قد يبدو الأمر خارج السياق الآن خاصة فيما تمر به البلاد من مشكلات وأزمات بعد الثورة، ولكن إذا عرفنا أن أحد مظاهر الحضارة هي رعاية الضعيف (المريض والطفل والمسن) فإننا ندرك أهمية رعاية المريض النفسي كأحد مكونات البناء الحضاري في مجتمع يحتاج لاستعادة حسه الإنساني ورقيه وسلامته النفسية خاصة وأن هذا المريض قد لا يملك القدرة للدفاع عن نفسه وعن حقوقه، كما أننا الآن في مرحلة إعادة بناء المنظومات القانونية أملا في الانتقال إلى مرحلة البناء بعد الثورة والتي تعثرت وتأخرت كثيرا بسبب الصراعات السياسية والسعي وراء المصالح الفردية والحزبية.
في البداية لا ننكر أن إصدار قانون رعاية المريض النفسي في مصر يعتبر إنجازا تشريعيا هاما أدى إلى تحسين الأداء في كثير من المنشآت النفسية ورفع حالة الوعي باحتياجات وحقوق المريض النفسي، ولكنه من جانب آخر أحدث مشكلات في التطبيق والممارسة قد تكون أضرت بالمريض بشكل غير مباشر ولذا وجب التنويه ومحاولة التصحيح:
1- قد تبدو تسمية القانون جذابة خاصة وأنها تتحدث عن رعاية المريض النفسي، ولكن هذه التسمية في حد ذاتها كانت خطأ من حيث أنها تخالف ما تعارفت عليه دول العالم من تسمية Mental Health Act بمعنى "قانون الصحة النفسية"، وهذا الاسم العالمي يتميز بأنه ينظر إلى الصحة النفسية بكامل جوانبها: المريض والطبيب والمنشأة والبيئة والمجتمع بشكل متوازن.
2- وقد بدا هذا العوار المترتب على التسمية في الظهور حيث اتضح أن القانون اهتم بالحقوق القانونية للمريض على حساب حقوقه العلاجية (فمثلا اهتم بحرية المدمن الشخصية في رفض العلاج وجاء ذلك على حساب الحفاظ على سلامته وحياته).
3- واهتم القانون بحقوق المريض النفسي ولم يراع حقوق واحتياجات الطبيب النفسي وظروف عمله، مع أن الطبيب النفسي هو الأداة الأساسية في العلاج، ورعايته تؤهله لرعاية المريض. وعلى العكس وضع القانون قيودا كثيرة وأعباءا على الطبيب النفسي مما يجعل الكثيرين يبتعدون عن هذا التخصص الشائك والمتعب والمكبل بالقوانين واللوائح التي تجعل الطبيب معرضا للوقوع تحت طائلة القانون مهما كان حرصه وحذره، مع العلم بأن هناك نقص شديد في الأطباء النفسيين في مصر مما يؤثر بالسلب في النهاية على مستوى الخدمة النفسية.
والطبيب النفسي يخضع -مثل غيره من الأطباء- للقانون العام، كما يخضع للضوابط واللوائح التي وضعتها وزارة الصحة ونقابة الأطباء، والآن يجئ قانون رعاية المريض النفسي فيضع عقوبات إضافية ثقيلة عليه في حالة المخالفات المهنية، وفي هذا ازدواجية قانونية ليس لها داع، بل هي تضع ممارسة المهنة دائما في قفص الاتهام مما يجعل هذا المجال طاردا للأطباء أكثر وأكثر.
4- ثم يأتي القانون ويحاسب صاحب المنشأة النفسية الخاصة على عدد الأطباء وعدد أفراد التمريض بينما هو لا يحاسب المنشآت الحكومية بنفس المعايير لأنه لو حاسبها لأغلق الكثير منها حيث يوجد نقص شديد في أعداد الأطباء النفسيين والتمريض النفسي ولا يملك أحد في الوقت الحالي أو المستقبل القريب حل هذه الإشكالية. كما أن القانون يحاسب المنشآت النفسية الخاصة على أي زيادة في أعداد المرضى بينما لا يحاسب المنشآت الحكومية على ذلك ولا يوجب على الدولة توفير أماكن كافية لاستيعاب المرضى المحتاجين للرعاية فيكون الحل هو بقاء الأعداد الزائدة من المرضى في الشارع دون رعاية.
5- وعلى الرغم من تشدد القانون في محاسبة المنشآت النفسية الخاصة، إلا أنه لا يطبق بنفس الطريقة على المنشآت الحكومية بوجه عام، ويغيب تطبيقه تقريبا على مستشفيات القوات المسلحة والشرطة والمستشفيات الجامعية على أساس أن هذه المستشفيات لها آلياتها في الرقابة.
