيها تحت رحمة تل أبيب بعد صيحات الانتصار الهستيرية التي صاحبت تدمير القطاع بالقصف الإسرائيلي الجوي4.
اتخذ حزب الله موقفاً حياديا في ربيع 2011، وتحول هذا الحياد إلى مناصرة لنظام الأسد. أشارت تقارير صحفية يوم 15 آذار 2013 على أن النظام السوري يتعاون مع حزب الله لتشكيل مليشيا جديدة لعهد ما بعد الأسد مع قرب تنفيذ خطة الزحف على دمشق من جنوب سوريا التي تبعد 100 كم فقط والمحاذية للحدود الأردنية والإسرائيلية5.
4- المؤامرة الخليجية : يتميز الصراع السوري عن حوادث الربيع التونسي والمصري بتأييد دول الخليج للمعارضة السورية وتشجيعها على الحرب الأهلية. يثير هذا التأييد الشكوك حول النوايا الخليجية في الحرب الأهلية السورية التي تم تحويلها من إطار مثالي حول المناداة بالحرية والديمقراطية إلى إطار إسلامي. تحول هذا الإطار تدريجياً إلى إطار طائفي بشع حول الصراع بين الإسلام السني وأعدائه من الشيعة.
صيحات رجال الدين والغلاة لا تختلف تماماً عن صيحات رجال الدين في نهاية الألفية الأولى تمهيداً للحروب الصليبية التي راح ضحيتها الآلاف من أهل أوربا وحتى قبل بداية الحرب6. يضع البعض علامات استفهام حول مساندة دول لا تعترف بالنظام السياسي الديمقراطي، وهناك من يتجاوز ذلك ويجزم على أن دول الخليج حريصة على تأجيج نار الحرب الأهلية في سوريا والحرص على دوام عدم الاستقرار في دول الربيع العربي لإثبات نظرية أن الوضع القائم أفضل بكثير من غيره.
5- الحرب على الإرهاب: يرى البعض أن الحرب الأهلية السورية هي استمرار لحرب الغرب على الإرهاب منذ عام 2001. استنتج العالم الغربي أن الإرهاب الإسلامي يتكون من قطبين وهما الشيعي تحت زعامة إيران والسني الممول خليجياً. سمحت الحرب الأهلية السورية بتجنيد أهل الإرهاب الإسلامي من جميع أنحاء العالم وسهلت دول الغرب والخليج تسفيرهم إلى الأرض السورية لمواجهة القطب الآخر من الإرهاب.
ساعدت الحرب الأهلية السورية على جمعهم في حلبة صراع واحدة وهذا بدوره يضمن القضاء عليهم مستقبلاً. في يوم 16 آذار نقلت صحيفة النجمة اليومية الصادرة في بيروت باللغة الإنكليزية عن استعداد الطيارات الأمريكية بدون طيار Drones المتواجدة في المنطقة بقتل تجمعات الإسلاميين على غرار ما جرى في باكستان واليمن.
جميع هذه النظريات يتم تداولها في الصحف الغربية ومن الصعب إثباتها. الجميع الآن ينتظر التدخل الفرنسي البريطاني بعد أن أثبت الأتراك ودول الخليج عدم قدرتهم على حسم الحرب الأهلية. ربما سيساعد هذا التدخل على تحويل الأنظار بعيداً عن الركود الاقتصادي الأوربي، وربما يساعد أيضاً على ترضية الأقليات الإسلامية في فرنسا بعد التدخل في مالي. ولكن هناك أكثر من احتمال يثير القلق:
سموم الحرب الأهلية التي تهب شرقاً نحو العراق؟
قيام دولة فلسطينية هزيلة بجانب إسرائيل ونهاية الصراع العربي الإسرائيلي؟
الحفاظ على وحدة لبنان والعراق وسوريا؟
والأهم من ذلك كله ما هو شكل النظام السوري في المستقبل وهل تغيير هذا النظام يستحق كل هذه التضحيات والدمار؟. هل يا ترى ستتحرك دول الخليج لبناء سوريا بعد تدميرها أم سيكون حال سوريا مشابهاً لمصر وتونس؟.
نقلت صحيفة الصنداي التايمس اليوم بأن قطر على وشك طرح أكثر من 8 بليون سترليني لشراء مخازن ماركس وسبنسر Marks & Spencer مما رفع من قيمة الأسهم7. في عين الوقت ترى تونس ومصر يسعون إلى قروض من صندوق النقد الدولي لا تتجاوز 2 بليون لتونس و5 بليون دولار لمصر.
ربما سيجيب المستقبل على هذه الأسئلة وبسرعة قبل أن يكتب العالم نعي سوريا قبل موعده المحدد في 2050.
المصادر:
1- انظر مقالة الإيكونيميست في 8 آذار 2013 على الأدلة العلمية التي تم نشرها في المصادر العالمية عن هذه الكارثة التي ستحل بالعراق وسوريا. رغم أن هذه السياسة العدوانية التركية عمرها أكثر من ربع قرن من الزمان ولكن الجامعة العربية تتجاهلها والمغفلون من أشباه المثقفين من العرب يتصورون أن تركيا ينتظر بعين العطف على العرب يوماً ما.
2- يمكن الاطلاع على مسلسل إلا عبر مراجعة الصحف المذكورة. تتميز أخبار سوريا بتصدرها العناوين في الغرب لبضعة أيام من أسبوعين تقريباً.
3- تم تغيير زعامة المعارضة السورية أكثر من مرة وكان تنديد هيلاري كلنتون الخريف الماضي بهم وإصرارها على التغيير علنياً.
4- انظر في صحيفة الإيكونيميست حول غزة في عدد 8 اذار 2013.
5- أشارت مراسلة التايمس من تل أبيب ومراسلها في بروكسل إلى هذه الحقائق في عدد 15 آذار 2013. الزحف العسكري المرتقب من الجنوب أشارت إليه صحيفة الإيكونيميست.
6- للاطلاع و المقارنة اقرأ كتاب الحرب في سبيل الله Battle For God لكارين أرمسترونغ الصادر من Harper Perennial عام 2004.
7- انظر الصفحة الرئيسية لصحيفة الصنداي تايمس يوم 17 أذار 2013.
واقرأ أيضاً:
سيكولوجيا النهب من منظور علمي / نظريات الثورات العربية ومقولة ابن خلدون 2012