هذا هو الدرس الثالث في هذه السلسة لدروس الحيوان للإنسان. كان الدرس الأول حول الضفدع والزواحف التي يشترك جهازها العصبي مع أقل الأجزاء تطوراً عند الإنسان والذي يعينه فقط على البقاء حياً. أما الدرس الثاني فقد تطور إلى الجهاز العصبي للطيور الذي يشترك مع الإنسان في العديد من أجزائه وخاصة تلك التي تتحكم بسلوكه وعواطفه. أما هذا الدرس فيتحدث عن أكثر مناطق الجهاز العصبي تطوراً والذي نسميه باللحاء الجديد Neo-Cortex والذي يشترك فيه الإنسان مع القردة.
يفترض أن إنجازات البشرية هي نتاج لفعالية هذا الجزء من الجهاز العصبي. لكن إن تتبعت تاريخ وإنجازات البشرية لرأيت تلوثها بسبب الحروب بين المجموعات البشرية وتتساءل لماذا يفشل الإنسان في حل أزماته سلمياً واستغلال هذا الجزء المتطور من جهازه العصبي ؟. الإجابة ربما تكمن في دراسة سلوك وأزمات الشمبانزي وهو من أقرب الحيوانات إلى الإنسان الجديد.
حرب القردة العالمية
هناك من العلماء الأفاضل الذين جندوا انفسهم بكل معنى الكلمة لدراسة الحيوان وأحدهم السيدة جين كودال. درست هذه السيدة الفاضلة قرود الشمبانزي في تنزانيا ودونت نتائجها على مدى خمسين عاماً حتى سنحت الفرصة للسيد جوزيف فيلدبلوم وفريقه لمراجعة وحصد جميع النتائج لهذه المستندات القيمة.
كان مجتمع القردة في منطقة كومبي ينقسم إلى مجموعتين شمالية وجنوبية تربطهم روابط اجتماعية متعددة ويعيشون في هناء وسلام لعدة عقود من الزمن. كان هذا المجتمع السعيد يتميز بغياب العنف وحسن الجوار والتزاوج بين المجموعتين. لم يكن لسلوك الجريمة والخديعة وجود إلى حد ما ولكن حدث ما لم يكن متوقعاً أبداً ونشبت حرب أهلية استمرت أربعة أعوام بين الطرفين في عام 1970أشبه ما يمكن أن نسميها "حرب عالمية".
تميزت هذه الحرب بجرائم بشعة بكل معنى الكلمة وكان سلوك القردة أشبه بالانتهاكات التي نشاهدها عبر هذه الأيام في شتى بقاع العالم ولا نزال نراجعها ونسمع بها من خلال دراسة تاريخ الحروب البشرية. أصبح إنسان اليوم مشبعاً برؤية وتفحص هذه المشاهد الدموية عبر شاشات التلفاز الإخبارية وخاصة القنوات الإخبارية العربية الثرية. ما تبثه هذه القنوات أضعاف مضاعفة من برامج وأحاديث فكرية والأذان بالصلاة.
كان المدخل إلى هذه الحرب الأهلية عبر بوابة الصراع على السلطة. توفي كبير القرود المدعو ليكي الذي كان يحظى باحترام الجميع ويضمن حقوق أهل الشمال والجنوب ويسعى دوماً إلى حل الخلافات بصورة سلمية ويبدو أن الجميع كان يقبل برأيه الحكيم ويتجنب استمرار الخلاف والصراع. بعد وفاة السيد ليكي، وهو من المجموعة الشمالية، تسلم السلطة السيد هيمفري وهو أيضاً من المنطقة الشمالية وبايعه أهل الشمال.
لكن أهل الجنوب كان لهم رأي آخر حيث نادى الأخوة جارلي وهيو بالبيعة لأنفسهم وحصلوا عليها من الجمهور في منطقتهم. لم يرضى أهل الشمال بهذه البيعة وانقسم شعب القردة إلى فريقين أحدهما يبايع هيمفري والآخر يبايع الأخوة من الجنوب واندلعت الحرب العالمية أو الأهلية الطاحنة واستمرت لمدة أربعة سنوات ذاقت فيها القردة الويلات من جرائم الحرب.
تميل إناث القردة عموماً إلى السلوك الرقيق السلمي ونبذ العنف. لكن تأثير هذه الحرب المدمرة على الإناث والأمهات بدا واضحاً بعد عدة شهور من اندلاعها حيث تم تجنيد الإناث للحرب ووصل بهن المطاف إلى اختطاف أطفال خصومهم وقتلهم أحياناً.
أما حروب الإنسان فهي ربما أشد ضراوة من حروب القردة وترى النزاع العقائدي ودور قائد مجموعة بشرية في غاية الأهمية لإدارة الصراع بين مجموعة ضد مجموعة أخرى. كذلك هناك العوامل الاقتصادية التي تضمن الحصول على أكبر قدر من الغنائم بعد الهجوم للطرف المنتصر في الحرب.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه من خلال دراسة حرب القردة هو: هل تحتاج المجموعات البشرية إلى قائد يضمن السلام بين مختلف الطوائف كما هو الحال في دولة كومبي في تنزانيا أم هناك حل آخر ؟
قيادة وتوحيد المجموعات البشرية
ليس الإنسان وحده هو القادر على العيش في مجموعات، فهناك فئة مختارة من الثدييات الرئيسية العليا القادرة على تكوين مجموعات تتميز بالصداقة الحقيقية والعيش بسلام ولا يقتصر ذلك على الإنسان والقرد كما يتصور البعض وإنما يشاركهم بذلك الخيول والحيتان. رغم أن العيش ضمن مجموعة تعم بالفائدة على من ينتمي إليها بدون أدنى شك ولكنها أيضاً لا تخلو من الإشكال. يجد من ينتمي إليها صعوبة في فراقها والابتعاد عنها عندما يصل به الأمر إلى مرحلة يشعر عندها بأن هذه المجموعة تفشل في تلبية احتياجاته الناقصة مادياً ومعرفياً وعاطفياً.
يتشابه الإنسان والحصان على حد سواء في بذل الكثير من الجهد العقلي من أجل العيش في مجموعة اجتماعية معقدة تسنده وبالتالي يسندها هو أيضاً. معظم الحيوانات لديها ما نسميه "بالمعارف" ولكن قلة من الكائنات الحية لديها القدرة الحقيقية على تكوين ودعم الصداقة الحقيقية.
ما هو الفرق إذاً بين الإنسان والحصان ؟
الحصان يحتاج إلى معرفة أن جاره ينتمي إلى نفس القطيع لا أكثر ولا أقل. لكن هناك من البشر من هم ليس بأفضل حالاً من الحصان وتراه يتحيز دوماً لكل من ينتمي إلى مجموعته حتى وإن كان لا يعرفه أبداً. هذا بالضبط ما نسميه العصبية القبلية والطائفية فيبدو أن من يمارسها لا يعلو في تطوره عن الحصان وانتمائه إلى القطيع الموجود فيه.
أما الإنسان الذي يستعمل جهازه العصبي وقشرته المخية بصورة صحيحة فهو الذي تنطبق عليه فرضية الدماغ الاجتماعية Social Brain Hypothesis يمكن تشبيه المجموعات الصغيرة المتعددة في المجتمع ذلك البصلة التي ترتبط طبقاتها بعضها بالبعض الآخر. الطبقة الواحدة تقترب من طبقة قريبة منها ولكن هناك طبقات بعيدة عنها ولكن في نهاية الأمر جميع هذه الطبقات مرتبطة وتشكل كيان واحد بحد ذاته. استناداً إلى فرضية الدماغ الاجتماعية يتوسع الإنسان في دراسة واستيعاب بنية الشبكة الاجتماعية الواسعة التي تربطه بالمجموعة الكبيرة والصغيرة ومختلف الطبقات وليس فقط بمصالحه الخاصة. هذا التوسع المعرفي هو الذي دفع الإنسان تدريجياً إلى استحداث نظام يرعى بقاء وحيوية المجموعة ومختلف طبقاتها قربت من الفرد أو بعدت عنه.
المجموعة تحرص على استعمال وديمومة هذا النظام ولا تبالي بفرد ما ليوحدها. هذا النظام الاجتماعي السياسي ليس حديثاً وإنما يعود إلى فترة العصور الكلاسيكية الرومانية والإغريقية. تنتخب المجموعة إدارة أو قيادة تنظم عملها وتخضع الأخيرة للقانون والدستور الذي تستعمله المجموعة. تتغير القيادات والإدارة ولا يتغير النظام.
أما البحث دوماً عن قائد ينهض بالمجموعة البشرية وتخضع هي بدورها إلى سلطانه وأوامره فهي أكذوبة تخدع بها المجموعة البشرية نفسها. ما تحتاجه المجموعة هو ذلك النظام الذي يمسك جميع طبقات البصلة كوحدة واحدة متماسكة. دون ذلك فالنتيجة واحدة: صراع بين المجموعات والطبقات قد تحدث بعد رحيل القائد وفراغ السلطة كما هو الحال مع القردة أو قبل وبعد رحيل القائد كما هو الحال مع البشر.
واقرأ أيضًا على مجانين:
هل الحيوانات قادرة على منع الكوارث الطبيعية؟ / دروس الحيوان للإنسان (الضفدع الإرهابي) / دروس الحيوان للإنسان (حمام السلام)