يعتبر اضطراب الوسواس القهري أحد اضطرابات القلق ويتسم بوجود وساوس أو أفعال قهرية تسبب ضيقاً واضحاً أو إعاقة، والوساوس عبارة عن أفكار أو بواعث أو اندفاعات أو أشكال متواترة ومتكررة يدركها الفرد على أنها اقتحامية وغير ملائمة ومضايقة. والوساوس ليست ببساطة عبارة عن جوانب قلق زائدة عن مشكلات الحياة الحقيقية، ويجب على الفرد أن يدرك أن الوساوس عبارة عن نتاج لعقله هو. بالإضافة إلى ذلك يجب أن يحاول الفرد تجاهل أو قمع الوساوس أو معادلتها مع فكرة أخرى أو فعل آخر.
أما الأفعال القهرية فهي عبارة عن سلوكيات متكررة أو أفعال عقلية يقوم الفرد بأدائها استجابة لوسواس أو وفقاً لقواعد خاصة مطبقة بصورة جامدة. (Antony & Swinson,2001, p.53) وأكثر الوساوس شيوعاً هي الأفكار المتكررة عن التلوث مثل أن يصبح الفرد ملوثاً من خلال مصافحة الآخرين)، أو الشكوك المتكررة (مثل تساؤل الشخص عما إذا كان قد قام بعمل بعينه مثل إلحاقه الضرر بآخرين في حادث مروري أو إذا ما كان قد ترك الأبواب غير موصدة).
وتتضح أيضاً هذه الوساوس في شكل حاجة إلى وضع الأشياء في ترتيب معين (مثل الضغط والتوتر الشديد عندما تكون الأشياء في غير مواضعها أو غير منظمة). وتتضح أيضاً الوساوس في وجود دافع لدى الفرد للصراخ في شكل الدوافع العدوانية والمخيفة (مثل رغبة الأم في إلحاق الضرر بأحد أطفالها، أو داخل دور العبادة)، أو في شكل التخيل الجنسي (مثل التصور المتكرر لصور جنسية ضد رغبته).
وليست هذه الأفكار أو التصورات مجرد قلاقل مفرطة أو زائدة ترتبط بمشكلات الحياة الحقيقية (مثل المشكلات المادية أو مشكلات العمل، أو المشكلات المدرسية). (APA, DSM-IV-TR, 2000, 451) ولا يعتبر السلوك الذي ينتمي إلى الطقوس الثقافية الشائعة في المجتمع في حد ذاته مؤشراً على اضطراب الوسواس القهري ما لم يتجاوز هذا السلوك المعايير الثقافية، ويحدث في أوقات وأماكن يعد من خلالها غير ملائم أو غير مناسب لها في نظر الآخرين الذين ينتمون إلى نفس الثقافة، وما لم يتعارض هذا السلوك مع الأداء الوظيفي للأدوار الاجتماعية. (APA, DSM-IV-TR, 2000, 451).
أما عن انتشار هذا الاضطراب فإنه من المقدر في أمريكا أن فرداً بين كل أربعين فرداً يعاني منه، وقد كان قديماً يعد من الاضطرابات النادرة غير القابلة للعلاج، أما الآن فإنه يعتبر رابع أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً بين الأمريكيين، وفي الحقيقة فإن هذا الاضطراب على درجة كبيرة من الانتشار إلا أنه مع ذلك على درجة كبيرة من السرية جعلته يشار إليه على أنه مرض وبائي غير ظاهر. (Adams & Burke, 1999) وفي العقد الأخيرة القليلة الماضية، ظهر التعرض ومنع الاستجابة كعلاج نفسي محل اختيار لعلاج اضطراب الوسواس القهري، ويتضمن العلاج بالتعرض الاقتراب من المواقف المثيرة للخوف حتى تتوقف عن التسبب في عدم الارتياح أو الخوف.
فعلى سبيل المثال، قد يُطْلب من الأفراد الذين يعانون من أمور مقلقة ومشاغل ترتبط بالتلوث القيام بلمس الأشياء التي يدركونها على أنها مسببة للتلوث، ويتضمن منع الاستجابة تدريب مريض الوسواس على تجنب القيام بالطقوس السلوكية القهرية عندما تراوده أفكار وسواسية عن التلوث أو الشك أو الرغبة في عد الأشياء أو الغسيل والتأكد، والعد. وعلى الرغم من أن التعرض ومنع الاستجابة معينان إلى حد ما، إلا أنهما يميلان إلى استهداف جوانب مختلفة من الاضطراب ويعملان بأفضل صورة عندما يتم تطبيقهما بصورة متزامنة. (Antony et al.2001, p. 10)
بالرغم من أن النماذج النفسية المبكرة جاءت من منظور نفس ديناميكي، إلا أنه لم يكن هناك تدعيم أو تأييد إمبريقي للنظريات النفسية الديناميكية الخاصة باضطراب الوسواس القهري، وكان لهذا المنظور تأثير قليل على تطور أشكال العلاج الفعالة لهذا الاضطراب، وعلى النقيض من ذلك، اكتسبت النظريات المعرفية والسلوكية ذيوعاً وشهرة في السنوات الأخيرة، وأدت إلى تطوير استراتيجيات من أجل علاج اضطراب الوسواس القهري بنجاح، فلقد نبعت النماذج السلوكية المبكرة الخاصة باضطراب الوسواس القهري من نموذج العاملين لـ Mowror لاكتساب الخوف، وبصفة خاصة .. افترض النموذج السلوكي أن اضطراب الوسواس القهري هو نتاج للأفكار والدوافع والاندفاعات العادية الطبيعية التي ترتبط بالقلق من خلال عمليات التشريط الكلاسيكي، ووفقاً لهذه النظرة، فإن أعراض اضطراب الوسواس القهري تتحقق عن طريق الهروب، والتجنب، وعدم القيام بالسلوكيات (مثل الطقوس القهرية) التي تمنع حدوث انطفاء القلق.
وقد أدت هذه النظرة إلى تطوير علاج سلوكي فعال لاضطراب الوسواس القهري يتألف من التعرض للمثيرات المؤدية للخوف ومنع الطقوس القهرية. (Antony & Swinson, 2001, p.69) . إلا أن بعض الباحثين وصف هذه النظرة السلوكية التقليدية بأنها ذات فائدة محدودة، فعلى سبيل المثال، لا يقوم العديد من المرضى الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري باستدعاء خبرات شرطية معينة تفسر أعراضه عندهم، وبعض الأفراد لا يستجيبون للتعرض ومنع الاستجابة. (Salkovskis, 1998)
وقد ساهمت جوانب القصور التي ظهرت في النماذج السلوكية، في ظهور نماذج معرفية لعلاج اضطراب الوسواس القهري، ومن بين النماذج المهمة في تطوير استراتيجيات العلاج المعرفي السلوكي لاضطراب الوسواس القهري تلك التي وصفها كل من سالكوسكيس (Salkovskis 1985، 1989 ) وراتشمان (Rachman 1997 ، 1998) وآخرون. وقد ركز هذا العمل الرائد بصفة خاصة على أهمية تقييمات المرضى لأفكارهم الاقتحامية المتعلقة بالمسئولية، وكانت قيمة هذه النماذج لا يمكن أن تقدر في توضيح وشرح جوانب معينة من المرض النفسي في اضطراب الوسواس القهري والتي تم دراستها وفحصها إمبريقياً. (Sookman & Steketee,2007).
وقد بدأت في الآونة الأخيرة تركز الدراسات العلاجية الخاصة باضطراب الوسواس القهري على التغيرات المعرفية التي يفترض أنها تكمن وراء هذا الاضطراب، ويمكن أن يساعد اختبار التغيرات المعرفية في الدراسات العلاجية على التعرف على وفهم العمليات المعرفية المضطربة وظيفياً في اضطراب الوسواس القهري، ويساعد أيضاً في تطوير إجراءات العلاج الفاعل التي تستهدف هذه العمليات. (Abramowitz et al., 2003)
ويتضمن نموذج (Salkovskis 1985) أن العلاج المعرفي يجب أن يركز على تعديل الأفكار والمعتقدات الآلية المرتبطة بالمسئولية عن الضرر، وعلى أية حال ينتقد المنظرون هذا النموذج على أساس أنه يفرط في التأكيد على دور المسئولية، ويؤكدون على ضرورة إعطاء مزيد من الاهتمام للمعتقدات ما وراء المعرفية الخاصة بالحاجة إلى التحكم في الأفكار عند العلاج. (Wells,1997, p.238) وأثناء تطور النماذج المعرفية النظرية الخاصة باضطراب الوسواس القهري ظهر عدد كبير من المفاهيم، وقد أكدت الرؤى المختلفة على أهمية دور المعتقدات الكمالية، والمسئولية المتضخمة، وجوانب النقص أو القصور المعرفية، أو الجوانب المعرفية الشاذة في صنع القرار، والدمج بين الفكر والفعل، والمعتقدات ما وراء المعرفية.(Wells, 1997, p. 237)
وإذا كان الاختلاف في المفاهيم النظرية وعدم توافر إطار عمل متفق عليه بصفة عامة، وقصور البحوث حول الأبعاد المعرفية للوساوس يسهم في عدم تطور نماذج معرفية خاصة باضطراب الوسواس القهري، ويجعل مرضى اضطراب الوسواس القهري يستمرون في كونهم يمثلون تحدياً لأخصائي العلاج. لذا فقد افترض أن ما وراء المعرفة قد تطور من فهمنا لاضطراب الوسواس القهري، وتشير ما وراء المعرفة إلى المعارف أو المعتقدات الخاصة بالتفكير والاستراتيجيات المستخدمة في تنظيم وضبط عمليات التفكير.
وقد قام Wells و Matthews سنة 1994 بافتراض أول نموذج ما وراء معرفي متكامل لاضطراب الوسواس القهري، وقد تم تقنينه بعد ذلك بمعرفة (Wells, 1997) ويؤكد هذا النموذج على المعتقدات الخاصة بمعنى ودلالة الأفكار الاقتحامية، وتنقسم المعتقدات ما وراء المعرفية الخاصة بهذه الأفكار إلى ثلاثة مجالات واسعة: الدمج بين الفكر والفعل، الدمج بين الفكر والحدث، الدمج بين الفكر والموضوع.
وفي نموذج Wells يشير الدمج بين الفكر والفعل إلى الدمج بين الأفكار والأفعال، مثال: اعتقاد الفرد بأن توافر الأفكار السيئة لديه يعني أنه سيقوم بفعل سيئ.
ويشير الدمج بين الفكر والحدث إلى الاعتقاد الذي يقول بأن التفكير يمكن أن يسبب حدوث حدث ما أو يكون في حد ذاته دليلاً على حدوثه، مثال : اعتقاد الفرد بأنه إذا ما فكر في أحد الأحداث السيئة (موته، كارثة لأهله، فشله) فإن تفكيره سيجعلها تحدث بصورة كبيرة.
ويشير الدمج بين الفكر والموضوع إلى اعتقاد الفرد بأن الأفكار أو المشاعر أو الذكريات يمكن أن تنقل إلى أناس آخرين أو إلى الموضوعات، مثال: اعتقاد الفرد بأن بعض الموضوعات تصدر عنها أفكار سيئة، أو اعتقاده بأن أفكاره وذكرياته يمكن أن تتحول إلى سلوك، فإذا طرأت على ذهنه فكرة أن هذا الطعام ملوث، فإن هذا يعني أنه قد تلوث بالفعل.
ويبرز النموذج ما وراء المعرفي أيضاً فكرة أن مرضى الوسواس القهري لديهم معتقدات ما وراء معرفية إيجابية عن ضرورة أداء الطقوس القهرية استجابة للأفكار الوسواسية الملحة التي تشعرهم براحة مؤقتة، ولكنها في الواقع تؤدي إلى استمرار وتفاقم خطورة وحدة الأعراض الوسواسية القهرية. (Fisher&Wells, 2005)
إن التدعيم الإمبريقي لدور ما وراء المعرفة في اضطراب الوسواس القهري يتراكم بصورة ثابتة، وهناك أدلة موجودة تشير إلى أن الدمج بين الفكر والفعل يلعب دوراً مهماً ودالاً في الوساوس الكلينيكية، فقد أظهرت نتائج الدراسة التي قام بها كل من Fisher & Wells إلى أن المعتقدات ما وراء المعرفية (الدمج بين الفكر والفعل، الدمج بين الفكر والحدث، الدمج بين الفكر والموضوع) تعد منبئات بالأعراض الوسواسية القهرية، مقارنة بمعتقدات المسئولية المتضخمة بعد ضبط القلق والاكتئاب لكل منهما . (Fisher& Wells, 2005)
كما قامت المجموعة العاملة الخاصة بالمعارف الوسواسية القهرية ( Obsessive Compulsive Cognitions Working Group OCCWG ) بتحديد عدة مجالات للمعتقدات المضطربة وظيفياً (*) والتي ترتبط بالوساوس والطقوس بالإضافة إلى المعتقدات الخاصة بالمسئولية، وتتضمن هذه الأبعاد الأهمية الزائدة والحاجة إلى التحكم في الأفكار الوسواسية الاقتحامية، والتقدير الزائد للتهديد والخطر، والتعصب وعدم التسامح بشأن عدم التأكد والكمالية.
كما قدمت هذه المجموعة بعض الأبحاث تدعيماً وتأييداً لأهمية مخاطبة وتناول المعتقدات المعرفية عالية المستوى في اضطراب الوسواس القهري. فعلى سبيل المثال، وجد أن الوعي الذاتي المعرفي (وهو عبارة عن ميل إلى الوعي بالتفكير ومراقبته) هو البعد ما وراء المعرفي الوحيد الذي ميز اضطراب الوسواس القهري الأكثر ارتفاعاً عن مرضى اضطراب القلق المعمم . (Sookman & Steketee, 2007)
ويتنبأ النموذج ما وراء المعرفي لاضطراب الوسواس القهري بأن تعديل المعتقدات ما وراء المعرفية (التقدير الزائد للتهديد – المسئولية المتضخمة – التيقن والكمالية – عدم القدرة على التحكم في الأفكار والخطر – الحاجة للتحكم في الأفكار– الوعي الذاتي المعرفي – دمج الفكر) والتي تنشطها المثيرات الوسواسية سوف يؤدي إلى تحسين القلق المصحوب بنقص في الدافع نحو التحييد، ي القيام بالطقوس القهرية استجابة لإلحاح الأفكار الوسواسية.
ويتطلب العلاج القائم على هذا النموذج تعديل معتقدات دمج الفكر، ويتضمن التعرض المختصر وتجارب منع الاستجابة، وذلك لتطبيع الآباء اجتماعياً وتعديل المعتقدات ما وراء المعرفية المضطربة وظيفياً عن الوساوس والأفعال القهرية.
وتتكون تلك التجارب السلوكية من تعرض مختصر( مدته 5 دقائق) للمثيرات الوسواسية المصممة من أجل اختبار صدق المعتقدات ما وراء المعرفية، إذ يعمل منع الاستجابة كمناورة لعدم الإثبات تساعد الفرد على عزو عدم حدوث الكارثة المتخيلة إلى خطأ المعتقد ما وراء المعرفي بدلاً من عزوها إلى أداء أحد الطقوس، وهذا يختلف بصورة واضحة عن جلسات التعرض التي تبلغ مدتها 90 دقيقة كما تنفذ في التعرض ومنع الاستجابة التقليدي لأنه يقدم في نطاق إطار عمل واضح وصريح ينقل المرضى إلى المعالجة ما وراء المعرفية لصدق المعتقدات الخاصة بالأفكار الوسواسية الاقتحامية . (Fisher & Wells, 2005)
إن المدخل ما وراء المعرفي Metacognitive approach لعلاج اضطراب الوسواس القهري رغم كونه أحد الأنماط الأساسية فقط يقترح أن العلاج يجب أن يشتمل على تركيز دال على تعديل المعتقدات ما وراء المعرفية الكامنة، والمعايير الداخلية سيئة التوافق والتي تستخدم لتنظيم السلوك. ويمكن أن يكون هناك نطاق من المعتقدات ما وراء المعرفية تشتمل على مجالات من الدمج بين الفكر والفعل، الفكر والحدث، والفكر والموضوع. (Wells, 2000,185)
ومن هذا المنطلق فقد تبنى الباحث نموذج ما وراء المعرفة لاضطراب الوسواس القهري لـ Wells و Matthews ، وفي ضوئه قام ببناء برنامج علاجي يعتمد على مجموعة من الاستراتيجيات ما وراء المعرفية العلاجية، كما استعان الباحث ببعض الأدوات التي تم من خلالها قياس المعتقدات ما وراء المعرفية مثل مقياس دمج الفكر، مقياس المعتقدات الوسواسية، مقياس ما وراء المعرفة، مقياس التحكم في الفكر.
ثانياً : مشكلة الدراسة :
تبلورت مشكلة الدراسة لدى الباحث وزاد إحساسه بها وبآثارها الجانبية على مرضى اضطراب الوسواس القهري من خلال الدراسة قبل الاستطلاعية التي صمم من خلالها مقياس اضطراب الوسواس القهري، وكذلك من خلال اطلاعه على الكتابات والأدبيات التي تناولت هذا الاضطراب، ومن خلال نتائج الدراسات الارتباطية التي بينت مدى المعاناة التي يعانيها مريض اضطراب الوسواس القهري مثل القلق، الاكتئاب، الانطواء، تدني مستوى الأداء الأكاديمي والمهني بسبب تسلط بعض الأفكار الاقتحامية والمتطفلة على ذهنه بصورة متكررة، مما يؤدي إلى تشتيت انتباهه وشعوره بالقلق والضيق، بل ويضيع الكثير من وقته وجهده في محاولات فاشلة لمقاومة مثل هذه الأفكار والتخلص منها.
وبعد ما يصاب الفرد بالإعياء والتعب، يستسلم ولا يجد ضالته التي قد تجعله يشعر بالراحة المؤقتة إلا في الانهماك في مزاولة بعض الطقوس السلوكية أو العقلية حتى يشعر بالأمان وتخمد أو تهدأ الأفكار، ولكن لسوء الحظ فإن الأفكار الاقتحامية تعاود نشاطها مرة أخرى ويظل هذا المريض يعيش في حلقة مفرغة تأخذه من معاناة إلى أخرى.
وعلى الرغم من تباين معدلات انتشار اضطراب الوسواس القهري ، فقد تم تقدير أن شخصاً واحداً من بين كل مائتين من البالغين يعاني من هذا الاضطراب، وحوالي 3 أو 4 طلاب في كل مدرسة ابتدائية متوسطة الحجم، أو حوالي 20 في المدرسة الثانوية الحضرية. ومن الممكن أن تكون معدلات الانتشار أكثر ارتفاعاً من ذلك، لأن هذا الاضطراب غالباً لا يكون متعارف عليه في الطفولة، أو يساء تشخيصه. (Adams & Burke, 1999)
إن الراشدين صغار السن الذين تتراوح أعمارهم ما بين 28-24 عاماً معرضون بصورة عالية جداً لخطر الإصابة باضطراب الوسواس القهري. وتصاب نسبة 65% بهذا الاضطراب قبل عمر الخامسة والعشرين، بينما تذكر نسبة أقل من 5% من المرضى بداية أولية استهلالية لهذا الاضطراب بعد 40 عاماً من العمر، بالإضافة إلى ذلك يذكر عدد كبير من الراشدين بداية أن الاضطراب يبدأ لديهم في مرحلة الطفولة أو المراهقة، وسوف يستمر الأطفال والمراهقون الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري الحاد في المرور بالأعراض لعدة سنوات. (Clark, 2004,p.9)
وقد يعاني الأسوياء والمرضى من الوساوس، فيمكن النظر للوسواس على أنه شئ طبيعي عندما لا يتدخل بطريقة جوهرية ويؤثر على أداء الوظائف العقلية للفرد. معنى هذا أنه لا يدوم طويلاً، وأنه لا يحوز إلا جزئياً فقط على التفكير السليم، وأن تأثيره ربما يمكن الإقلال منه أو إبطاله بعد طول وقت متفاوت بالتركيز على الاهتمام بموضوعات أخرى. أما الوساوس المرضية فهي تلك التي تتحكم أساساً في عالم الشعور، فهي تشغل الفرد على الدوام قليلاً أو كثيراً، مجبرة إياه على الفعل بطريقة من شأنها أن تقلل من مفعولها قدر الإمكان (كمال دسوقى، 1988 ، 971).
ورغم أن المريض غالباً ما يعتبر حالات الوسوسة مرضية وتتدخل في شئونه بشكل غير مقبول فإنه لا يستطيع التغلب عليها. فمثلاً، في حالة الخوف الأساسي من الإصابة بمرض، عندما يغسل المريض يديه باستمرار حتى " تذوب "بالمعنى الحرفي، يدرك أن مخاوفه غير منطقية وأنه من السخف أن يفعل ذلك أو أشياء أخرى مماثلة ولكنه يستمر في القيام بها ليخفف من التوتر العقلي الداخلي الكامن وراء حالات وسوسته.
ولا يخفى مدى تأثير هذا المرض على تبديد طاقة المريض في أفعال متكررة لا طائل من ورائها، وفي محاولات من جانبه لمقاومة هذه الأفعال وعدم إتيانها، الأمر الذي يسبب إنهاكاً شديداً للمريض، وضيقاً بالغاً له.
فلا غرابة إذن أن تظهر على مريض الوسواس أعراض الإرهاق والتعب لكثرة ما يبذله من طاقة في الوسواس أو في مقاومته. (فرج عبد القادر طه ، 1989 ، 845).
وبالنسبة للجزء الرئيسي من مرضى اضطراب الوسواس القهري فإن البداية تكون تدريجية رغم ملاحظة بدايات حادة في بعض الحالات، ويكون مسار الاضطراب لدى غالبية الأفراد حاداً أو مزمناً مع وجود بعض الأعراض التي قد ترتبط بالضغط النفسي، وحوالي 15% يظهرون تراجعاً متصلاً في الأداء الوظيفي والاجتماعي والأداء المهني، وحوالي 5% يكون مسار الاضطراب لديهم عارضاً. (APA, DSM-IV, TR, 2000, 460)، كما يكون لدى مرضى هذا الاضطراب معدلاً عالياً من العنوسة، والزواج في سن متأخر، وامتلاك معدل منخفض من الخصوبة. وتعد معدلات الطلاق والخلل الوظيفي الزواجي، وعدم الإشباع الجنسي شائعة وعامة في اضطراب الوسواس القهري. ولاضطراب الوسواس القهري أثر سلبي دال على قدرة الفرد على الأداء الاجتماعي والمهني، خاصة في الحالات الأكثر خطورة.
وفي الوقت الحالي يجب أن يكون الكلينيكي واعياً بأن العديد من المرضى الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري الشديد غالباً ما يكونون غير قادرين على تنفيذ أعمالهم العادية أو الأنشطة الاجتماعية بعد بداية المرض بفترة قصيرة .(Clark,2004, p).
فالمشكلة في اضطراب الوسواس القهري لا تتوقف على محتوى الأفكار الاقتحامية، ولكنها ترتبط بصورة أساسية بكيفية تعامل الأفراد معها. فالأفكار الوسواسية الاقتحامية تعمل على تنشيط المعتقدات الخاصة بأهمية هذه الأفكار، ولا تتكون هذه المعتقدات فقط من معلومات عن الأفكار الاقتحامية المتكررة، ولكن تتكون أيضاً من المعرفة بالاستجابات السلوكية، وقد حظيت المعتقدات الخاصة بالسلوك في اضطراب الوسواس القهري باهتمام محدود في التفسيرات النظرية،ومن الممكن أن يؤدي المزيد من الاهتمام بهذه المعتقدات إلى تيسير التصور المفاهيمي للمشكلات الوسواسية القهرية. (Wells, 1997,p.239)
وتؤثر المعتقدات المتعلقة بما وراء المعرفة على طبيعة تقييمات الوساوس المتسلطة، وأيضاً تؤثر على التقييمات الخاصة بنتائجها مسايرة لمضمون المعتقدات التي يتمسك بها الفرد نحو الطقوس القهرية والاستجابات السلوكية، ويوجد نمطان من المعتقدات حول الطقوس القهرية، فإما أن تكون الطقوس إيجابية (مثال : إنني إن اغتسل أو استحم دون التفكير في أفكار سيئة ، فإن الأشياء السيئة لن تحدث)، أو تكون المعتقدات سلبية (مثال: يمكن أن تحدث طقوسي العقلية ضرراً بجسدي).
وتؤثر المعتقدات المتعلقة بالأخطار والمزايا الناتجة عن ممارسة الطقوس أو الاستجابات المتاحة على انتقاء وتنفيذ السلوكيات، وتؤثر على حدة ردود الأفعال الانفعالية على المدى القصير، ويؤدي الأفراد الطقوس القهرية أو سلوكيات التأكد إلى أن يتم إشباع إحدى الحالات المستهدفة داخلياً (والتي قد تكون الشعور بالراحة والأمان).
ولذلك فإن المعتقدات أو المعرفة التي توجه هذه السلوكيات تحتوي على تمثيل لهدف وتتضمن مراقبة عمليات التفكير والتحكم فيها، ويمكن أن يكون القلق وردود الفعل الوجدانية السلبية الناتجة عن التقييم للأفكار الاقتحامية عرضة للتفسير السلبي .. فعلى سبيل المثال فإن أعراض القلق قد يساء تفسيرها على أنها علامة على فقدان السيطرة أو علامة على وجود أخطار أخرى مصاحبة للأفكار الاقتحامية، وفي بعض الحالات يساء تفسير أعراض القلق على أنها دليلاً يؤيد صدق الوساوس السلبية المتطفلة، ويمكن أن تعمل الحالة الانفعالية كباعث محرك في حد ذاتها، مثل بعض الأفراد الذين يعتقدون أنهم سيتأثرون كلية بالمشاعر السلبية، أو أن هذه المشاعر لن تتوقف ما لم تتم تأدية أحد الطقوس القهرية بصورة متكررة استجابة لإلحاح فكرة معينة.
ويسهم الاختلاف في المفاهيم النظرية وعدم توافر إطار عمل متفق عليه بصفة عامة، وقصور البحوث حول الأبعاد المعرفية في عدم تطور نماذج معرفية خاصة باضطراب الوسواس القهري، وفي استمرار مرضى هذا الاضطراب كي يمثلوا تحدياً لأخصائي العلاج النفسي. (Wells, 1997, p. 237). ولقد ترتب على المداخل المعرفية السلوكية المفسرة لنمو وتطور الاضطرابات النفسية نشأة بعض أهم التدخلات العلاجية الأكثر فاعلية حتى الآن. ومع ذلك، فإنه لا يزال هناك الكثير الذي يتعين تحقيقه للتوصل إلى فهم وعلاج الاضطراب النفسي، وعلاوة على ذلك فقد أكد بعض المحدثين على وجود جوانب قصور في النظرية المعرفية العامة مثل نظرية المخططات، واقترحوا إعداد إطارات عمل تم مراجعتها بهدف التصور المفاهيمي للمعرفة في إطار الاضطراب الوظيفي الانفعالي. (Wells & Purdon, 1999)
فهناك مكونات معرفية تلعب أدواراً مهمة في استمرار اضطراب الوسواس القهري مثل (التحمل الضعيف للغموض وعدم التأكد، الكمال، التقدير الزائد للتهديد) ولكنها لم تخاطب في نموذج المسئولية المتضخمة لـ (Salkovskis 1985 ، 1989).
وهناك حاجة إلى دراسة أبعد مدى لفهم الأهمية النسبية لهذه المعارف والقيام في النهاية بدمجها في نموذج شامل لاضطراب الوسواس القهري. (Wilson & Chambless, 1999). وبغض النظر عن المعتقدات الخاصة بالأفكار والمشاعر، فإن المعتقدات الأدائية الخاصة ببدء مزاولة الطقوس وتحييد الاستجابات تعد أيضاً مرتبطة بصياغة ما وراء المعرفة. وإن دور هذا التصنيف للمعتقدات قد تم تجاهله بواسطة المداخل المعرفية السابقة. وعلى أية حال فإن تقييمات النجاح أو الفشل أو معنى الأحداث المرتبطة بالطقوس تعد ذات تأثير مهم على الضغط النفسي. (Wells, 2000, p. 184)
ورغم هذا فقد اقتصرت الدراسات العلاجية على استخدام أساليب سلوكية للتدخل في هذا الاضطراب، وقد اتسمت هذه الأساليب بفاعليتها في مساعدة المرضى على التغلب على صعوباتهم، ومن أكثر الأساليب استخداماً في هذا المجال هو أسلوب التعرض ومنع الاستجابة والذي ساعد إلى جانب العلاج الدوائي في تحسن العديد من المرضى (سعاد بشر ، صفوت فرج، 2002). وقد كشفت نتائج بعض الدراسات عن جوانب قصور مهمة في العلاج السلوكي.
وعلى الرغم من أن بعض نتائج هذه الدراسات ذكرت درجات نجاح تصل إلى 85% ، إلا أن تلك الأرقام لا تعكس النتيجة النموذجية لعلاج المرضى الخارجيين في الممارسة العلاجية المنتظمة، فلقد تم التوصل إلى هذه النتائج بعد تطبيق فنية التعرض ومنع الاستجابة على أفراد من عينات مختارة، باستخدام فريق ذي تدريب عال على مرضى داخليين، فإن 25% من المرضى الذين تم تصنيفهم كملائمين للعلاج يرفضون العلاج السلوكي عندما يشرح لهم، ويتخلف 12% غيرهم عندما يبدأ العلاج بالتعرض، وهناك دليل على حدوث بعض الانتكاسات. علاوة على ذلك فإن العلاج السلوكي يرتبط بمستويات مرتفعة من القلق، أحياناً تجعل العلاج أمراً صعباً ويستغرق وقتاً طويلاً. وبالنسبة لبعض المرضى يصبح القلق أمراً صعباً غير محتمل لدرجة أنه يؤدي إلى رفض الاستمرار في الجلسات، أو الانسحاب من العلاج.
وبالنسبة للعلاج الدوائي فقد ورد في الدليل التشخيصي أن هناك بعض الأدلة على أن بعض العقاقير الدوائية التي تعطى لذوي اضطراب الوسواس القهري بصورة زائدة مثل عقار السيروتينين تتسبب في زيادة الأعراض بشكل حاد لديهم. وقد يظهر الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب نشاطاً آلياً واستقلالياً زائداً عند مواجهتهم بمواقف تثير وساوسهم ، ويقل رد الفعل الفسيولوجي عقب تنفيذ الطقوس القهرية. (APA, DSM-IV-TR, 2000, 459)
ويرى الباحث أنه من خلال الوقوف على الكثير من الدراسات التي تناولت هذا الاضطراب لوحظ أن الدراسات التي اعتمدت على العلاج المعرفي قد ركزت على محتوى هذه الأفكار، دون أن تضع في الاعتبار المعتقدات ما وراء المعرفية التي تعد سبباً في استمرار احتفاظ مرضى اضطراب الوسواس القهري بأعراضهم رغم تعرضهم للعلاج وهذه المعتقدات (مثل: المسئولية المتضخمة، التقدير الزائد للخطر، الكمالية والتيقن، المعتقدات الإيجابية حول القلق، عدم القدرة على التحكم والخطر، الحاجة للتحكم في الأفكار) ومعتقدات دمج الفكر (الدمج بين الفكر والفعل، الفكر والحدث، الفكر والموضوع) وكذلك طريقة تعاملهم مع هذه الأفكار، أي استراتيجيات التحكم فيها سيئة التكيف التي يستخدمونها مع الأفكار الوسواسية الملحة والمتكررة (مثل القلق، والعقاب، والتجاهل).
