لا أشك في أن شيخنا قد اختار الموت راضيا حين شاء الله تعالى أن يختاره إلى جواره بعد أن هيأ ربنا الظروف لذلك، كما أنني لم أشك أنه اختار الحياة طول الوقت، حتى لحظة اختياره الموت، اختار الحياة ليس بمعنى الاستمرار على ظهر هذه الأرض كائنا بشريا جسديا متحركا حاضرا .. فحسب، ولكنه اختارها أكثر: كيانا فاعلا مبدعا جميلا مضيفا بما تيسر مهما صَعُبَ المسار وضعفت الأدوات.
وحين تيقن أن الله تعالى قد أراد أن يجعل الأدوات أضعف حتى العجز، والمجال أضيق حتى الاختناق، اختار شيخنا أن يقولها بملء وعيه أنْ «كفى». لم يكن اختيار الحياة بديلا عن اختيار الموت، كان اختياراً متداخلا، متكاملا مكمِّلاً. حين آن الأوان: قالها شيخنا بملء وعيه أنْ: «كفى»، ومضى إليه راضيا مرضيا، ومع يقيني بأن هذا حقه بلا منازع، فقد رحت أعاتبه: «لِمَ قُلْتَها شعراً»؟ لِمَ قُلْتَها شيخي:«كفى» الآن ونحن في أشد الحاجة إليك؟
أتذكر أنني في أوائل معرفتي الحميمة به شخصيا، كان الرئيس فرانسوا متران يقترب من الموت بعد أن أصيب بالسرطان وتأكد من قرب النهاية، سأله أحد الصحفيين بعشم ( أو وقاحة ) عن توقعاته بعد الموت، وعن مدى إيمانه أو رغبته في الجنة، فأجاب دون استهانة وبكل شجاعة، أجاب بما تيسر له، ومن ذلك أنه يرى أن الخلود في الجنة بلا نهاية هو أمر يدعو للملل، نقلت للأستاذ هذا التصريح متعجبا، وربما مُعْجبا بشجاعة متران ومساحة الحرية التي تسمح بمثل هذا التصريح، أطرق الأستاذ رأسه ليس قليلا، وقد عودنا أنه حين يفعل ذلك فهو يُعمل فكره دون التزام بالرد. صمتّ منتظرا، وطال الانتظار ثم نبهته بكل العشم أني أحتاج إلى تعليقه، قال: «أنا لا أوافقه»، قلت له «ألم تلاحظ شجاعته حتى لو اختلفنا معه؟ ألسنا نفتقد إلى هذه المساحة من الحرية التي يتحركون في إطارها بلا سقف يُقَزِّمهم؟، قال: «ليكن، لكنك تسأل عن رأيي فيما قال، لا عن ما أتاح له إبداء رأيه». انتبهت إلى دقة انتباهه، ووافقته، ثم أردفت أنني ما زلت أنتظر تعليقه على تصريح «ميتران»، قال بعد قليل: أنا لا أوافقه. اسمع يا سيدي: أنت حين تحب شخصا أَلاَ تكون حريصا على البقاء معه أطول مدة ممكنة؟ قلت نعم. قال: هل يمكن أن يخطر ببالك ما هو ملل وأنت تحبه فعلا؟ قلت: لا، قال: فإذا كنت تحب الله سبحانه، فهل تشبع من قربه مهما امتد الزمن بلا نهاية، أم أنك تزداد فرحة وتَجدُّدًا طول الوقت؟»
صمتُّ شاكرا، فاهما، متعجبا، متأملا داعيا.
