الجماهير هي الطرف المقابل للسلطة، وهي تؤثر بالسلب والإيجاب في السلطة كما تتأثر بها، ولا يمكن فهم منظومة الحياة السياسية أو الاجتماعية بغير فهم التركيبة النفسية لكل من السلطة والجماهير وديناميات العلاقة بينهما. وإذا كانت هناك أصوات وأقلام تعلي من قيمة الجماهير وتتملقها فإن هناك أصوات أخرى تصف الجماهير بأوصاف غاية في السلبية.
ومن أشهر من حاولوا دراسة التركيبة النفسية للجماهير جوستاف لوبون في نهاية القرن التاسع عشر في كتابة "سيكولوجية الجماهير". وقد ولد جوستاف لوبون في باريس عام 1841 وتوفي عام 1921 م .
وكتابات جوستاف لوبون تميل إلى رؤية الجانب السلبي في الجماهير وقد يرجع ذلك لغلبة الجوانب السلبية على سلوك الجماهير أو لظروف الفترة التي عاشها جوستاف لوبون إبان الثورة الفرنسية
حيث سادت فرنسا حالة من التمرد الشعبي وحالة من الفوضى في تلك الفترة الانتقالية ولم يكن يعرف على وجه التحديد مآل هذا التمرد الجماهيري وتلك الفوضى الشعبية، فقد انطلقت الجماهير كمارد جبار خرج من القمقم ولا يستطيع أحد السيطرة عليه أو ترشيده. وقد اعتقد لوبون وقتها أن "نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار، وأن العصر الذي ندخل فيه هو عصر الجماهير".
تقنيات سياسة الجماهير :
1- الترهيب (السياسة القسرية): وهي تعتمد على إحداث أكبر قدر من الهيبة للسلطة في قلوب الجماهير فتحوط السلطة نفسها بكل مظاهر القوة والعظمة والأبهة والبطش، فترتعد الجماهير خوفا خاصة إذا ترسخ في وعيها أن بطش السلطة بلا حدود وبلا منطق ولا يمكن لأحد توقعه أو التنبؤ به.
ولكي تحقق السلطة هذا القدر الهائل من الترهيب الذي تظل أعناق الجماهير له خاضعة تستعين السلطة بأجهزة أمنية جبارة ووسائل تنصت وتجنيد عملاء في كل مكان وممارسة كل أنواع البطش والتعذيب والتنكيل لإحداث أكبر قدر من الرعب في نفوس الناس.
2 – الترغيب (السياسة التعويضية): هنا تشتري السلطة ولاء الجماهير من خلال حياة الرفاهية والوفرة، ومن خلال بعض الحريات الفردية ونظام الاقتصاد الحر. وتسعى السلطة لاستمالة رموز المجتمع ومفكريه من خلال إغداق العطايا والمناصب، وتستميل الجماهير من خلال إعلان مبادئ الحق والعدل، وتسهيل عمليات النمو الاقتصادي والاجتماعي .
3 – الترغيب والترهيب (سياسة الاحتواء المزدوج): وهي سياسة تتبع منهج الجزرة والعصا فمن لا تغريه الجزرة ترهبه العصى .
4– التحاور والتعاون (السياسة التلاؤمية): فنرى احتراما متبادلا بين السلطة والجماهير، وحالة من الشفافية والتعددية الحقيقية، وتداول السلطة بشكل سلمي سلس، واللجوء إلى التثقيف والإقناع والحوار في حالة من التوازن الدينامي بين السلطة والجماهير .
دينامية العلاقة بين الجماهير والسلطة :
حين تكون السلطة منطقية وشرعية وقائمة على الشورى وملتزمة بها، وحين تكون الجماهير على درجة جيدة من التعليم والثقافة ولديها ملكة التفكير النقدي يصبح الأمر علاقة سلطة ناضجة بجماهير ناضجة فيسود العقل وتحتل الموضوعية مساحة كبيرة في العلاقة بين الطرفين فلا تتحول إلى حب حتى التقديس والاستلاب أو إلى كراهية حتى التدمير. ونتاج ذلك منظومة سياسية واجتماعية تتسم بالسلام وارتفاع معدلات الإنتاج والنمو والإبداع .
أما حين تكون السلطة غير منطقية، أو غير شرعية، أو استبدادية، أو فرعونية، حينئذ تسود ديناميات مرضية مثل الكذب والخداع والنفاق والعدوان السلبي واللامبالاة من جانب الجماهير، بينما تتعامل السلطة مع الجماهير بازدراء وشك وتوجس، وترى أنها غير جديرة بالتحاور والتشاور وإنما تساق بالعصى.
وإذا وصفنا نمط هذه العلاقة بمصطلحات علم النفس نقول بأنها علاقة بين والد ناقد مستبد وطفل يميل إلى العدوان السلبي. وهذا الطفل العدواني السلبي ينتظر اللحظة المناسبة لينقض على الوالد الناقد المستبد ليتحول بذلك إلى طفل متمرد. وبالتعبير الشعبي الدارج نصف هذه العلاقة بأنها علاقة القط والفأر.
هذين هما القطبين المتضادين على متصل العلاقة بين السلطة والجماهير وبينهما درجات عديدة من أشكال العلاقات حسب نوعية السلطة وطبيعة الجماهير .
تزييف الوعي :
ولكي تتمكن السلطة من قيادة الجماهير دون مواجهات أو مشكلات أو اضطرار للحل الأمني بكثرة فإنها تقوم بتشكيل وعي الجماهير بما يتفق مع مصالح السلطة، وهي تلح طول الوقت بأن ما تفعله هو في صالح الجماهير، وقد تتمادى السلطة في تشكيل الوعي الجماهيري حتى تصل إلى تزييف ذلك الوعي خاصة حين تكون أهداف السلطة غير مشروعة وغير أخلاقية،
لذلك فهي تقوم بتزييف وعي الجماهير حتى يرى تلك الأهداف الذاتية غير الأخلاقية أهدافا عظيمة ومشروعة ويخيل إليه أن السلطة تسعى لصالحه. وبالطبع فإن هذا العمل يتطلب مهارات عالية لذلك يختار أصحاب السلطة ذوي الكفاءات في الإعلام الموجه للإلحاح ليل نهار على حواس الجمهور من خلال الصحيفة والإذاعة والتليفزيون لإقناعه بما تراه السلطة.
وقد يتم التزييف من خلال شخصية كاريزمية في السلطة أو في المجتمع يتم من خلالها تسويق أفكار السلطة إلى الجماهير التي تتقبل هذه الأفكار بناءا على تقبلها وحبها للشخصية الكاريزمية.
والجماهير بعد تزييف وعيها تصبح كائنا انفعاليا غير منطقي يميل إلى التحيز على أساس عاطفي وحماسي، ويميل إلى الاندفاع في الاتجاه الذي يحدده له من قاموا بتزييف وعيه. وهذا السلوك الجماهيري يستمر على هذا النحو إلى أن تكتشف الجماهير أنها قد غرر بها أو خدعت، وحينئذ يتغير مسارها وتنقض بلا رحمة على من غرروا بها أو خدعوها، وقد يحدث هذا التحول بسبب كارثة كبرى تقع (هزيمة عسكرية ساحقة أو انهيار اقتصادي يهدد لقمة العيش) أو بسبب تراكم جرعات الوعي التي يبثها بعض المصلحون من أبناء الشعب.
ويتبع >>>>>>: سيكولوجية الجماهير2 : مفتاح شخصية الجماهير العربية
واقرأ أيضاً:
لماذا يقتل المصريون رؤساءهم ؟ / الترويج السياسي تحت مظلة الخوف / الزعيم الملهم / الأثر النفسي للقفص الزجاجي