الغاية من هذه السلسة من المقالات هي التعرض لعلاقة الصحة العقلية والنفسية بمفهوم الجريمة من زاوية علمية تتطرق للأبعاد الاجتماعية والنفسية والعضوية للفعل الإجرامي.
يعاني الطب النفسي من تأزم مستمر في علاقته مع المجتمع والدولة في نظرته للفعل الإجرامي ولكنه في نهاية الأمر جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي يستعمل خدماته. غير أن مفهوم الفعل الإجرامي يخضع لدراسات علمية مستمرة حاله حال جميع المفاهيم الاجتماعية القديمة والحديثة، وفي مختلف فروع الطب النفسي وعلم النفس. تولد من خلال هذه الدراسات مفاهيم جديدة تبدأ بالانتشار أولاً ضمن مراكز البحث العلمي.
هذه الفقرة في غاية الأهمية من الناحية التعليمية في عالمنا العربي وتنعكس دوماً في قراءة المقالات العلمية. الكثير من الكتابات لا تشير إلى مصدر الحقيقة ولا تناقشها. ينتهي الأمر بأن يتصور القارئ أن الذي أمامه حقيقة لا تقبل الشك. إن من الضروري أن تعمل الجهات التعليمية على تأهيل الطلبة لأسلوب تفكير جديد. |
متى ما ترسخت هذه المفاهيم بعد إجراء دراسات غايتها الإثبات أو النقض، تبدأ بالزحف تدريجياً وتؤثر أولاً على العاملين في مجال الصحة النفسية وتعمل على تغيير نظرتهم إلى الجريمة ومرتكب الجريمة. أما المهمة الشاقة بعدها فهي نشر هذه المفاهيم وطرحها على الرأي العام لكي يتقبلها.
ولادة المفاهيم الجديدة في تفكير العاملين في الصحة النفسية عملية يسيرة لكثرة تفاعلهم مع ما هو الجديد في ميدان اختصاصهم، ولكن توصيلها إلى الرأي العام هي عملية صراع شاقة لا تنتهي بالنجاح دوماً. لا ينتهي الأمر في مجال البحث العلمي ولكن هناك قوة زخم أخرى تلعب دورها في مجال الصحة النفسية وهي العملية السياسية التي تدير أمور المجتمع والأخرى هي الاجتماعية التي تتعلق بالفضيلة أو الأخلاقية الإنسانية.
العملية السياسية تتفاعل مع مطالب الجمهور الذي يضمن استمرار أفرادها في العمل ومخالفة الجمهور كان له تأثيره على رجال السياسة والدين والتشريع منذ القدم ويضمن الحفاظ على ما يسمى بالتقاليد الموروثة إلى حين. في عين الوقت هناك قوة اجتماعية حديثة تظهر في داخل المجتمعات في وقت يطلق عليها أخلاقية العصر أو القرن وما شابه ذلك. هذه الأخلاقية في يومنا هذا التي يطلق عليها البعض أخلاقية القرن العشرين Twentieth Century Morality ولدت من جراء مسلسل الحروب العالمية والإقليمية ابتداءً من الحرب العالمية الأولى مروراً بالثانية وبعدها الحرب الفيتنامية.
تاريخ علم النفس والصحة النفسية يثبت تورطه مع العملية السياسية. استغلت النازية علم النفس وتعاونت مع مفاهيم كارل يونغ العنصرية. تآمر الطب النفسي مع طغيان الدولة في الاتحاد السوفيتي. من جراء ذلك هناك الكثير من الأعداء لعلم النفس والطب النفسي في جميع أنحاء العالم وترى هناك مصطلحات غايتها السخرية لا يزال يتداولها العامة من الناس لوصف الطبيب النفسي. |
كانت الحرب الأخيرة بداية لتصوير البعد الوحشي وعرضه بالألوان على شاشة التلفزيون والسينما في جميع أنحاء العالم. ابتدأت الألفية الثالثة بعمليات إرهاب وتصور البعض بأنها ستقضي على أخلاقية القرن العشرين التي تؤمن بتأهيل مرتكب الجريمة بدلاً من الإفراط في عقوبته لكن ذلك لم يحدث ولا تزال فضيلة القرن العشرين في تمام الصحة والعافية. هذه القوى الثلاث من سياسية تقليدية وعلمية بحتة وأخلاقية حديثة تضع الصحة النفسية في أزمة لا نهاية لها وطالما ترى أصابع الإدانة تصوب نحوه. القوة السياسية تتوقع دوماً خضوعه لمن يموله وهي الدولة، والقوى العلمية تتهمه دوماً بالكسل في تطبيق المفاهيم الجديدة، والأخلاقية تهتف بأن الطب النفسي ما هو إلا عميل للسلطة.
