يصادف في هذا الشهر حدثان مهمان كان لهما الأثر الكبير بتغيير خارطة المكان والزمان.. الأول كان في الثاني من هذا الشهر عندما وعد من لا يملك أن يقدم لمن لا يستحق أرض فلسطين الغالية على صفيحة من ذهب. كان القرار بمثابة خيانة للأمة العربية عامة وللشعب الفلسطيني خاصة. وإن لم يكن كافيا هذا الوعد لضرب إسفين الصراع العربي الإسرائيلي عامة والإسرائيلي الفلسطيني خاصة فقد جاء من يثبّت على أرض الواقع القرار الثاني يوم التاسع والعشرون من هذا الشهر في العام 1947 عشية نكبة فلسطين، والذي تم اتخاذه من قبل الأمم المتحدة ويقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين, واحدة لليهود على 55% من أرض فلسطين والثانية للعرب على 45 % من أرض فلسطين والقدس وبيت لحم تبقيان تحت إشراف دولي. علما بأن الأراضي الفلسطينية كانت تشكل 94% من أرض فلسطين بينما تشكّل اليهودية 6% من الأرض.
كان من الطبيعي أن يرفض العرب هذا القرار وبالطبع معهم السكان الأصليين لفلسطين الذين رفضوا وقيادتهم القرار. كان رفض القرار بمثابة قرع طبول الحرب في فلسطين والسبب المباشر بنكبة شعبنا الفلسطيني. لم يكن العرب وحدهم من رفض القرار بل كان من اليهود الصهاينة من رفضوا هم أيضا القرار مطالبين بإقامة دولتهم من النهر إلى البحر ضاربين عرض الحائط وجود شعب يعيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين.
في خضم هذا التاريخ والقرارات المجحفة بحق شعبنا الفلسطيني وما آلت إليه الأوضاع بعد اتخاذ هذا القرار بتحويل فلسطين كل فلسطين لساحة معركة. خلال ستة أشهر أو أقل استطاعت الحركة الصهيونية بدعم أوروبي إتمام مشروعها للتطهير العرقي في فلسطين حيث تمّ إخلاء نصف سكان البلاد وهدم نصف القرى والمدن في فلسطين وتمّ تهجير وهدم 531 قرية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب و"على عينك يا تاجر" وفي وضح النهار وعلى مسمع ومرأى مما يسمى بالعالم المتحضر الذي ساند القوات الصهيونية. ودفعت يافا عروس فلسطين ودرّة الشرق الثمن, نُكب ويُتم وشرّد معظم سكانها وهدمت 23 قرية من حولها ناهيك عن الدمار والخراب الذي لحق بالبشر والحجر.
ها هو حي المنشية الذي يشهد على قنابل المورترز البريطانية التي دمّرت البيوت ورشقت أجساد السكان على جدران البيوت. الشرعية الدولية كانت السبب بما حدث في دير ياسين والطنطورة والعدالة الدولية اغتصبت في وضح النهار. وحقوق الإنسان تحوّلت إلى أشلاء. خوف وجوع ورعب وتشريد ومجازر وتهجير هي جزء بسيط من قاموس النكبة. من لغة الشارع والحي والقرية.
شاء القدر أن يفرض علينا نحن سكان البلاد أن ندرس الرواية الصهيونية لما حدث في فلسطين وحرمنا من معرفة الرواية الفلسطينية التي حفظها كل شيخ وامرأة عاشت النكبة وما بعدها. كان علينا أن نبحث عن قصتنا. عن الرواية الحقيقة لما حدث لأهلنا في فلسطين فكانت رواية أبكت الصخر. ولكن هذا الجرح الذي لم يندمل بعد وما زال ينزف حتى يومنا هذا نشتم منه تواطؤ أوروبي وخيانة عربية من المحيط إلى الخليج. قصص تقشعر لها الأبدان، وجاء كتاب يافا للأبد ليضع النقاط على الحروف ويجعل من أسئلة طرحناها قبل عقود تتعقد وتزداد غموضا فكلما زادت معرفتنا لما حدث عام النكبة زاد معه منسوب الغضب والاشمئزاز من الأنظمة العربية العميلة بل ومن بعض القيادات التي كان لها الدور السلبي بما آلت إليه الأوضاع في فلسطين عامة ويافا خاصة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر كان قد توجّه محمد أمين الحسيني – رئيس الهيئة العربية في تصريح له: "أذكر أنني ألححت في مطالبة المختصين بجامعة الدول العربية في ديسمبر 1947 بضرورة تحصين المدن الرئيسة وتسليح المجاهدين للدفاع عنها تسليحا وافيا فأجابني أحد المسئولين ((لا ضرورة البتة لتسليح يافا لأن قرار التقسيم جعل يافا في المنطقة العربية فلا خوف عليها)) (كتاب يافا للأبد – ص 95)
لا أقول أن الحكومات العربية قد سخرت منا وتجاهلت حاجتنا بالدفاع عن أنفسنا فقط بل كانت جزأ من المؤامرة على فلسطين.
وبعد ستة عقود من الزمن قد نتساءل هل كان موقف رفض قرار التقسيم سليما ونحن نعرف أن هناك جهات عربية وفلسطينية طرحت فكرة قبول القرار. الغريب في الأمر أنه وبعد ستة عقود من الاحتلال يعود ويطرح مشروع مشابه إلى حد ما قرار التقسيم. ولكن ما هو مطروح اليوم هو قبول إقامة الدولة الفلسطينية على أقل من 20 بالمئة من الأرض الفلسطينية. وتبقى الثوابت الفلسطينية المتعلقة بالعودة والقدس وحدود 1967 غير قابله للطرح على طاولة المفاوضات. وأي خيار مطروح أمامنا الآن والعالم العربي يعاني المزيد من التشرذم والتمزّق؟ ولا يخفى عنكم موقف ما تسمى بالجامعة العربية التي تحوّلت إلى أداة تمزيق لعالمنا العربي. هل نحن بصدد تقسيم فلسطيني جغرافي وشعبي بحيث تكون لنا دولة في غزة وأخرى على جزء من أراضي الضفة؟ هل سيكون مصير القدس كالحرم الإبراهيمي في الخليل أو أسوأ؟ وماذا عن التبادل السكاني المطروح من جهات متطرفة في إسرائيل؟ وما هو الحل للعقدة الديموغرافية المطروحة إسرائيليا. هل نحن بصدد انتفاضة ثالثة وما هي خصوصياتها وميزاتها؟ هل ستعيد أوروبا النظر من موقفها تجاه هذا الكيان؟ وما مدى تأثيرها على ما يجري على أرض الواقع فلسطينياً وشرق أوسطياً؟
الغموض هو سيد المرحلة. والعالم العربي يمر بحالة من التحلل. وشعبنا الفلسطيني يطالب بالوحدة في ظل الانقسام الذي يهدد وجوده. القيادة متلعثمة وغير شرعية. في الماضي البعيد من لا يملك أعطى لمن لا يستحق واليوم بات من الصعب تطبيق مشروع الدولتين. من لا يملك يعاني اليوم من ضعف وعجز يمنعه من اتخاذ خطوة ما, حالة تصلّب في الشرايين والمواقف السليمة. والسؤال الذي يطرح نفسه هل ما أخذ بالقوة يعاد بطرق أخرى؟
يافا
تشرين ثاني 2014