لا يساورني أدنى شك في حسن نية من أوصى بالكشف الطبي، نفسيا وجسديا، على المتقدمين للترشح لرئاسة مصر، فمن ذا الذي لا يتمنى أن يحكمه حاكم سليم الجسم والعقل، بل ومن ذا الذي يقبل أن يحكمه من هو غير ذلك؟ ولكن وسائل تحقيق هذا الهدف هي أبعد ما تكون عن الواقع والموضوعية، ومع ذلك فلمثل هذا الإجراء وهذه التوصية دلالات طيبة ومهمة، فمن ناحية هو إجراء طبيعي يذكرنا أن رئيس جمهورية مصر العربية هو موظف حكومة، مثله مثل أي موظف آخر، وبما أنه لا يمكن تعيين أو تثبيت غفير نظامي في وظيفته إلا بعد الكشف الطبي عليه في القومسيون الطبي، كذلك ينبغي أن يكون الحال هو نفسه بالنسبة للسيد الموظف برتبة رئيس الجمهورية، (كلام معقول !!)؟
ومن ناحية أخرى فهو قرار يوحي بأن الدرس قد وصل لمن يريد بهذا البلد خيرا، وأنه من خلال قراءة الممارسات القريبة والبعيدة، ليس فقط في هذا البلد ولكن عبر الدنيا، وعبر التاريخ، تبين أن بعضهم الرؤساء لم يكونوا على درجة من الصحة النفسية أو الجسمية نأمن معها سلامة قراراتهم، أو كفاءة قدراتهم، مما ترتب عليه درجات متفاوتة من الشطح من ناحية، وأيضا درجات غير مقبولة من العجز، وما ترتب على ذلك من مضاعفات بلغت درجة الكوارث لم تقتصرعلى شخصه بل امتدت لكثير من رعيته.
لن أدخل في الأمراض العضوية التي يمكن أن تحول دون أن يكون الرئيس قادرا مبدعا منجزا مبادرا مستجيبا، فهذا اختصاص غيري من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد أصبح الكثير من الأمراض أمراضا "معملية" وليست أمراضا واقعية معيقة، وبالتالي فالحكم على مدى إعاقتها متروك للمختصين فيها مع التحذير من الزيادة المضطردة في التجارة بالصحة والمرض.
من الناحية النفسية والعقلية، بينت صعوبة التمييز بين الصحة والمرض في الأحوال العادية، واليوم أضيف أنه يكاد يستحيل اكتشاف مرض شخص بهذه الأمراض في هذا التخصص بالذات إلا من خلال شكواه شخصيا، أو من خلال تقرير من حوله ممن لاحظوا ما يستدعي الفحص والاستشارة، بدءا بأسرته، فزملاء العمل، فالمجمتع الأوسع، وليس من المعقول أن يتقدم شخص للترشح لرئاسة الجمهورية وهو يشكو من، أو يحكي عن، أصوات تكلمه دون غيره في حجرة مغلقة، أو ما شابه،
وفي نفس الوقت ليس من المنتظر من زوجته أو أولاده أن يبادروا بإبلاغ الطبيب الفاحص ما لاحظوه على عائلهم من مثل ذلك أو غير ذلك، فما العمل؟ مصدر آخر لمعرفة المرض هو غير متاح، وغير مطلق وهو الحصول على تاريخ المرشح المرضي السابق، واكتشاف أنه عولج يوما من مثل هذه الأمراض، وحتى إن أمكن ذلك –وهو أيضا شبه مستحيل -فإن المرض السابق ليس وصمة دائمة تعني أنه لا بد أن يصاب به من جديد، أو أنه لم يشفى منه تماما، بل وربما خرج منه أحسن مما دخل فيه أحيانا، وبالتالي فإن خلو المفحوص من المرض "الآن" كاف للحكم بسلامته "الآن"، لكنه في نفس الوقت ليس ضمانا لعدم انتكاسه قريبا أو بعيدا.
نقطة أخرى سوف أعود إليها لاحقا وهي أن كثير من الرؤساء الذين عرف عنهم توازنهم البالغ، وسلامتهم المفرطة، قبل توليهم هذه المسئولية، أصابهم ما أصابهم مما ترتب عليه ما ترتب بعد الجلوس على الكرسي الساحر، وليس قبله،إذ يبدو أن للكرسي، خاصة في بلادنا الطيبة التي تحيطه بهالة من التبجيل والتقديس، سر باتع، يصيب من يجلس عليه بسحر خاص، يتسحب إليه تدريجيا –عادة -دون أن يدري، حتى يصل به إلى ما ليس هو!!، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويبدأ هذا المفعول السحري للكرسي المتين بأعراض بسيطة، ومظاهر تدريجية، عادة ما تفيد الجالس عليه في تعتيم رؤيته لنفسه، ولمن حوله، ثم لآدائه وحتى لشعبه، وربما لتارخيه،
أو حتى للتاريخ عامة، وأبدأ بأسط –مع أنها قد تكون أخطر –الأعراض المحتملة وهو –ولا مؤاخذة –ضعف الذاكرة، بغض النظر عن السن طبعا، وهي ظاهرة ترحم صاحبها من تذكر ما لا يحب أن يذكره، كما أنها تنسيه بدماثة متسحـبة حاله قبل الكرسي، ثم تنسيه بتسحب أخفى وأقوى وعوده والتزاماته، خاصة إذا كان بالغا فيها مهما حسنت نواياه آنذاك، ثم قد تنسيه –ولا مؤاخذة –طبيعة أخلاقه القبلــكرسية الرائعة الكريمة، وأخيرا قد تنسيه تاريخه الشخصي، ثم أخطاءه القريبة والبعيدة،
ثم تاريخ بلده، ثم التاريخ عامة، وكل ذلك لا يدرج عادة تحت اسم "مرض نفسي" بذاته، خاصة للجالس على الكرسي الساحر، وما لم يتدارك هذا التغيير المتسحب بعض المخلصين من المحيطين به، المحبين له وللبلد، وما لم تكن مؤسسات ونظم الدولة قادرة على إيقاف نزيف الذاكرة الخفي هذا،ومواجهته بإجراءات تحول دون ضرره على الناس خاصة، وما لم ينتبه سيادته للفرق والفروق، فقد نجد أن من يحكمنا هو غير من اخترناه، والأهم هو غير من تم الكشف عليه وتمت إجازته أنه "صاغ سليم"، فكيف بالله عليكم نضمن استمرار السلامة؟ بالكشف الدورى؟ هيهات هيهات، فإذا كان المرشح الكريم قد خضع راضيا وهو يتقدم للترشيح بكل تواضع وطيبة، فكيف نضمن أن يخضع للكشف الدوري، ويا لمأزق الزميل المختص حتى لو وافق على ذلك.
(إقرأ غدا قصة هنا قصة: ملابس الإمبراطور الجديدة لهانز كريستيان أندرسون) وتأمل مغزاها لو سمحت.
السبت: 5-4-2014
واقرأ أيضاً:
نفس الموقف عبر ثلث قرن!! فما لزوم الكتابة؟ / فزورة الاحتجاجات والتصريحات / قصة قصيرة (جديدة) "هاييتي"!!