المخطط أدناه يوضح تفاعل القوى المختلفة مع الطب النفسي:
الخطر والصحة النفسية
تتميز خدمات الصحة العقلية عن غيرها من الخدمات الطبية بتركيزها على خطورة الإنسان تجاه نفسه عن طريق الانتحار وخطر الإنسان المراجع للخدمات تجاه غيره من البشر عن طريق فعل إجرامي. يتم تقييم فعالية الخدمات الصحية النفسية بمراجعة الإحصائيات الحكومية عن حدوث الانتحار سنوياً وعلاقتها بجغرافية المنطقة وكذلك الأمر في جرائم القتل. الانتحار وجرائم القتل ترتبط دوماً بعوامل اجتماعية واقتصادية متعددة تخجل من الخوض فيها الجهات الرسمية، وأما الخدمات الصحية العقلية وفعاليتها فهي فريسة سهلة وتثير اهتمام رجال السياسة والرأي العام وطالما يتم تقييم فعالية الخدمات عن طريق دراسة الانتحار وجرائم القتل دون غيرها من المؤشرات.
الانتحار لا يثير الجدل الكثير مقارنة بجرائم القتل حين تكشف التحريات بأن مرتكب الجريمة يعاني من اضطراب عقلي تم تشخيصه وعلاجه من قبل الخدمات الصحية العقلية. هناك اعتقاد زائف بأن المصاب بالفصام أكثر خطراً تجاه الآخرين ويجب الحجز عليه في مستشفى الصحة العقلية لا لتلقيه العلاج وإنما لحماية بقية أفراد المجتمع. لكن الإحصائيات العامة الخاصة بجرائم القتل قلما تتطرق إلى التشخيص وكثيراً ما تشير إلى أن مرتكبي الجرائم كان لهم اتصال أو مراجعة لخدمات الصحة العقلية قبل ارتكابهم الجريمة.
كانت الصفحة الأولى والمقالة الافتتاحية لصحيفة الصن Sun مخصصة لهذا الموضوع موجهة انتقاداً لاذعاً للخدمات الصحية النفسية البريطانية. |
الإحصائيات الرسمية في المملكة المتحدة على سبيل المثال تشير إلى حدوث 1200 جريمة خلال عشر سنوات تم ارتكابها من قبل أفراد راجعوا مركز الصحة العقلية. يمكن قراءة الرقم بصورة أخرى وهي 120 جريمة سنوياً يتم ارتكابها من قبل أفراد مصابين باضطراب عقلي أو بعبارة أخرى هناك جريمة قتل كل ثلاثة أيام ترتكب من قبل مريض مصاب باضطراب عقلي. عندما يتم عرض الخبر على عامة الشعب لا أحد يتوقع رد فعل إيجابي ويتعالى الصراخ والهتاف بشعارات منها:
٠ لابد من حجز المجانين من البشر.
٠ الصحة العقلية مجرد هدر وتبذير لميزانية الدولة.
٠ العودة إلى عقوبة الإعدام وغيرها.
أما تفاعل رجال السياسة فهو يميل إلى تأييد الجمهور دون الخدمات الصحية العقلية. من جراء ذلك ترى بأن الصحة العقلية قلما تجذب عطف وحنان الدولة والمجتمع مقارنة بالاختصاصات الطبية الأخرى.
يتم تعريف الفعل الإجرامي قانونياً في كافة المجتمعات ولكن مصدر التشريع يختلف من مجتمع إلى آخر. التشريع بحد ذاته يتعرض إلى عملية تطورية ويخضع أحياناً إلى ظروف عرضية اجتماعية وسياسية وعاطفية وبل حتى إلى عوامل اقتصادية. هذه الظروف العرضية لا تؤثر على العملية التطورية للتشريع على المدى البعيد وكل ما يمكن أن تفعله هو تهدئة سرعة العملية ولكنها لا تستطيع توقيفها. إن توقفت العملية التطورية التشريعية في مجتمع ما توقف معها عملية تطور المجتمع فكرياً وسياسياً واقتصاديا ويمكن القول بأن هذه هي بداية نهاية المجتمع بأسره وقرب انقراضه.
يمكن توضيح تأثير عملية التنفيذ في العملية القانونية من قراءة قضية أين بريدي ومايرا هندلي في قتل خمسة أطفال في شمال بريطانيا في بداية الستينيات. كان بريدي ولا يزال مصاباً بالفصام ولكن القاصي وهيئة المحلفين لم تأخذ ذلك بنظر الاعتبار. توفيت هندلي ولا يزال بريدي في مصحة للطب العقلي حتى هذا اليوم. يمكن مراجعة تقرير هيئة الإذاعة البريطانية عام 2009. |
يتطلب تعريف الفعل الإجرامي القيام بالفعل أولاً وتواجد الفكرة أو النية للقيام به. يتم تقسيم هذا التعريف كما يلي:
1- الفعل المذنب Actus Rea .
2- العقل المذنب Mens Rea .
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فيتم إضافة ما يسمى بالظروف المرافقة للجريمة Attendant Circumstances .
من خلال هذه المقدمة لابد من بعدها التطرق إلى تفاعلات وآراء الطب النفسي الحديثة في الجريمة كما يلي:
واقرأ أيضاً: