اولاً: مقدمة الدراسة:
يعد مفهوم التدفق من بين أهم المفاهيم المرتبطة بحركة علم النفس الإيجابي2، تلك الحركة التي أدخلت رسميًا في المسار الأكاديمي لعلم النفس سنة 1998 عندما ترأس مارتين سيلجمان الجمعية الأمريكية لعلم النفس، ومحاولاته الدؤوبة هو ومجموعة أخرى من علماء النفس ممن كان لديهم تحفظات كثيرة على علم النفس بفروعه التقليدية الغارقة في التركيز على والتصوير الحصري إن جاز القول لكل جوانب القصور والضعف في الشخصية الإنسانية بتبني المنظور الباثولوجي لإدخال علم النفس الإيجابي ضمن فروع علم النفس المعتمدة بهذه الجمعية.
وإن كان من الممكن رصد إرهاصات مبكرة للتنويه على ضرورة التحليل الدقيق للجوانب الإيجابية من شخصية البشر من قبل المدرسة الإنسانية في علم النفس والتي تمثل ما يعرف بالموجه الثالثة، إلا أن التأصيل الفعلي لهذه الحركة يرتبط باسم مارتين سيلجمان بدءًا من دراساته المكثفة عن ظاهرة العجز المتعلم وانتقاله تدريجيًا إلى التركيز على دراسة وتحليل الظاهرة المناقضة لها وهى الكفاءة والتفاؤل المتعلم.
وقد أدى هذا التوجه إلى استقطاب اهتمام مجموعة من علماء النفس منهم دينيير إيد واهتمامه المكثف بما يعرف بجودة الحياة الانفعالية Emotional Well-being وميهالي تشكزينتهيمالي كسكسينتميهالي تشكزينتهيمالي وتركيزه في دراساته على مجالين أساسيين: حالة التدفق، والخبرة الإنسانية المثلى.
ويعد مفهوم حالة التدفق من المفاهيم السيكولوجية ذات المضامين الإيجابية، التي ربما يفضي تقديمها وتحليلها وتبين أبعادها وطرق رصدها وقياسها في البيئة العربية إلى تنشيط الاهتمام البحثي بالقضايا ذات العلاقة بحركة علم النفس الإيجابي لتأسيس وإقرار ما يصح تسميته بالتمكين السلوكي للشخصية العربية بالتركيز على الجوانب الإيجابية الخاصة بخبرة حالة التدفق التي تقتضي كما سيأتي بيانه معانقة الحياة وتقبل مصاعبها واعتبارها تحديات جديرة بأن تستنهض همة المواجهة واغتنامها كفرص أصيلة للتعلم ولتجويد الأداء الإنساني ليرتقي في مسار: التميز، ثم الإتقان، ثم الإحسان.
الكلمات المفتاحية:
- حالة التدفق، خبرة التدفق، دافعية الإنجاز، الحب، الصمود النفسي، السعادة، الإبداع.
ثانيًا: مشكلة الدراسة
التدفق حالة نفسية داخلية تجعل الشخص يشعر بالتوحد مع ما يقوم به وبالتركيز التام فيما يقوم به والاندفاع بحيوية نحو الأنشطة مع إحساس عام بالنجاح في التعامل مع هذه الأنشطة. ومصطلح التدفق من المصطلحات الأساسية التي طرحها عالم النفس المجري الأصل الأمريكي الجنسية ميهالي تشكزينتهيمالي وهو أحد الآباء المؤسسين لعلم النفس الإيجابي ليصبح من المصطلحات الرائجة في المجال.
وترتبط خبرة التدفق بحالة التعلم المثلى Optimal Learning التي وصفها "ميهالي تشكزينتهيمالي" الباحث بجامعة شيكاغو بأنها: "حالة من التركيز ترقى إلى مستوى الاستغراق المطلق، في هذا الشعور الرائع بتملكك لمقاليد الحاضر وأدائك وأنت في قمة قدراتك"، وفي حالة "التعلم المثلي" يكون المتعلم في حالة من الاستغراق الكامل فيما يتعلمه، ويكون الفهم في أقصى درجاته.
ولأن الأصل في خبرة حالة التدفق استغراق الإنسان بكامل منظومات شخصيته في مهمة تذوب فيها هذه الشخصية دون افتقاد للوجهة والمسار مع إسقاط للوقت أو للزمن من الحسابات، بمعنى أن تظل فعاليات من يتعايش مع خبرة حالة تدفق سارية وممتدة إلى أن يتم إنجاز المهمة مهما طالت المدة الزمنية، وهنا قد يعيش الإنسان حياته كلها في خبرة حالة تدفق واحدة يرى فيها ذاته ويحقق بها إمكانياته ويشرب منها من معين الاستمتاع ويعاين بها بهجة الحياة.
تأسيًا على ذلك، تحاول الدراسة الحالية الإجابة عن الأسئلة التالية:
1. ماهية حالة التدفق؟
2. ما المقصود بخبرة حالة التدفق؟
3. ما مكونات أو أبعاد مفهوم حالة التدفق؟
4. ما علاقة حالة التدفق ببعض المتغيرات السيكولوجية الأخرى: دافعية الإنجاز، والحب، المرونة النفسية، والإبداع؟
ثالثًا: أهمية الدراسة:
يرتبط التدفق بصورة واضحة بالتفاؤل وتوقع نواتج إيجابية والاستبشار بالمستقبل إضافة إلى اقترانه بالإحساس بالقدرة والفعالية الشخصية في مقابل اليأس أو العجز الذي هو قرين التبلد النفسي والسلوكي ومن هنا تأتي أهمية تقديم مفهوم التدفق وتحديد أبعاده الأساسية، وطرق قياسه، وتتلخص أهمية الدراسة الحالية في بعدين أساسيين:
(1) الأهمية النظرية:
توصيف مفهوم التدفق من حيث مكوناته ومظاهره وأبعاده الرئيسية وطرق قياسه كأحد أهم الظواهر الإيجابية التي تدرس في إطار حركة علم النفس الإيجابي، مما يوسع من إطار تعرف مجالات الدراسة في علم النفس الإيجابي كتوجه حديث في علم النفس، وما قد يترتب على ذلك من اهتمام بحثي على مستوى الدراسات العربية في المجال.
(2) الأهمية التطبيقة:
ربما يفضي تناول مفهوم التدفق في علاقته بالمفاهيم أو البناءات السيكولوجية الأخرى إلى تبين المضامين التطبيقية لهذه الحالة في عمليات التعليم والتعلم والإرشاد والعلاج النفسي.
رابعًا: أهداف الدراسة:
تتمثل أهداف الدراسة الراهنة في النقاط التالية:
- تحديد ماهية مفهوم التدفق.
- تحديد مظاهر وملامح خبرة التدفق.
- تحديد علاقة مفهوم الدفق ببعض المفاهيم أو البناءات السيكولوجية.
- تحديد أبرز طرق وأدوات قياس مفهوم حالة التدفق.
وذلك من خلال مراجعة وتحليل أدبيات المجال منذ أن طرح هذا المفهوم سنة 1975 على يد ميهالي تشكزينتهيمالي وما لحقه من تطورات مصاحبة لتأسيس علم النفس الإيجابي سنة 1998، وما تلا ذلك من كتابات نظرية معاصرة.
خامسًا: مصطلحات الدراسة:
(1) مفهوم التدفق Flow State:
تمثل حالة التدفق بالمعنى الذي توصف به في أدبيات علم النفس الإيجابي الخبرة الإنسانية المثلي Optimal Human Experience المجسدة لأعلى تجليات الصحة النفسية الإيجابية وجودة الحياة بصفة عامة؛ لكونها حالة تعني فناء الفرد في المهام والأعمال التي يقوم بها فناءًا تامًا ينسى به ذاته والوسط والزمن والآخر كل الآخر كأني به في حالة من غياب للوعي بكل شيء آخر عدا هذه المهام أو الأعمال على أن يكون كل ذلك مقترنًا بحالة من النشوة والابتهاج والصفاء الذهني الدافع له باتجاه المدوامة والمثابرة ليصل في نهاية الأمر إلى إبداع إنساني من نوع فريد تكون فيه المعاناة مرحبًا بها دون انتظار لأي تعزيز من أي نوع، إذ هنا تكون هذه الحالة مطلوبة لذاتها ويكمن فيها وفيما تتضمنه من معاناة سر الرفاهية والسعادة الشخصية والإحساس العام بجودة الحياة، لكونها تضفي المعنى والقيمة على هذه الحياة.
(2) دافعية الإنجاز Achievement motivation.
تعتبر كتابات "هنري ميوراي Murray" من الكتابات الباكرة في دافعية الإنجاز والتي قدمها في كتابة "استكشافات في الشخصية Personality) "1938) ضمن قائمة كبيرة من الحاجات.
وأشار هول Hall ولندزي (Lindzey (1957 إلى أن دافعية الإنجاز (أو الحاجة للانجاز) يقصد بها طبقاً لمفهوم "ميوراي" تحقيق شيء صعب والتحكم في الموضوعات المادية (الفيزيقية) أو الكائنات البشرية أو الأفكار وتناولها أو تنظيمها وأداء ذلك بأكبر قدر ممكن من السرعة والاستقلالية والتغلب على العقبات وتحقيق مستوى مرتفع والتفوق على الذات ومنافسة الآخرين والتفوق عليهم وزيادة تقدير وفعالية الذات عن طريق الممارسة الناجحة للقدرة.
وفي إطار التحديد السابق يمكن النظر إلى دافعية الإنجاز على أنها تمثل السعي والكفاح نحو مستوى معين من الامتياز التفوق. أن هدف الإنجاز يتحدد على انه أما التنافس مع معيار أو مستوى معين للامتياز أو التنافس مع الآخرين أو تنافس الفرد مع أدائه السابق ومحاولة السعي والكفاح نحو إنجاز متفرد والمثابرة على ذلك بجهد طويل المدى نحو التمكن والسيطرة في أداء ما يتميز بالصعوبة (عبد الودود أحمد، 2010)3 .
(3) الحب Love:
الحب في عرف العامة إحساس داخـلي جاهـز فطري فيداخـلنا ينمو إذا واتته الظـروف. وهـو ينمو دائماً من الداخـل والحب هو تعلق روح بروح، واشتباك نفس بنفس، دون النظـر إلى جمال جسد، أو حسن مظهر. والحب هو عمى العاشق عن عيوب المعـشوق. قيل لبعض العـلماء: إن ابنك قد عـشق ! فـقال : الحمد لله ،الآن رقت حواشيه، ولطفت معانيه، وملحـت إشاراته، وظرفت حركاته، وحسـنت عباراته، وجادت رسائله، وجلت شمائله، فواظب المليح، وجـنب القبيح.
أما الحب الذي نعنيه في الدراسة الراهنة حالة توحد الشخص مع مهام أو أنشطة التعلم أو العمل أو اللعب الذي يقوم به، لدرجة تجعل هذه المهام والأنشطة مطلوبة لذاتها ولا غاية أخرى للشخص خارج نطاقها، مع اقتران كل ذلك بحالة من النشوة والابتهاج.
(4) الصمود النفسي Psychological :
القدرة على المحافظة على حالة الإيجابية والتأثير الفعال والتماسك والثبات الانفعالي في الظروف الصعبة أو المتحدية مع الشعور بحالة من الاستبشار والتفاؤل والاطمئنان إلى المستقبل.
(5) الإبداع Creativity:
يعرّف (Parsks & Swart (1994 الإبداع بأنه القدرة على توليد الأفكار واستخدام الإمكانيات وتوظيف الخيال لتكوين أفكار أو أشياء جديدة غير مألوفة سابقاً. ويشير إلى أن قدرة الأفراد على توليد الأفكار الجديدة تعتمد على الخبرة السابقة التي تشكل القاعدة بالنسبة لها. ومن ثمّ على القدرة في تمحيص هذه الأفكار وإعادة صياغتها بحيث تصبح أفكاراً خلاقة وأصيلة، وتتميز بأنها نتيجة التفكير الإبداعي لأولئك الأفراد.
أما بول تورانس (Torrance (1994، فهو يرى أن الإبداع يعني التوصل إلى حلول جديدة، وعلاقات أصيلة، بالاعتماد على مُعطيات محدّدة.وذلك بعد أن يتحسّس الفرد مشكلة ما، أو نقصاً في المعلومات أو الفكرة. ويُضيف بأن عملية الإبداع تشمل البحث عن إمكانيات مختلفة، والتنبؤ بتبعات ونتائج هذه الإمكانيات، واختيار فرضيات وإعادة صياغتها حتى يتم التوصل إلى الحلّ الأفضل.
(7) السعادة Happiness.
السعادة حالة نفسية من مشاعر الراحة والطمأنينة والرضا عن النفس والقناعة بما كتـب الله -سبحانه وتعالى- وهي أكثر ميلا إلى الديمومة والاستمرار في نفس الإنسان إجمالا وتعد مؤشرا على مدى علاقته بربه وخالقه ورازقه.
______________________________________________________________
(2) آثر الباحث استخدام وصف حركة علم النفس الإيجابي بدلاً من عبارة علم النفس الإيجابي هكذا على إطلاقها وذلك لقناعته الشخصية بعد مراجعة أدبيات هذا المجال من أن هذا المسار العلمي لم تتبلور ملامحه العامة بعد بشكل يسمح بمقارنته هكذا ببقية فروع علم النفس المستقرة في المجال كعلم النفس الاجتماعي، المعرفي، الكلينيكي، وغيرها. إضافة إلى أن رواد هذا المجال لم يدعوا هكذا بالمطلق بأن مجال اهتمامهم هذا يمثل فرعًا مستقلاً قائمًا بذاته ضمن فروع علم النفس الأخرى، وكل ما يدعون إليه إعادة ترسيم توجه أو منظور مغاير للتعامل مع السلوك البشري بالتركيز على مكامن القوة والجوانب الإيجابية بدلاً من الاستغراق في تبني المنظور المرضي أو الباثولوجي في التعامل معه.
(3) عبد الودود أحمد (2010). دافعية الانجاز في المجال الرياضي، متاح على شبكة المعلومات العالمي، متاح على الرابط الإلكتروني
ويتبع >>>>>: حالة التدفق: المفهوم، الأبعاد، والقياس2