قلت في إحدى مناسبات ذكرى رحيله: كل ما بلغني مما يجري حولي حالا يقول إن التكريم، والتأبين، والتمجيد، كل ذلك يجري على قدم وساق، بكل معاني ومظاهر الوفاء الجاد، وضد كل التخوفات التي جاءت بقصته «علمني الدهر» الأهرام 10 ديسمبر 1993 قبل الحادث، ومع ذلك فإنني لا أرى أن هذا كافيا أو هو الأنسب، يقول محفوظ في ملحمة الحرافيش (ص 64): «الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه». فأين هذا الرحيل، ولماذا الوداع؟
تشكيلات الموت في أحلام فترة النقاهة:
عاودت قراءة أحلام النقاهة مجتمعة بعد رحيله، ووصلني بعض الردّ على عتابي له راثيا "لماذا اختار الموت في هذا الوقت استجابة لإرادة الله"؟
الحلم حركية مرنة زاخرة تتشكل بداخل هذا الموت الأصغر المسمى «النوم»، واليقظة إحياء بعد الموت (الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور) – حين لجأ محفوظ إلى إبداع الأحلام (وليس تسجيلها) وجد نفسه داخل هذا الموت الأصغر، فاستطاع أن يلمح بعض معالم الموت الأكبر من النافذة التي فتحها بين مستويات الوعي.
تعالوا نبدأ بآخر حلم نشر له، ونتجول معه وهو يرفع هذه الحواجز:
(حلم 206)
«رأيتني أعد المائدة والمدعوون في الحجرة المجاورة تأتيني أصواتهم أصوات أمي وإخواتي وأخواتي، وفي الانتظار سرقني النوم ثم صحوت فاقدا الصبر فهرعت إلى الحجرة المجاورة لأدعوهم فوجدتها خالية تماماً وغارقة في الصمت وأصابني الفزع دقيقة ثم استيقظتْ ذاكرتي فتذكرت أنهم جميعاً رحلوا إلى جوار ربهم وأنني شيعتُ جنازتهم واحداً بعد الآخر»
التذبذب في قبول قرار الموت:
حين يقترب الموت واقعاً، حتى بقرار طبيب، تقفز منا، فينا، مواقف متذبذبة، هي أكثر من موقف في آن، بعضها في بؤرة الوعي وبعضها على هامشه، تتراوح هذه المواقف ما بين الجزع والتحدي والتسليم والتمني والمراجعة، إلى غير ذلك، وقد تبدو متداخلة أو متناقضة لكنها كلها تعلن – في النهاية - التمسك بالحياة، بشكل أو بآخر. ثم إن الوعي بتوقيت الموت القادم قد يدفعنا – بدلا من التسليم – إلى الإقدام على ما يبدو تمسكا بالحياة، هذا بعض ما وصلني من هذا الحلم.
(حلم 157)
لم يبق في الحياة إلا أسابيع فهذا ما قرره الفحص الطبي، فحزنت حزناً شديداً ثم تملكتني موجة استهتار فأقبلت أتناول الأطعمة التي حرمها عليّ الأطباء من سنين ولازمت صديقتي «س» وعرضت عليها الزواج فدهشت وقالت لي: إنك تفقد صداقة بريئة عظيمة ولا تكسب شيئاً، فألححت عليها حتى رضخت .. وبعد يومين جاءني صديق طبيب يخبرني بأن هناك أخصائيا عالميا سيزور مصر وأننا حجزنا لك مكاناً عنده فهنيئاً لك بفرحة الحياة، وغمرني سرور من رأسي لقدمي غير أنني تذكرت الأطعمة الضارة التي التهمتها، والزواج الذي قيدت به نفسي على غير رغبة، فشاب فرحتي كدر وقلق.
الخوف من الموت:
مهما أعلنّا حب الموت، أو زعمنا قبوله، أو سلَّمنا بانتظاره، ومهما صدقت الوعود بمابعده، حتى رأيناها رأي العين في حلم أو بيقين راسخ، إلا أن المسألة – من عمق أعمق– ليست بهذه السهولة المعلنة. حتى بعد التأكد من اللقاء هناك بأمثالنا، وبعد الارتياح إلى صدق الوعد بما لذ وطاب، يظل الحرص على الحياة غالباً أحيانا من باب «اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش»، الحرص على الحياة غالبٌ إلى آخر لحظة حتى لو حَرَمنا هذا الحرص من المشاركة فيما تُقدمه الحياة، وما بعد الحياة فالأصدقاء في هذا الحلم هم أصدقاء العمر الراحلون، والامتناع عن مشاركتهم، وهم قد رحلوا، هو حرص على الحياة يمتد حتى بعد الاطمئنان إلى أن الذين رحلوا مازالوا يسمرون ليلاً تسبقهم ضحكاتهم المجلجلة، والمفارقة الموقظة هنا هي التنبيه إلى أن الخوف من الموت يمتد حتى بعد الموت.