6- عدم مراعاة الظروف الخاصة بالمجتمع المصري بالذات فيما يخص النساء، فمثلا قد تطلب مريضة (دخلت المصحة بشكل إرادي وبمصاحبة أهلها) أن تخرج في أي لحظة ليلا أو نهارا دون علم أهله، والقانون يعطيها الحق في ذلك، وهذا ما لا تقبله الأسرة أو المجتمع.
7- في حالة قيام مريض الدخول الإرادي بأي تجاوزات داخل المنشأة العلاجية النفسية تقع تحت طائلة القانون (مثل إدخال مخدرات، تحطيم أساسات المنشأة بشكل متعمد، إيذاء المرضى أو العاملين) لم يوضح القانون أي إجراء يمكن للمنشأة اتخاذه تجاهه.
8- شرط موافقة المريض على كتابة على أي تقارير طبية خاصة به، وفي بعض الحالات يحتاج الأهل لتلك التقارير لإنهاء بعض الإجراءات الخاصة بالمرضى الذهانيين مثل أجازات العمل، أو تأجيل الإمتحانات، أو إجراءات المعاش.
9- وجوب خروج مريض الدخول الإلزامي فور تحسن حالته (إذا طلب ذلك)، وعدم وجود فترة انتقالية كافية للتأكد من ثبات هذا التحسن، خاصة وأن المرض النفسي قد يمر بفترات تحسن تعقبها فترات تدهور قبل أن تستقر الحالة تماما.
10- الاضطرابات ذات التأثير على الأمن العام أو الآخرين بصورة غير مباشرة لا يمكن الجزم بها بشكل مطلق بالذات الأعراض ذات الطابع الديني أو السياسي حيث يختلط المرض بالمعتقدات والتوجهات. وهنا يصبح وضع المسئولية كاملة على الطبيب شيئا فوق الطاقة، والأكثر واقعية أن يتم تقييم حالة المريض وفقا للمعطيات المتاحة بواسطة لجنة مع آلية لمتابعته بعد الخروج.
11- كل مريض يدخل المنشأة إراديا يسجل في سجلات المنشأة على الرغم من إمكانية خروجه حسب طلبه في أي وقت حتى بعد دخوله بساعة أو أقل مما يشكل مسئولية على المنشأة تتحملها دون أن تتمكن من إجراء تقييم كاف للمريض، لذا يفضل منع خروجه لمدة 48 ساعة على الأقل بعد توقيعه على الدخول وذلك لإجراء تقييم معقول لحالته ووضع خطة العلاج المناسبة.
12- اعتبار المدمن شخصا مسئولا من حقه الخروج من المنشأة العلاجية في أي وقت حسب طلبه مما يجعله معرضا لخطورة الخروج دون استكمال علاجه تحت تأثير لهفة الاحتياج للمخدر فور شعوره بالأعراض الانسحابية، وهذا يحبط كل محاولات العلاج للمدمنين، ويدع المدمن يدمر نفسه وأسرته ومجتمعه تحت دعوى احترام حريته الشخصية. والحلول المقترحة هي:
- اعتبار المدمن المتدهور (جسديا ونفسيا واجتماعيا) مستحقا للدخول الإلزامي
- عمل وحدات مستقلة بالمستشفيات النفسية تخضع فقط لضوابط القانون العام على اعتبار أن الإدمان له ظروفه الخاصة وهو أقرب للمرض العضوي
13- لماذا يحدد الترخيص بخمس سنوات إذا كانت المنشأة تحت إشراف مجلس الصحة النفسية وليس لديها مشكلات تدعو إلى إنهاء الترخيص؟، والجميع يعلم مدى الجهد والوقت الذي يبذل لتجديد ترخيص المنشأة بلا أي داع لذلك خاصة في ظروف تتسم بالبيروقراطية الشديدة.
14- تسجيل مرضى الدخول الإرادي وإرسال أسمائهم لمجلس الصحة النفسية الإقليمي يضر بهؤلاء المرضى خاصة في الأقاليم حيث يعرف الناس بعضهم بعضا فضلا عن إمكانية تسرب تلك الأسماء عن طريق بعض الموظفين الإداريين الذين ربما لا يدركون معنى سرية بيانات المريض وأهميتها.
15- قصر عمل التقييم النفسي المستقل على أطباء نفسيين بعينهم مسجلين من قبل المجلس القومي، مع أن هذا التقييم يمكن أن يتم بواسطة أي طبيب نفسي متخصص ومسجل في سجلات الأخصائيين أو الاستشاريين في نقابة الأطباء ومرخص له بمزاولة المهنة من وزارة الصحة.
