ورد في صحيفة المصري اليوم بتاريخ 26/3/2013 م خبر تحت عنوان: "مصر الأعلى عالميا في الإدمان"، وجاء تحت العنوان: «دخلت في مرحلة كارثية»، هكذا وصف عمرو عثمان، مدير صندوق علاج ومكافحة الإدمان، ظاهرة الإدمان في مصر، حيث وصلت نسبة التعاطي بين المواطنين إلى ٧% متخطية بذلك المعدلات العالمية التي تصل إلى ٥% فقط في كل دول العالم.
وبالمناسبة فإن مصر تتأرجح بين المركز الأول والثاني عالميا في ظاهرة التحرش الجنسي حيث تتنافس مع أفغانستان، وهذا يجعلنا ننتبه إلى ما وصلنا إليه من تدهور على مستويات عدة مما يستدعي اليقظة وسرعة الإصلاح.
وفي تقارير ودراسات عديدة تبين أن 53% من المصريين قد جربوا تعاطي بعض أنواع المخدرات وأن منهم من يتعاطاه بشكل منتظم أو غير منتظم، وأن مصر تتكلف 13 مليار جنيه ثمنا للمخدرات سنوي، وأنها تستقبل 250 مليون قرص ترامادول سنويا تدخل البلاد بشكل غير مشروع عبر حاويات تأتي من دول جنوب شرق آسيا. ولقد ساهمت حالة الفوضى والإنفلات الأمني والبلطجة في الإنتشار الوبائي للتعاطي والإدمان في المرحلة الانتقالية بعد الثورة، وكان لحالة الإحباط العام التي نتجت عن التدهور السياسي والاقتصادي في تلك المرحلة دور كبير في تفشي تلك الظاهرة إلى هذا الحد المخيف.
ومنذ أسابيع تم الكشف عن كارثة المراكز غير المرخصة التي يعالج فيها المدمنين، وما حدث في بعضها من تجاوزات أدت إلى وفاة بعض المرضى وتعرض بعضهم الآخر للتعذيب والإهانة بحجة العلاج أو تحت ستار العلاج، وتم الكشف عما يزيد على 22 مركز لعلاج الإدمان خارج إطار القانون. هذا إضافة إلى المعاناة اليومية التي يلاقيها أهالي المدمنين ليس فقط من آثار إدمان أبنائهم ولكن أيضا من التشريعات ونظم التعامل مع تلك الحالات على المستوى الحكومي مما يستدعي إعادة النظر وبسرعة.
وقبل أن يصدر قانون رعاية المريض النفسي رقم 71 لعام 2009م جمعتني مناظرة تليفزيونية (في برنامج القصة ومافيها على الفضائية المصرية، تقديم الإعلامية القديرة رولا خرسا) بالسيد الدكتور ناصر لوزا وكان أمينا للصحة النفسية وقتها ومتبنيا وراعيا لمسودة القانون حتى صدر بصورته الحالية.
وكان من ضمن النقاط التي نبهت إليها في القانون مادة خاصة بالدخول الإلزامي (أي حجز المريض بأمر طبي أو قضائي حفاظا على سلامته وسلامة الآخرين)، حيث تم استثناء حالات الإدمان من الدخول الإلزامي من خلال العبارة التالية: "ولا يعد مجرد الاعتماد على العقاقير المؤثرة على الحالة النفسية سببا كافيا للدخول الإلزامي"، ولفتت نظر سيادته وقتها بأن هذه العبارة سوف تثير إشكاليات كثيرة في علاج الإدمان فيما بعد حيث أن كثيرا من حالات الإدمان (أو ما يسمى علميا بالاعتماد على العقاقير) ترفض العلاج ولا تأتي إليه بإرادته، فالمدمن في غالب الأحوال يكون تحت تأثير إدمانه في حالة إنكار وتبرير تمنعه من رؤية واقعه ومشكلاته بشكل جيد، كما أن كثيرا من المواد التي يتعاطاها تؤثر على إدراكه وعلى حكمه على الأمور حتى ولو لم يصل إلى حالة الاضطراب الذهاني التي تحدث في بعض الحالات (وهي حالة الاستثناء الوحيدة التي تجيز الدخول الإلزامي في حالات الإدمان حسب القانون الحالي).
وللأمانة فإن السيد ناصر لوزا وافقني وقتها على أن حالات الإدمان المصحوبة باضطرابات ذهانية يمكن حجزها إلزاميا نظرا لما تشكله من خطورة، ولكن هذا لم يكن كافيا إذ ظلت حالات إدمان كثيرة غير مصابة باضطراب ذهاني تشكل خطورة على سلامة المريض وسلامة ذويه، فهناك الكثير من المدمنين الغارقين في إدمانهم إلى الدرجة التي تتدهور فيها صحتهم الجسدية والنفسية إلى حد خطير كما تتدهور سلوكياتهم الاجتماعية وأداؤهم المهني بدرجات مروعة ويصبحون مصدر تهديد لذويهم نظرا لما يطالبون به من أموال وما يحدث لهم ومنهم من مشكلات قانونية يعاني منها أهليهم أشد المعاناة، ومع هذا فالقانون يمنع حجز هؤلاء المرضى حجزا إلزاميا.
وحين تأتي أسرة بابنها المدمن إلى أي مستشفى حكومي أو خاص أو أي مركز لعلاج الإدمان تطلب علاجه فإن الإجراءات تتم على أساس الدخول الإرادي لهذا المدمن المريض، ذلك النوع من الدخول الذي يعطي المدمن الحق في الخروج من المنشأة العلاجية في أي وقت يختاره، ومن المعروف أن القانون يحتم على المنشأة أن تعطي للمريض لائحة بحقوقه القانونية أثناء إقامته بالمنشأة، وهذا أمر جميل يراعي حقوق المرضى ويهتم به، ولكن ما يحدث هو أن المدمن تحت تأثير أعراض الانسحاب وتحت تأثير اللهفة للمخدر يطلب الخروج بعد يوم أو اثنين أو أكثر من دخوله ويصر على الخروج وتفشل محاولات إقناعه ويخرج للشارع لمواصلة إدمانه، وهنا تشعر الأسرة بالغضب من الأطباء الذين سمحوا لابنهم بالخروج قبل إتمام علاجه ويشعرون بالعجز أمام هذا المرض الخطير (الإدمان) الذي يهلك ابنهم أمام أعينهم ولا يستطيع أحد مساعدتهم.
وربما يكون هذا النص في القانون مقتبس من بعض القوانين في الغرب حيث الحرص الشديد على الحرية الفردية، ولكن الوضع مختلف إذ يوجد لديهم مؤسسات وهيئات وجمعيات في المجتمع ترعى هذا الشخص وتساعده وتساعد أسرته حتى ولو لم تحتويه مؤسسة علاجية طبية، أي أن الدولة تقوم بواجبها في احتواء المدمن أثناء مرضه ولا تتركه عيئا ثقيلا على أسرته تعاني وحدها من مشاكله.
ولنتخيل مدمنا في مصر يتعاطى أكثر من مخدر وتتدهور سلوكياته بسبب مرض الإدمان فيكذب ويحتال ويسرق ويوقع على إيصالات أمانة وشيكات في سبيل الحصول على المخدر (وهذا هو حال كثير من المدمنين) ويمارس سلوكيات تدميرية وعنيفة، والأسرة تعاني من مشاكله من ناحية وتعاني أيضا من رؤيتها لهذا الابن وهو يضيع صحيا ونفسيا وروحيا واجتماعيا أمام عينيها وهي فاقدة للقدرة على فعل شيء ولا توجد أي مؤسسة حكومية أو غير حكومية تقدم للمدمن أو لأسرته المساعدة؟...
في هذه الظروف نشأت مراكز علاج الإدمان غير المرخصة وانتشرت في مصر بشكل وبائي، وكان أهل المدمنين مضطرين للذهاب بأبنائهم إلى تلك الأماكن لأنها تحتجز ابنهم للعلاج بعيدا عن تعقيدات القانون وإشكالياته وتستطيع في تلك الظروف أن تبقيه لديها عدة شهور على أمل تغيير أحواله.
وهنا بدأ البعض يشعر بالحاجة لتعديل الموقف القانوني لعلاج المدمنين على اعتبار أن الإدمان مرض مثل أي مرض ومن ضمن أعراضه (خاصة في الحالات الشديدة) الإنكار والتبرير وعدم الرغبة في العلاج والتدهور الجسماني والنفسي والاجتماعي والروحي، وأن المدمن يضطرب إدراكه نتيجة الدفاعات النفسية التي يستخدمها بلا وعي، وقد يمارس سلوكا عنيفا تجاه نفسه أو تجاه الآخرين وهو تحت تأثير المواد التي يتعاطاها أو قد يهدد من حوله ليحصل على المال اللازم لشراء ما يتعاطاه، هنا يصبح حجزه رغم إرادته واجبا لحمايته وحماية من حوله سواء كان هذا الحجز بأمر طبي أو أمر قضائي.
ويجب أن لا تترك الدولة أسر المدمنين حائرين ضائعين لا يعرفون ماذا يفعلون تجاه ابنهم الذي تورط في هذا المرض الخطير، بل إن من واجب الدولة أن تساعد وبشكل فعّال ومؤثر خاصة إذا لجأت الأسرة إليها. وفي بعض الدول يكفي أن يقدم الأب أو الأم طلبا لإدارة مكافحة المخدرات أو أي جهة شرطية أو قضائية يفيد بأن ابنهما يتعاطى المخدرات بشكل إدماني وأنه يرفض العلاج فتتحرك هذه السلطات وتحضر الابن بقوة القانون وتعرضه على لجنة طبية وقانونية فإذا تبين صحة البلاغ يتم إدخاله لأحد المصحات للعلاج ولا يخرج منه إلا بتقرير من الجهة العلاجية يفيد تحسنه ويضع برنامجا لتابعته بعد الخروج.
وفي الحالات التي يضبط فيها المدمن متلبسا بالتعاطي أو القيادة وهو مخمور أو الدخول في مشاكل قانونية بسبب التعاطي فإنه يخير بين قضاء العقوبة في السجن أو في مصحة علاجية حتى يشفى، وفي أماكن العمل الهامة والحساسة يتم عمل تحليل مفاجئ من وقت لآخر لاكتشاف حالات التعاطي وعمل اللازم حياله، وكلها في النهاية إجراءات قانونية تعمل على تجفيف منابع الإدمان.
وفي دول أخرى تعطى ثلاث فرص للمريض المدمن للعلاج الإرادي (الاختياري)، فإذا أهدر هذه الفرص ولم يستمر فيها حتى يكمل علاجه، فإنه يعالج بعد ذلك إلزاميا بحكم القانون.
إذن فنحن في حاجة إلى تعديلات جوهرية في قانون رعاية المريض النفسي فيما يخص حالات الإدمان بحيث يوازن القانون بين الحفاظ على حريات الأفراد وفي نفس الوقت يحافظ على سلامتهم وسلامة ذويهم وسلامة المجتمع على أن يراعي ذلك القانون ظروف وأحوال المجتمع الذي وضع من أجله، وفي حاجة أيضا لعمل إصلاحات مجتمعية وأسرية توقف زحف ظاهرة الإدمان وما يترتب عليها من مشاكل.
واقرأ أيضاً:
نفس اجتماعي: سحر وحسد وتلبس، جهل نفسي