من على الشيزلونج ـ حالات نفسية
المرأة، الوسواس والزواج
دخلت السيدة X ذات الستة وثلاثين ربيعا مهندسة لا تعمل تفرغت للأربعة أولاد، تسكن مع أولادها وزوجها في منطقة راقية بضواحي القاهرة، كانت قد ذهبت إلى طبيبين نفسانيين قبل هذا الدكتور، دخلت إلى مكتبه بخطى وئيدة ووجه جميل صارم، تنهدت ثم قالت:
- بدأ مرضي منذ أن كان عندي 18 سنة، جاءني المرض النفسي في صورة خوف شديد واكتئاب.
سأل الدكتور:
- والآن؟
- ردت المريضة وسواس قهري؟ OCD
- ماذا تقصدين؟
(يتخيل بعض المرضى أنهم فاهمون التشخيص العلمي بترديدهم عبارات طبية وعلمية يقتنصونها من مرضى آخرين وأحيانًا من التليفزيون)
- أقصد تلك الفكرة الزنانة المُلحة المرهقة المتعبة المولدة للتوتر.
- أي فكرة؟
- شكل ملابسي، إحساسي أن هناك من عمل لي عملا ما في الأكل.
أحس الدكتور أن هناك أمورا أخرى وراء أعراض الوسواس القهري، الذي لم يكن وسواسًا قهريًا كلاسيكيًا .
- ماذا عن عائلتك؟
- أمي عصبية، مات والدي منذ ربع قرن... نعم، منذ 25 سنة بفشل في وظائف الكبد. تزوجت منذ 15 سنة، زوجي أكبر مني بثماني سنوات، بيننا مشاكل كثيرة وكبيرة، إنه ضعيف الأنا Weak Ego
استوقفها الدكتور وسألها:
- ماذا تقصدين بـ "ضعيف الأنا" .Weak Ego
- أنا سمعت التعبير في الراديو، وفهمت أنه لا يؤكد ذاته ولا يطلب حقه، لا يسعى في الأرض، لا يعرف كيف يقول: (لا) عندما يستدعي الأمر ذلك بشدة.
لاحظ الدكتور أن السيدة تعاني من بعض الضلالات الخفيفة (الضلالة اعتقاد خاطئ لا يقبل الشك أو الاهتزاز، ولا يمكن تفسيره في إطار الثقافة العامة، أو ما يدور من مفاهيم شعبية عادية) بمعنى أنها تؤمن بأن الناس يعملون ضدها أو يخربون زواجها.
أحس الدكتور بأن التشخيص غير واضح وغير مكتمل ويحتاج لعدة جلسات، وصف لها حقنة مضادة للذهان (فقدان الصلة بالواقع نتيجة خلل في كيمياء المخ العصبية، تحديدًا مادة الدوبامين) حقنة تعمل بطريقة مختلفة حيث تفرز من مكان حقنها في العضل قطرة كل يوم، وكأنها عملية الري بالتنقيط مما لا يجعل لها آثارا جانبية ويجعل مستوى المادة الفعالة في الدم ثابتـًا.
تخلصت المرأة من الوسواس والأفكار الضلالية وتحسن مزاجها لكنها ظلت نهبًا للقلق والخوف من المجهول، هنا حانت الفرصة لاستكشاف ما يدور في عقلها الباطن ومعرفة ما يلفها من مخاطر وما تعيشه من متاعب وأحزان، وبدأ العلاج النفسي الذي يرتكز على التحليل، ذلك الذي يعتمد على (المواجهة، التفسير/ التأويل، التوضيح).
مستخدمًا (الاستدعاء الحُر أو الطليق) بمعنى أن تستلقي المريضة على أريكة التحليل النفسي (الشيزلونج) وتقول كل الذي في قلبها.
قالت فيما قالت أن الدنيا صارت سوداء مظلمة بعد وفاة والدها، انفردت بها أمها القاسية التي فضلت أختها عليها، صاحت في أسى (أنا محاطة بناس صعبة، أنا مختلفة عنهم، زوجي أصعبهم وأولهم، ردود فعله غضوبة وفيها شطط).
تبين أن زوجها غير ناجح في عمله، وأنه يحس بفشله معها وأمامها (ولما انتبه الدكتور لعلمه بالفشل سألها عن العلاقة الزوجية الحميمة).
ردت الزوجة قائلة:
ـ أحس أنه ضعيف جنسيًا، زمان كنت أخبره بذلك وأحسسه بذلك، لكن الآن ولخوفي من الطلاق وشبحه الذي يخيم عليّ خصوصًا بعدما طلقت مرتين، الآن أتظاهر بالرضى حتى لا أفقده.
هنا عقب الدكتور:
- تعتبرين اللقاء الجنسي مجرد اعتراف منه بك كأنثى وهذا منتهى القصد .
صرحت المرأة والدموع تملأ عينيها:
- سألته ذات مرة، لماذا لا تقربني بالشهور، صرخ في وجهي بصراحة فجّة مقيتة (ماليش نفس ليكي إنتي بالذات) إنه انسان لا يحترم كيانه كرجال كثير أراهم في مسيرة الحياة.
هنا جلس الدكتور وكتب في ملاحظاته:
1- وفاة الأب وهي في طور النمو الأول.
2- قسوة الأم وتفضيلها لأختها عليها.
3- ضعف الزوج نفسيًا، شخصيًا وجنسيًا.
4- ازدياد المشاكل الزوجية حدة وتطورها إلى شكل مزمن.
5- كثرة عدد الأولاد نسبيا .
6- الإحساس الدائم بالتهديد نتيجة فشل الزوج في عمله وفي حياته.