(حلم 92)
وجدت نفسي في بهو جميل، وبين يدي وعاء ذهبي ملئ بما لذ وطاب.
فذكرني هذا بسمار الليالي من أصدقاء العمر الراحلين، وإذا بي أراهم مقبلين تسبقهم ضحكاتهم المجلجلة. فتبادلنا السلام وأثنوا على الوعاء وما فيه. غير أن سعادتي انطفأت فجأة وصارحتهم بأنني لن أستطيع مشاركتهم حيث منعني الأطباء من التدخين منعا باتا، وبدت الدهشة على وجوههم ثم ركزوا أبصارهم في وجهي وتساءلوا ساخرين:
- أمازلت تخاف من الموت؟!
وصية محفوظ ودورية النقد الخاصة به:
شغلتني فكرة دورية نقد متخصصة لأعمال محفوظ منذ نال نوبل وكتبت إلى المسئولين بذلك، بدءا من خطابي إلى أ.د عزالدين إسماعيل رئيس تحرير مجلة فصول آنذاك في11/11/1988، (بعد حصوله على نوبل مباشرة) ورحت أكرر طلبي لإصدارها في كل مناسبة، كان آخرها للجنة المشكلة لتخليد ذكرى محفوظ، حتى تحقق أملي بصدورها منذ أربع سنوات برئاسة تحرير أ.د جابر عصفور ثم د. حسين حمودة اللذين تفضلا بنشر ما تيسر لي من نقد أعماله في هذه الدورية بعد رحيله .( آخر البدايات، الأسطورة الذاتية: بين سعي كويلهو، وكدح محفوظ، حركية الزمن، «وإحياء اللحظة» في أحلام فترة النقاهة، مصر في «وعي محفوظ» عبر قرنين، تتجلى في حديث الصباح والمساء، جدل الانسان المصري مع ثوراته عبر قرنين، في حديث الصباح والمساء أيضا، تشكيلات خلود بين «ملحمة الحرافيش»، و«حضرة المحترم».
وأنا أكتب الآن فرحت أن شيخنا كان ينبهنا إلى أهمية مثل هذه الدورية، ليست بالضرورة الخاصة بأعماله، لكنها تحمل فكرة نقد النقد والتركيز على مبدع واحد، أو حتى عمل واحد، مثل «عوليس» لجيمس جويس، وإليكم هذا الحلم النبوءة!
(حلم 165)
قرأت في المجلة مقال نقد قاس لشخصي وأعمالي بقلم الأستاذ ع وإذا به يمثـُل أمامي معتذرا ويقول إنه يقصد بالمقال أن يكون أساس حوار بيني وبينه يحدث ضجة تعيد الغائب إلى الوجود فقلت له: من يصدق هذا الحوار وأنت ميت منذ 15 سنة فقال إنه يعتمد على أن الأجيال الحديثة فاقدة الذاكرة، فقلت له: إن المقال أحب إلى نفسي من الانفعال والخداع!
لم ترحل يا شيخنا، وما زلت أوصل كل خميس استلهام تدريباتك وأنت تجاهد للعودة للكتابة، وأتعلم منها وأبلغ عنها، مثلما كنت أتعلمه منك وأنت معنا، فأشعر أنك ما زلت معنا، حفظك الله، هل تصدق يا شيخنا أن تداعياتي من هذه التدريبات قد وصلت إلى 934 صفحة، وأنا لم أصل بعد إلا إلى صفحة 168 من تدريباتك البالغة مئات الصفحات؟ يا لكرمك يا شيخنا حتى بعد الرحيل المزعوم!
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
واقرأ أيضا:
ربما تكون عميلا لمصر / تعتعة سياسية: دورية محفوظ بين ملحمة الحرافيش، وملحمة غزة/ نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية