حالة التدفق: المفهوم، الأبعاد، والقياس1
سابعًا: منهج وإجراءات الدراسة:
للإجابة عن أسئلة تعتمد الدراسة أسلوب تحليل أدبيات المجال من خلال تجميع وتنسيق وتصنيف الكتابات النظرية في المجال وتلمس مضامينها بما قد يسهم في جعل مفهوم حالة التدفق أكثر ألفة في البيئة العربية.
وقد يصح الإدعاء بأن هذه الدراسة أقرب إلى أوراق العمل منها إلى الدراسات البحثية بمعناها المتعارف عليه بين أهل الاختصاص، ومع ذلك ربما من المقبول إدرجها تحت فئة دراسات التحليل النظري المرتكز على التحليل المفاهيمي المنطلق من قاعدة بناء المفاهيم Construct establishment ، وهو منهجية أقرب إلى مناهج البحث الكيفية.
ثامنًا: التحليل النظري لمفاهيم وعناصر الدراسة:
(1) وضعية حالة التدفق في إطار علم النفس الإيجابي
علم النفس الإيجابي هو علم الدراسة العلمية للسعادة الإنسانية. ويظهر تاريخ علم النفس كعلم اهتمامًا وتركيزًا شبه تامًا على دراسة الأمراض النفسية مع اهتمام ضئيل جدًا بدراسة القضايا المتصلة بالسواء النفسي أو الشخصية السوية.
فقد تعاملت برامج بحوث علم النفس ونماذجه التطبيقية بصورة أساسية مع صيغ الخلل والقصور النفسي الوظيفي لدى البشر دون الاهتمام بأشكال ومؤشرات السواء والاتزان النفسي. ويمكن تلمس دعوة إلى تصحيح هذه الوضعية المختلة لعلم النفسي في كثيرٍ من الكتابات النفسية المبكرة مثل كتابات الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي وليام جيمس إذ أفاد جيمس في كتابه "تنويعات الخبرة الدينية: دراسة في الطبيعة الإنسانية The Varieties of Religious Experience" أن السعادة الغاية النهائية للحياة الإنسانية وأن من يسعون للوصول إليها والاقتراب منها وتحقيقها هم الأجدر بأن يطلق عليهم "ذوي العقلية السوية healthy-minded "
ويمكن فهم ما يقصده جيمس بمفهوم العقلية السوية من خلال مقارنته بمفهوم آخر ركز عليه جيمس في كتابه المشار إليه وهو مفهوم "الروح المريضة The sick soul " كنمطين رئيسيين لما يسميه "بالصحة الروحية spiritual health" ، كما يتضح من الجدول التالي:
العقلية السوية | الروح المريضة |
الشخص ذو العقلية السوية هو ذلك الشخص المتفائل الذي يمتلك نظرة طبيعية إيجابية للحياة. وقد تأثر جيمس في تحديد ملامح مثل هذا الشخص بمبادئ حركة شفاء النفس والتي كانت بمثابة جماعة ضغط دفعت باتجاه التركيز على تنمية التفكير الإيجابي كوسيلة لعلاج المرض والاكتئاب. | وتوجد لدى من يمتلكون روحًا مريضة وتسيطر عليهم الكآبة ولا يرون إلى الشر والقبح في العالم من حولهم. والطريقة الوحيدة لعلاج الروح المريضة فيما يرى جيمس تحرر الإنسان من ربقة التشاؤم والشر والاعتقاد في الإيمان والروحانيات. وفي حالة حدوث مثل هذا التحرر يحدث للإنسان ما يسميه جيمس بالولادة الثانية للروح مما يدفع ذلك الإنسان باتجاه السواء وبالتالي رؤية الحياة من منظور إيجابي تفاؤلي. |
المصدر:4 (James,1902) |
وطور علماء نفس المدرسة الإنسانية مثل أبراهام ماسلو وكارل روجرز وإريك فروم نظريات وتطبيقات ناجحة تتضمن تركيزًا على قضية السعادة الإنسانية بالرغم من افتقاد رؤاهم في هذا الصدد للشواهد الإمبيريقية بما يجعل هذه الرؤى أقرب إلى التأملات الفلسفية.
وتعد أعمال الرواد الأول لحركة علم النفس الإيجابي مارتين سيلجمان، إيد إدينير، ميهالي تشكزينتهيمالي شيكزينتميهالي تشكزينتهيمالي، كريستوفر بيترسون، كارين ريفيتش، وغيرهم كثيرون بمثابة الأسس التي وضعت دراسة السعادة الإنسانية في مسار المجرى الرئيسي لمجال علم النفس وبالتالي أضافت أبعاد إيجابية لمجال علم النفس السائد.
وتفيد كريستال بارك5 (Crystal L. Park (2003 في إطار إجابتها عن هذا السؤال، أن التعريف الذي قدمه كل من مارتين سليجمان وكسكسيميهالي تشكزينتهيمالي (2000) لعلم النفس الإيجابي في مقال لهما نشر بمجلة الأخصائي النفسي الأمريكي من التعاريف الجيدة التي توفر أرضية نظرية مقنعة لمواصلة البحث في هذا المجال وينص هذا التعريف على أن "مجال علم النفس الإيجابي على المستوى الذاتي أو الشخصي هو علم يهتم بدراسة وتحليل الخبرات الشخصية الذاتية المقدرة أو ذات القيمة مثل: الرفاهية الشخصية أو جودة الوجود الذاتي الشخصي، القناعة، والرضا (في الماضي)؛ الأمل والتفاؤل (في المستقبل)؛ التدفق والسعادة (في الحاضر).
وعلى المستوى الفردي، يتعلق علم النفس الإيجابي بدراسة وتحليل السمات الإيجابية للفرد: القدرة على الحب والعمل، البسالة والجرأة، مهارات العلاقات الاجتماعية المتبادلة مع الآخرين، الإحساس والتذوق الجمالي، المثابرة، التسامح، الأصالة، الانفتاح العقلي والتطلع للمستقبل، الشغف الروحي، الموهبة العالية، والحكمة. وعلى مستوى الجماعة، يدور علم النفس الإيجابي حول الفضائل والمؤسسات المدنية التي تحرك الأفراد تجاه المواطنة الصالحة، المسئولية، التواد مع الآخرين والاهتمام بهم، الإيثار، الأدب والأخلاق، الاعتدال، التحمل، وخلق العمل6"(Seligman&Csikszentmihalyi,2000, p. 5).
وتعرف شيلي جابل وجوناثان هيدت (2005) علم النفس الإيجابي بأنه: "الدراسة العلمية الموضوعية للظروف والعمليات التي تسهم في ازدهار أو رفاهية وتمكين الأفراد، والجماعات، والمؤسسات من الأداء الوظيفي الفعال أو المثالي"7 (Gable&Haidt,2005,PP.103-110).
وبصورة عامة، يصف العاملون في مجال علم النفس الإيجابي هذا العلم بأنة "دراسة كافة مكامن القوة لدى البشر، دراسة كل ما من شأنه وقاية البشر من الوقوع في براثن الاضطرابات النفسية والسلوكية، إضافة إلى دراسة كل العوامل الفردية، الاجتماعية، والمجتمعية التي تجعل الحياة الإنسانية جديرة بأن تُعاش" (Crystal L. Park,2003,P.3).
ومصطلح علم النفس الإيجابي مظلة عامة لدراسة الانفعالات الإيجابية، السمات الإيجابية للشخصية، ومؤسسات التمكين أي مؤسسات تمكين الإنسان من توظيف وتفعيل طاقاته وإمكانياته لعيش حياة هانئة ومنتجة. وتهدف نتائج بحوث ميدان علم النفس الإيجابي إلى إكمال وليس إلغاء أو حذف، ما هو معروف بالفعل عن المعاناة الإنسانية، عن الضعف الإنساني، وعن الاضطرابات النفسية والسلوكية.
والهدف إذن التوصل إلى فهم علمي كامل متوازن للخبرة الإنسانية في بعديها الإيجابي والسلبي ـ القمة والقاع، وكل ما بينهما ـ. ونعتقد أن العلم والممارسة الكاملة لميدان علم النفس يشمل ضرورة تفهم كل من المعاناة والسعادة في نفس الوقت، إضافة إلى تفهم طبيعة ونوعية التفاعل فيما بينهما، والتحقق والإثبات التجريبي الإمبيريقي لصدق وفعالية صيغ التدخل والعلاج التي تزيل أو تخفف المعاناة وتزيد أو تعزز السعادة8.
ولتفهم وضعية حالة التدفق كأحد أهم الظواهر الإيجابية في مجالات علم النفس الإيجابي من خلال تصوير مجالات الدراسة التي يهتم بها هذا الفرع والتي تتمثل في ثلاث مجالات بحثية متداخلة فيما بينها:
(أ) البحوث التي تتناول دراسة ما يعرف بالحياة السارة أو حياة الاستمتاع وتهتم هذه البحوث بدراسة كيف يتعامل البشر مع الانفعالات والمشاعر الإيجابية كجزء أساسي وسوي للحياة الإنسانية (مثل: العلاقات الاجتماعية الإيجابية، الهوايات، الاهتمامات، الاستمتاع والترفيه، وما إلى ذلك).
(ب) البحوث التي تتناول ما يعرف بالحياة الجيدة أو "حياة الانغماس أو الاندماج" وتهتم مثل هذه النوعية من البحوث بدراسة التأثيرات المفيدة الانغماس، التشرب، والتدفق والتي يشعر بها الأفراد عندما يندمجون بصورة مثالية في الأنشطة المفضلة لديهم. وعادة ما يتعايش الأفراد من حالات الخبرة هذه عندما يحدث نوعًا من التطابق الإيجابي بين قدرات الشخص وإمكانياته والمهام التي يؤديها أو يتعامل معها، بمعنى عندما يشعر الأفراد بالثقة في قدراتهم على إنجاز المهام التي يواجهونها.
(ت) البحوث التي تتناول ما يعرف بالحياة الهادفة ذات المعنى أو معانقة الحياة والانتماء إلى الآخرين وما تتضمنه من إحساس برغد العيش وهناءته، الانتماء، المعنى، وتنبي أهداف أخلاقية ذات قيمه عليا تجعل الشخص يتجاوز اهتماماته الذاتية الضيقة إلى أهدافًا عامة تحقق المصلحة والخير العام وذلك بالانتماء الفعال "للجماعات الاجتماعية، المنظمات، الحركات، ونظم الاعتقاد".
|
شكل رقم (1) الصيغ الثلاث للرضا عن الحياة وفق مضامين علم النفس الإيجابي |
وبناء على ذلك تتضح وضعية حالة التدفق في علم النفس الإيجابي كخبرة ذاتية تمثل ظاهرة إيجابية تتحقق عندما يذوب الفرد في المهام والأعمال مقترنة بحالة من النشوة والابتهاج يعاين من خلالها بهجة الحياة وبالتالي يكتشف معنى الحياة وتصبح حياته هادفة وجديرة بأن تُعاش، وتمثل حالة التدفق العامل الحاسم في تكوين المعنى والهدف من الحياة وإضفاء المغزى والقيمة عليها وبالتالي دفع من يتعايش معها إلى الإبداع بل إلى أعلى تجليات الإبداع الإنساني.
_________________________________________________________________
4- James,W.(1902). The Varieties of Religious Experience: A Study in Human Nature. http://en.wikipedia.org/wiki/The_Varieties_of_Religious_Experience#Healthy-mindedness_versus_the_sick_soul
5- Crystal L. Park (2003). The Psychology of Religion and Positive Psychology. PSYCHOLOGY OF RELIGION
NEWSLETTER, VOLUME 2 8 , N O . 4, PP. 1-20. AMERICAN PSYCHOLOGICAL ASSOCIATION DIVISION 36.
6- Seligman, M. E. P., & Csikszentmihalyi, M. (2000). Positive psychology: An introduction. American Psychologist, 55, 5–14.
7- Gable, S.L., & Haidt, J. (2005). What (and Why) Is Positive Psychology? Review of General Psychology, Vol. 9, No. 2, 103–110.
8- Martin E. P. Seligman , Tracy A. Steen& Christopher Peterson (2005). Positive Psychology Progress: Empirical Validation of Interventions. Positive Psychology 1 .