العلاج:
محاولة تطويع البيئة المحيطة من خلال تقوية دفاعات المريضة الصحية والصحيحة، وتدريبها على أن تكون أكثر مرونة وتقبلا للواقع.
الخلاصة:
هذه امرأة في أواخر العقد الثالث من عمرها، فقدت أبيها وهي في طور الطفولة الأول ـ سن حساسة جدًا ـ أمها قاسية تفضل أختها عليها، صارت هي الأب والأم وصارت هي الأم الفظيعة ليست تلك الحنونة الرقيقة ولكن هي كما كانت تخوفها زمان (أمها الغولة) لم يُستدمَج (لم يرقد في عقلها الباطن وفي تكوينها النفسي ذكر قوي)؛ فتزوجت من رجل غير قوي لم يرض غرورها، أصيبت بذهان (نشاط مختل للمخ بأفكار غريبة تقترب كثيرًا من الضلالات)، عليها ضغوطات كثيرة، لها مخاوف مبررة، تحسنت إكلينيكيًا (بمعنى تحسن أعراضها فقط) ولكن تبقى النار تحت الرماد.
ما بعد شفاء الأعراض
دخلت المريضة منهارة باكية في جلسة متابعة عادية تحاول أن تتماسك لكنها انفجرت وقال:
- طلقني يا دكتور، زوجي طلقني الطلقة الثالثة على الفيس بوك، حتى أنا شككت في جدوى هذه الطلقة، كلمته مباشرةً صرخ في وجهي في عنف قائلاً (انتي طالق طالق طالق... انتي ما بتفهميش).
أومأ الدكتور محاولاً تهدئة مريضته، شرح لها كيف أنها الطرف الأقوى في العلاقة (وهي المرأة) هو أضعف في كثير من الأمور (نفسيا، ماديا وجنسيا) وهن الذكر أمامها فأصبحت لا إراديا أكثر رجولة منه وفي علم سيادة العلاقة بين الذكر والأنثى هناك ما يسمى في الطيور Pecking order بمعنى أنه ليس بالضرورة أن يواقع الذكر أنثاه لمجرد أنه ذكر، لا، يجب أن يكون جديرًا بها قادرًا عليها، فاهمًا لها، وأنه إذا تقوى طرف فسيكون ذلك على حساب الطرف الآخر، أي إذا اكتأبت الزوجة ومرضت صار الرجل سي السيد، أما إذا خفّت الزوجة وشدّت حيلها ونهضت فسيكتئب الزوج ويضعف (ولأن العنيف ضعيف، يثور الزوج ويصرخ ويطلق أيضًا).
في الفراش أحس بضعف عضوي زاده ضعفه النفسي سوءًا، صار يحس في الفراش بدونية وبأنه لا يليق بتلك المرأة، ولهذا فهو طلقها لكي يتحرر من إحساسه بالضعف، طلقها ليحررها من عبء انتظاره بشكل عام، وطلقها لكي يتقوّى بإمكانية أن يكسرها. نعم لمجرد أن العصمة في يده، وأن بإمكانه أن يذلها ويطلقها دونما سبب واضح وجلي.
الرؤية المستقبلية
قد يعود الرجل لرشده، قد يقوى في عمله، وقد يزداد ضعفه ويشتدّ، فيستمر في انفصاله عن زوجته القوية. إن الحياة بكل لوعتها تهددّه في كيانه، وهو غير قادر على هضمها بكل ما لها وما عليها.
أما هي فلقد تحررت من مرضها (شفيت)، وهي التي كانت وما زالت قوية، صحيح المرض أبطأ خطاها وكان يمثل لها دفاعًا نفسيًا منها خوفا من تهديد الطلاق أو الإفلاس.
مرحلة الطفولة هنا هي مربط الفرس في تكوين شخصية حالتنا، فقدان الأب بالموت أمرٌ جلل ترك ندبة وحسرة تجاه الذكر المفقود، ولما حلّ الزوج ذكرًا مشروعًا، فقد قيمته بضعفه، فسقط من وعي امرأته وهرب من مواجهتها بالطلاق .
العقدة الآن ليست في كرامتها التي جُرحت، لكن في الأطفال الذين إذا استمر طلاق والديهما، سيكونون (أطفال الانفصال) ولسوف يحسون (بعدم الأمان الوالدي).
ربما عانوا من (أعراض اضطراب الاغتراب عن الأبوين). وهو قد يحدث في حينها وقد تظهر آثاره في مرحلة لاحقة من العمر في صور شتى (ضيق، اكتئاب، مخاوف مرضية، قلق، أعراض جسدية).
المشكلة في الطلاق هي (فقدان الأسرة) كمفهوم وكيان ومحتوى لأن ثمة رابطة وجدت بين هذا وذاك وبين آخرين تحت سقف واحد، وفجأة كل راح لحال سبيله فانفصمت العرى وتفككت اللحمة، وهنا على الأسرة في شكلها (الانفصالي) أن تعيد ترتيب الأشياء بمعنى اشتراك الوالدين المطلقين سوياً في رعاية الأولاد نفسياً ومدرسياً ودعمهم في كافة النشاطات دون جرح ودون تكلف، عليهما ـ قدر الإمكان ـ التنزه سوياً وإقامة أعياد الميلاد وإشاعة جو من البهجة والمرح وعدم التعقيد.
واقرأ أيضًا:
سيكولوجية الأمن في جمهورية الخوف (مصر ـ سابقاً) / القلـق المستَبِدّ وضـراوة الشائعة / سيكولوجية الديكتاتور / فزورة الثورة: العملاق الأعمى، والكسيح المبصر