المراجع العربية:
1- كمال دسوقي (1988) علم النفس ودراسة التوافق ، ( القاهرة ، دار الفكر العربي) , ص 971
2- فرج عبد القادر طه (1989) أصول علم النفس الحديث دار المعارف ص845
3- سعاد البشر ، صفوت فرج .(2002) المقارنة بين كل من العلاج السلوكى بأسلوب التعرض ومنع الاستجابة وبين العلاج الدوائى لمرضى الوسواس القهرى . دراسات نفسية ،12 ،2، ، 207- 227 .
المراجع الأجنبية:
1- Antony, M. M., & Swinson, R. P. (2001): Comparative and combined treatments for obsessive–compulsive disorder. In M. T. Sammons & N. B. Schmidt (Eds.), Combined treatments for mental disorders: A guide to psychological and pharmacological interventions (pp. 53–80). Washington, DC: American Psychological Association.
2- American Psychiatric Association (2000): Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, Fourth Edition: DSM-IV-TR®. American Psychiatric Pub. ISBN 978-0-89042-025-6.
3- Adams, G. B., & Burke, R. B. (1999): Children and adolescents with Obsessive-Compulsive Disorder. Childhood Education, 76(1), 2–7.
4- Antony MM, Orsillo SM, Roemer L (2001): Practitioner’s Guide to Empirically-Based Measures of Anxiety. New York: Kluwer Academic/Plenum.
5- Salkovskis, P. (1998): Psychological approaches to the understanding of obsessional problems..In R. Swinson, M. Antony, S. Rachman, & M. Richter (Eds), Obsessive-compulsive disorder: Theory, research, and treatment (pp. 33–50). New York: Guilford Press.
6- Salkovskis , P.M. (1985): Obsessional Compulsive Problems, A Cognitive Behavioral Analysis. Behav. Res.& Ther. V.23, P. 571-583.
7- Rachman, S. (1998). A cognitive theory of obsessions: Elaborations. Behaviour Research and Therapy, 36(4), 385-401.
8- Rachman, S. (1997). A cognitive theory of obsessions. Behaviour Research and Therapy, 35(9), 793-802.
9- Sookman, D. & Steketee, G. (2007): Directions in specialised cognitive behaviour therapy for resistant obsessive-compulsive disorder: Theory and practice of two approaches. Cognitive and Behavioural Practice, 14, 1-17.
10- Abramowitz JS, Schwartz, S.A, Moore KM & Luenzmann KR (2003): Obsessive-compulsive symptoms in pregnancy and the puerperium: A review of the literature. Anxiety Disorders 17 (2003) 461–478
11- Wells, A. (1997): Cognitive therapy of anxiety disorders: a practice manual and conceptual guide. Chichester, England: Wiley.
12- Fisher, P., & Wells, A. (2005): How effective are cognitive and behavioural treatments for obsessive-compulsive disorder? A clinical significance analysis. Behaviour Research and Therapy, 43, 1543-1558.
13- Wells, A., & Mathews, G. (1994): Attention and emotion. A clinical perspective. Hove, UK: Lawrence Erlbaum & Associates.
14- Wells, A. (2000): Emotional Disorders and Metacognition: Innovative Cognitive Therapy. Chichester, UK: John Wiley & Sons.
15- Clark, D. A. (2004): Cognitive-behavioural therapy for OCD. New York, NY, US: Guilford Press, 324.
16- Wells, A., 8c Purdon, C. (1999): Metacognition and cognitive-behaviour therapy: A special issue. Clinical Psychology and Psychotherapy, 6, 71-72.
17- Wilson K.A. & Chambless D.L. (1999): Inflated perceptions of responsibility and obsessive-compulsive symptoms. Behaviour Research & Therapy, 37, 325-335.
واقرأ أيضاً:
ع.م.س لوسواس المرض فنيات العلاج2/ ع.م.س لوسواس المرض منع الانتكاس/ الوساوس الحسية الجسدية والخارجسدية/ متلازمة توريت