16- حق المريض في الحصول على صورة ضوئية كاملة من ملفه في المستشفى قد يشكل أزمات عائلية أو اجتماعية حيث قد يحتوي الملف على أسرار أو بيانات أو تعبيرات أفصح بها ذويه أثناء كتابة التاريخ المرضي أو أوصاف لسلوك المريض وطباعه قد لا يرضى عنه، والأفضل من ذلك إعطاء تقرير طبي مفصل عن الحالة.
17- إرهاق المريض النفسي وذويه ماديا بما نص عليه القانون من تحصيل مبلغ مائة جنيه لحساب مجالس الصحة النفسية عن كل حالة دخول سواء في منشأة حكومية أو خاصة، وهذا مخالف للقانون العام خاصة في المنشآت الحكومية التي يفترض أن تعالج المريض بالمجان، أما في المنشآت الخاصة فإن هذا المبلغ يشكل عبئا إضافيا على المريض وأسرته.
كما أن هذا فيه إجحاف بالمريض النفسي لأن هذا الأمر لا يطبق على المرضى في التخصصات الأخرى بما يشكل مخالفة دستورية في عدم تكافؤ الفرص بين المواطنين. كما يتم تحصيل ثلاثين جنيها في صورة طوابع من المريض عن أي تقرير طبي يطلبه مع أن هذا شئ من حقه لا يجب أن يدفع له مقابل.
18- لم يحدد القانون عقوبات لممارسة المعالجة للمرضى النفسيين خارج الإطار المهني، وقد ترك ذلك الباب مفتوحا أمام الدجالين والمشعوذين لممارسة طقوس وعلاجات ضارة بالمرضى النفسيين مع ممارسة الابتزاز المالي والمعنوي لذويهم.
19- يتسم سلوك بعض المفتشين المرسلين من قبل المجالس القومية للصحة النفسية بالحدة والشك والتوجس والتربص تجاه أصحاب المنشآت النفسية الخاصة والعاملين به، وتتسم سلوكياتهم وتعاملاتهم مع المرضى بحالة من البوليسية وكأنهم جاءوا لإنقاذهم من براثن العاملين في المنشأة، وهذا يرسل رسالة سلبية للمرضى وذويهم عن المنشأة التي يعالجدون فيه، ويكسر جدار الثقة بين المعالجين وبين المرضى حيث يبدو المعالجين في حالة اتهام وشك وتقصير وإهمال أمام مرضاهم، بينما يحاول المفتش أن يظهر في صورة المنقذ والمخلص والسلطة العلي، وهذا يدمر العلاقة العلاجية.
20- تركيبة المجلس القومي للصحة النفسية والتي تشمل: أحد نواب رئيس مجلس الدولة، أحد المحامين العامين، رئيس قطاع يمثل وزارة التضامن، ممثل للمجلس القومي لحقوق الإنسان، ممثل مصلحة الأمن العام، إضافة إلى بعض التخصصات الطبية النفسية، تلك التركيبة التي تعني وضع تخصص الطب النفسي تحت الوصاية، وهذا ما لايحدث في التخصصات الطبية الأخرى مما يشكل تعقيدات وقيود هائلة في ممارسة هذه المهنة كما يعطي وصمة خاصة لها ولمن يمارسها أو يعالج في إطارها.
وصدور القانون لم يواكبه زيادة مناسبة في عدد المنشآت الحكومية لرعاية المرضى النفسيين، حيث يفيد تقرير المجلس القومي للصحة النفسية عام 2011-2012 بأن عدد المنشآت النفسية 56 منشأة (17 منشأة حكومية و39 منشأة خاصة)، ولم تزد المنشآت الحكومية عن العام الماضي إلا منشأة واحدة بينما زادت المنشآت الخاصة 16 منشأة. وأن إجمالي عدد الأسرة بالمنشآت 7252 سرير وهو عدد قليل جدا بالنسبة ل 90 مليون نسمة هم عدد سكان مصر.
والنتيجة هي شقاء المرضى النفسيين (وذويهم) بويلات المرض مضافا إليها صعوبات الحصول على العلاج، وعاناة الأطباء النفسيين في تخصص صعب ومضني موضوع تحت الوصاية وقانون يحوي صعوبات تطبيقية عديدة ويضع الطبيب تحت طائلة العقاب أغلب الوقت مما يشكل عامل طرد في هذا التخصص ويتيح الفرصة للدجالين والمشعوذين لممارسة المعالجة للمرضى النفسيين دون حساب أو عقاب.
واقرأ أيضاً:
المصريون والجن(4) / هل صحيح أن الجني يدخل جسد الإنسان؟ / وجود الجن بالعقيدة الإسلامية مشاركة / الجن.... بين الحقيقة والوهم!