مقدمة:
إذا بدأ الإنسان يدرس تشريح الدماغ البشري فأول ما يثير انتباهه هو ذلك التشابه والعلاقة بين دماغ الإنسان وغيره من الكائنات الحية. هذا العضو العظيم الذي يحرك اندفاع الإنسان ويوازن مشاعره وينظم فعاليات أعضائه الأخرى لا مثيل له وهو العقل والروح سوية وليس كما يتصور السذج بأن القلب وعضلاته هي مركز العاطفة. هذا العضو الرائع يتكون تطورياً من ثلاثة أجزاء. أقل هذه الأجزاء تطوراً هو ما نسميه الجزء الوسطي الداخلي الذي يتحكم بتنفس الإنسان ودقات قلبه وحركة أمعائه. هذا الجزء لا يخضع لإرادة الفرد ولا يختلف تطورياً عن دماغ الزواحف والأفاعي. تتنفس وتأكل وتنام عن طريق هذا الجهاز وتبدأ فعاليته في الحياة الدنيا يوم تسمع الأم صرخة وليدها.
الجزء الثاني يغطي ويعلو على الأول ويحتوي على الجهاز الحوفي Limbic System ويتحكم بعواطف الإنسان دون غيرها من الوظائف ويسعى إلى تناسقها مع فعاليات الدماغ الأخرى . هذا الجزء من الدماغ نشترك فيه مع الطيور تلك المخلوقات الحية الرائعة التي تسمع زقزقتها في الصباح ولا تثير إلا مشاعر البهجة في النفوس. تنتبه الأم إلى فعالية هذا الجزء من الدماغ يوم يرسل طفلها تلك الابتسامة التي طال انتظارها في الأسبوع الرابع من الحياة.
وفوق كل ذلك هناك الجزء الأعلى الذي يغطي الجزء الثاني ونسميه الدماغ الجديد والذي يشترك فيه الإنسان مع القرود وتلك القشرة المخية في أعلاه تميز البشر عن بقية المخلوقات الحية والذي يدعي كثيرون بأنها مركز إنجازات البشر الحضارية منذ قديم الزمان.
هذا التقسيم لتشريح الدماغ يوحي لك بأن الإنسان أكثر تطوراً من الطيور في شتى المجالات ولكن الأمر ليس كذلك إذا تابعنا سيرة هذه المخلوقات الرائعة فلا عجب إن سمعت عن ولع الأب الروحي لعلم التطور السيد شارل داروين. كان هذا العالم الجليل مولعاً بالطيور ويحتفظ بها ويرعاها في بيته مراقباً لسلوكها بعناية حتى تراه يكتب في دعوته لعالم في الجيولوجي لزيارته: "... سأريك الحمام في منزلي فليس هناك أفضل منها لنفهم قصة الإنسان".
ولكن هل تعلم الحمام من الإنسان؟
وهل حان الوقت لأن يتعلم الإنسان من الحمام؟
سلوك الحمام مقابل سلوك الإنسان:
عاشرت الطيور التي نراها تحلق هنا وهناك الإنسان لأكثر من خمسة آلاف عاماً، وكما هي عادة البشر في كل عصر وزمان فاستغلال الآخرين تم تثبيته في جيناته بإحكام واستغل الحمام مهارته في الملاحة يوم لم يكن هناك طائرات وساعي بريد.
من جراء هذه العشرة الطويلة بين الحمام والإنسان تراه يصول ويجول في مراكز المدن باحثاً عن الطعام والماء. يقترب من الإنسان الذي يلمس فيه القليل من الحنان والاهتمام. أما الإنسان العدائي فالحمام يكتشفه بسرعة أكثر من اكتشاف الإنسان لعداء أنسان آخر. يبتعد الحمام عن الإنسان العدائي ولا يهاجمه عكس البشر الذي قد يسلك مسلك الحمام أحياناً أو يهاجم من يعاديه. يعتمد ذلك كلياً على الخلفية الحضارية والفكرية للإنسان فكلما كان دوني الحضارة والمعرفة كلما ارتفع احتمال سلوكه العدواني. يمكن الاستنتاج بأن الحمام تطور بسرعة أكثر من تطور البشر فهو يميل إلى السلام والبشر لا يزال يميل إلى العداء. كلما توجسنا عصرا جديدا من السلام والألفة بين الشعوب انتكسنا ثانية. ما أبسط أن تنظر إلى خريطة العالم وترى بأم عينيك تلك النقاط الساخنة في صراعات إقليمية وعبر القارات ولا تنسى صراع الحضارات والأديان والطوائف الدينية.
هناك ثلاثة ميزات بشرية يكثر ملاحظتها في الكثير وهي:
• كثرة الكلام.
• كثرة الشكوى.
• قلة العمل.
هذه الميزات البشرية تتناسب عكسياً مع تطور الشعوب. تذهب لمراجعة دائرة حكومية وترى موظف الدولة يحتسي القهوة وقد يطالع صحيفة لا قيمة لها ويقول لك راجع صباح الغد لإكمال معاملة لا تستغرق سوى لحظات معدودة، وتسمعه يتحجج بقلة راتبه الشهري.
أما الحمام فهو عكس الإنسان فمتى ما أعطيته القليل من الطعام وعلمته للقيام بوظيفة ما فتراه لا يتوقف لساعات عدة تفوق الوقت الذي يستغرقه الإنسان لكي يتقن عمل مهمات روتينية. هذه الملاحظة في سلوك الحمام انتبه إليها عالم علم النفس السلوكي سكنرSkinner وتم إعادتها وإثباتها مئات المرات وتأكد العلم بأن المكافأة تحفز سلوك الحمام بسرعة.
ويبين الجدول التالي بمخططيه الوظائف الدماغية ذات الأهمية في هذا الموضع والتي نلمسها يومياً وهي الحيوية والتوازن والمعرفية موجودة في الحمام، انظر إلى المخطط على اليمين يوضح تقسيم دماغ الحمام، ثم عليك بعدها أن تنظر إلى دماغ الإنسان في المخطط على اليسار وترى توزيع الوظائف الحيوية والتوازن والمعرفية (التخطيط)
تقسيم دماغ الحمام | تقسيم دماغ الإنسان |
أما الوظيفة الأخرى التي يتميز بها الحمام ويتفوق فيها على الغالبية العظمى من البشر هو تذوقه للفن الرفيع غير المبتذل الذي أصبح من مميزات عصرنا هذا. يتعلم الحمام وبسرعة كذلك التمييز بين لوحات فنية لمونيت وبيكاسو على سبيل المثال. يبدو أن استعمال الحمام لحاسة البشر أفضل بكثير من البشر في شتى أنحاء العالم الذي يتميز بمستوى دوني في تقييم وإدراك الفن الرفيع ويصفها بالعبث وهناك بالطبع من يتحرج منها لأسباب روحية ويتصور بأن استعمال حاسة البصر في هذا المجال ذنباً لا يغتفر كما يشيع إليه الكثير من الغلاة.
من الوظائف التي يفتخر بها الإنسان هو قابليته على التفكير في التفكير نفسه واحتار علم النفس كيف يستحدث مصطلحاً يضيفه إلى قاموس المصطلحات النفسية الغريبة لوصف هذا الرقي المعرفي فوجد كلمة Metacognition هذه الوظيفة التي لا يستخدمها الغالبية العظمى من البشر بصورة علمية وصحية تراها محصورة في الفص الجبهي الأمامي من مخ الإنسان خلف جبهه الرأس وفوق العينين مباشرة. أثبتت التجربة العلمية بعد الأخرى بأن هذا الرقي المعرفي لا ينحصر على الإنسان فقط وأن هذا الجزء من الدماغ موجود في الطيور أيضاً.
قد تتصور بأن منطقة التخطيط في دماغ الإنسان أكبر بكثير ولكن عليك أن ترى الفرق في حجم دماغ الإنسان مقارنة بدماغ الحمام والأهم من ذلك حجم البشر مقارنة بحجم الحمام. المخطط على اليسار يوضح هذه الملاحظة، هذه الملاحظات بين الحمام والبشر في استعمال قواهم العقلية تؤكد ملاحظة داروين أهمية هذه الحيوانات الرائعة لدراسة سلوك الإنسان وتطوره.
تتميز الطيور بميزة رائعة تم تثبيتها مراراً وتكراراً وهي استشارتها لرفاقها من الحمام في البحث عن حل لمعضلة ما. هذا السعي لا يتوقف وتراه يقبل برأي دون آخر ويجربه ويحاول ويستشير مرة أخرى. أما ميزة بعض البشر فهي تمسكهم برأيهم والأشد من ذلك تسفيه الآخرين ويتميز بها خاصة هؤلاء من الذين يمتلكون شهادات جامعية تسمى بالعالية. يتصور بأن رأيه لا يحتمل الشك ولا داعي للقيام بتجربة لإثبات أو نفي رأي يتمسك به. هذا المستوى الدوني في التفكير ينقله البعض إلى طلبة المدارس وأصبح كالجينات يتم توارثها عبر الأجيال لمسيرة التخلف بدلاً من التطور.
وأخيراً خير ما يمكن أن يتعلمه الإنسان من الحمام هو قابلية هذه الكائنات الرائعة على تمييز وتقيم سلوكها وما نسميه في علم الطب النفسي التبصر والفطنة. لا ينكر الحمام قيامه بسلوك معين عكس الإنسان فالكذب والخديعة شيم يتمسك بها طوال عمره.
ما يمكن أن يتعلمه إنسان اليوم من الحمام؟
الجواب: الكثير , ومنها:
• السلم.
• التبصر.
• استشارة الآخرين.
• الاجتهاد في العمل وتطوير نفسه.
• عدم تسفيه الآخرين.
وغير ذلك كثير وكل واحدة إن فُقدت تشير إلى اضطراب عقلي لا أمل في الشفاء منه.
ملاحظة:
جميع الحقائق والتجارب متوفرة في كتب علوم النفس وغيرها من النشرات العلمية وعلى القارئ الطلاع عليها إن رغب في ذلك.
ويتبع>>>>>>>>> : دروس الحيوان للإنسان (حرب القردة)
واقرأ أيضًا على مجانين:
الحضارة العربية الراهنة بين الماضي والمستقبل / هل الحيوانات قادرة على منع الكوارث الطبيعية؟ / دروس الحيوان للإنسان (الضفدع الإرهابي)