لكل جيلٍ ثورته، والثورات بحاجة إلى تواصل الأجيال وتفاعلها والتعبير عن طاقاتها لكي تستمر.
ولكن معظم الثورات -خصوصا في العالم المتأخر- يقضي عليها القائمون بها، فهي تأكل رجالها وتمحق كل منهج وفكرة نشأت عليها، لأنها تفقد القدرة على تحويل منطلقاتها إلى برامج عمل واقتدار وطني وحضاري مفيد، مما يدفع بها إلى التقوقع والتخندق في الكراسي ومن ثم الانهيار.
وكذلك الأحزاب تهوي والحركات تنتهي، لأنها تخلق أجيالا واعية فتعجز عن إستثمار أفكارها واستيعاب آرائها ومواقفها وتطلعاتها الجديدة، وكل ما تجده مناسبا هو أن تزجها في صراعات حزبية وطائفية وحروب مهلكة.
فالثورات في عالمنا المتأخر تقضي على رجالها وأجيالها وتنهار بكامل إرادتها خصوصا عندما يتمسك القائمون بها بالسلطة، ويقمعون دور الأجيال الصاعدة في التعبير عن دورهم وصناعة حياتهم. وهي بذلك لا تحسب على الثورات وإنما انقلابات فردية وحزبية مدمرة، وطغيان سلطوي فظيع النتائج والأهداف.
ومن المعروف أن الثورات والحركات تؤسس لأجيال تختلف عنها، ولا بد لها أن تتواكب معها وتؤمن بالتغيير الذي هو من صلب طبائع الصيرورة والبقاء، وهو قانون كوني لا يمكن تحديه. فالأيام لا تتشابه وكذلك الأسابيع والأشهر والأعوام، والشمس تشرق على شيء مختلف عند الصباح.
وعلى الثورات وعي هذه الحقائق واستيعابها، وأن يكون لديها القدرة العالية على إدراك عناصر التغيير الفاعلة في الحياة والتعامل معها وفقا لحالتها المستجدة، وبعقلية تتناسب معها واقتراب يعيها ويفهم عناصر كينونتها وعوامل تناميها، لكي تكون خطاها معبرة عن حقيقة معنى الثورة وتوقدها وتفاعلها الحي مع الواقع الذي أوجدها وأتمنها على آماله وطموحاته.
إن نكران هذه الحقائق المتولدة عن تلك الطاقة الدافعة لحركة المجتمع، وبناء هيكله الثوري الجديد الطامح إلى صيرورة جارية، يؤدي إلى حالة من التنافر ما بين القائمين على الثورة، والجماهير التي امتلكت طاقات فكرية ونفسية وقدرات للتعبير عن الرأي والفعل، ولا بد من توفير المنافذ والمشاريع الضرورية لاستيعابها وتحويلها إلى قوة ترى تأثيرها من حولها.
ففي عصرنا الذي أصبح فيه العالم بأسره متجمعا على شاشة صغيرة، لا يجوز خنق الطاقات وقمعها لأنها ستأكل الثورة وتحيلها إلى رماد، ولو طال الوقت، لأن القمع يذكي شرارة الحرائق الوطنية القادمة حتما.
فالثورة عندما تتواجه مع جماهيرها، فأنها تبدأ بحفر قبرها وإنهاء دورها وأسباب وجودها، وتؤسس لردة فعل جماهيرية عارمة ذات تأثير سلبي عنيف جدا على الثورة ومبادئها ورموزها وإنجازاتها، ومهما اتخذت من تدابير وإجراءات لمنع إرادة الجماهير فأنها تزداد انحدارا إلى حتفها.
وربما ستخبرنا الأيام عن أحوال ثورةٍ باقية لكنها عجزت عن استيعاب ثورات أجيالها.
وقد أغفلت هذه الحقائق العديد من ثورات العالم المتأخر، ولهذا فإنها إنتحرت وقضت على وجودها السلطوي والجماهيري وتحولت إلى تاريخ مقيت، وزرعت ذكريات مريرة في أعماق الأجيال، وأوجدت نفورا سلبيا شديدا تجاه أي فعل ثوري، بل أنها خلقت حالة من الشك الوطني المدمر، الذي أسس للتناحر الدامي والانهيار الوطني الأليم.
فثورات العالم المتأخر، لا تبني دستورها الثوري ولا تشرع قوانينها أو تخطط لأهدافها وترسم خارطة لبرامجها التي تستثمر طاقات الجماهير في البناء والإبداع والتقدم، وإنما تنسى جميع مبادئها وقيمها وأخلاقها وأهدافها وجماهيرها حالما تمسك بالسلطة وتجلس على الكرسي العتيد، الذي تحيله إلى مصدر للطغيان والفردية والاستبداد والتنكيل بالثورة ورجالها وجماهيرها.
ومَن يقرأ مسيرة الثورات في العالم المتأخر يتضح له ذلك، والعلة تكمن بالدخول في حالة التناحر ومعاداة الشعب بدلا من الإيمان به والتفاعل معه، والعمل الجاد على رعاية تطلعاته وتحقيق إبداعاته وتوفير المشاريع الإقتصادية الكبرى لإستيعاب طاقاته في تقوية الوطن وتطويره، ولهذا تتحول إلى مصدر ضعف وانهيار وطني وأخلاقي، وتساهم في بناء الدكتاتوريات وتصبح وكأنها احتفال الظلم بظلم جديد.
ولم تتعلم ثوراتنا من الثورة الصينية التي تواكبت واستطاعت أن توفر السبل الكفيلة بإستيعاب طاقات أكثر من مليار إنسان بأجياله، ولازالت قادرة على استيعاب المزيد، حيث جعلت الجهود الجماهيرية تتدفق وتجري في نهر البناء والإبداع والعطاء المطلق، الذي يؤدي إلى بناء دولة قوية وشعب كبير الإحساس بقيمة دوره وقوة بلده وأثر فعله في الحياة، وقادر على التعبير عن ثورته في إطار وطني فعال.
فالثورة الصينية ذات منهج إقتصادي إبداعي متجدد يعلي قيمة البناء والإبتكار والسعي نحو الأحسن، أما ثوراتنا فأنها تنكر دور الإقتصاد والفكر والإبداع في الحياة.
إن الحلول العقيمة التي تعرفها ثورات العالم المتأخر لتنامي وعي جماهيرها هو زجهم في الحروب والصراعات، وحرمانهم من التواصل في مشاريع اقتصادية هادفة تحرر طاقاتهم بإيجابية وقدرة على صناعة الحياة.
وهكذا يتم قمع ثورات الأجيال، وبعض الثورات قد أصبحت مؤهلة للدخول في الحرب أكثر من أي وقت مضى، بل أنها تتشوف إليها، لكي تلقي بطاقات أبناء وطنها في أتون النيران المتعاقبة.
فلماذا لا توفر ثورات العالم المتأخر المشاريع الاقتصادية والفرص لأبنائها لكي يستثمروا طاقاتهم الخلاقة في بناء الوطن وقوته ووحدته، وتعزيز قيم المواطنة والوطنية الحقيقية، وليست وطنية الشعارات الفارغة والطوباوية، والابتعاد عن كل ما يؤثر فيهما ويدفع إلى سلوك يساهم في إضعاف المجتمع وتدمير الثورة ونظامها.
إن غياب المشاريع الاقتصادية الثورية في مجتمع ثوراتنا البائسة هو السبب الحقيقي لدمارها وتحطيم أجيالها وجلب أنواع المآسي على أبناء الوطن.
فهل ستفكر ثوراتنا وأنظمتنا بعقلية اقتصادية بعيدا عن منطلقاتها اللفظية المدوية في الفراغ.
فثورات العالم المتأخر يجوز تسميتها بالخيبات السياسية، لأنها تتسبب في جراح وإحباطات نفسية قاسية لدى أبناء الوطن وتمنحهم مرارة الشعور بفقدان الأمل.
وهي تناقض شعاراتها المطروحة وتنتهك مبادئها وعقائدها، وتتصرف وفقا لإرادة الكرسي وقوة الشك المتولدة عنه، والتي تؤدي إلى قرارات مروعة النتائج.
ويقولون أن الفقر والظلم والحرمان والديكتاتورية جميعها تدفع إلى الجريمة والثورة، وثوراتنا تحترمها وتعززها وتكرمها وتنميها، فيا عجب ثوراتنا ويا ويلنا من قيودها وآفاتها الحضارية.
ونبقى نتساءل، لماذا ثورات العالم المتأخر تضع السلاسل في أعناق الجماهير وثورات العالم المتقدم تحررها من أي قيد؟!
هذا المقال منشور في 25\2\2008، ويبدو أنه يصلح للنشر في زمن ثوراتنا اجديدة!
واقرأ أيضاً:
الأزمة الثورية / سروايل الثوار / لغة الوطن ولغة الفتن / الارتقاء الثوري / المُعارضة والمُغارضة!!