دراسة سلوك الحيوان وتعامله مع البيئة والمجموعة التي ينتمي إليها تخضع لدراسات علمية وقيمتها أحياناً تتجاوز دراسة سلوك البشر الاجتماعي والفردي. الحيتان تهاجر وتتنقل من مكان إلى آخر وتتواصل بعضها مع البعض الآخر. الإنسان كذلك يتنقل من مكان إلى آخر وقد تجبره الظروف على الهجرة التطوعية أو القسرية بعيداً عن مسقط رأسه. ولكن هناك من يكون أمره أشد من غيره وهو الإنسان الذي يعيش وحيداً في داخل وطنه أو داخل بيته وهذه الهجرة أنت في مسقط رأسك عذاب لا نهاية له.
قصة هذا الحوت ليست بأسطورة وإنما حقيقة آثارت حيرة الخبراء منذ عام 1989. تتواصل الحيتان عن طريق موجات صوتية بحدود 30 هيرتز إلا هذا الحوت فإن موجة صوته 52 هيرتز ومن هنا تم تسميته الحوت رقم 52. اختفى أعواماً وعاد صوته للظهور سنوياً في الأعوام الأخيرة. لا أحد يعرف إن كان حوتاً ذو زعانف أو حوتاً أزرق. كل ما نعلم عنه أنه يعيش وحيداً ولم يعثر عليه أحد ولا أحد يعلم من سيتطوع من الحيتان ليضمه بالأحضان ويخرجه من وحدته.
الشعور بالسعادة:
هناك اتفاق لا جدال فيه بأن هناك 4 عوامل رئيسية تلعب دورها في شعور الإنسان بالسعادة وهي:
٠ الجنس
٠ الشخصية
٠ العوامل الخارجية
٠ العمر
النساء على العموم أكثر سعادة من الرجال وإن كان معدل إصابتهن باضطراب الاكتئاب يفوق معدل الاضطراب في الرجال. 20 - 25% من النساء يوصفن حالة إكتئاب ما مع مرور السنين مقارنة ب 10% من الرجال. يمكن تفسير هذا التناقض بأن النساء تميل إلى التطرف في النقيضين من العواطف من سعادة وحزن مقارنة بالرجال والقليل منهن ربما أكثر اكتئاباً من الرجال.
أما صفات الشخصية التي تدفع الإنسان نحو الشعور بالسعادة أو الشعور بالوحدة فهي:
٠ العصابية Neuroticism ونعني بها عتبة الإنسان للشعور بالذنب والغضب والقلق عند تفاعله مع الضغوط البيئية. كلما انخفضت عتبة الإنسان ازداد احتمال مسيرته نحو عدم الشعور بالسعادة والعزلة الاجتماعية. الإنسان العصابي لا يتميز فقط بسرعة شعوره بعواطف سلبية وإنما ذكائه العاطفي أقل بكثير من غيره وأقل مقدرة على الدخول والاستمرار في علاقة عاطفية ناجحة. ما هو مخيب للآمال بحق هو أن العصابية صفة شخصية لا تتغير كثيراً مع تقدم العمر.
٠ الانبساط Extroversion على عكس الصفة العصابية تماماً فمتى ما تواجدت هذه الصفة في شخصية الإنسان ازداد احتكاكه بالغير وشعوره بالسعادة والبهجة.
وبعد ذلك هناك ظروف بيئية تعصف بالإنسان بين الحين والآخر من علاقات حميمية وتعليم ودخل مادي وصحة جسدية. العلاقة الحميمية الزوجية تسعد الإنسان والبطالة ترسله نحو الحزن. وجود الأطفال في البيت الزوجي يزيد من سعادة الإنسان رغم الصعوبات الاقتصادية. كلما طور الإنسان نفسه بالتعليم والثقافة توجه نحو السعادة والعمل وتحسن دخله المادي ولذلك الغني أكثر سعادة من الفقير ولا فائدة من موعظته فقط بأن القناعة كنز لا يفنى.
بعد ذلك هناك العمر. كانت أسطورة القرون الماضية بأن هناك 7 أعمار للإنسان حيث يصل إلى قمة السعادة في العقد الخامس أو السادس حين يجلس على القمة في موقعه الاجتماعي. بعدها يبدأ العد التنازلي ويضعف البصر ويقل التركيز وتتكاثر زيارة الطبيب ووصفات العقاقير. تعقدت الحياة وظروف المجتمع الاقتصادية وتغير هذا المعتقد وأصبح الأنسان أقل سعادة في هذا العمر بل ويصل الحضيض في عمر 46 عاماً. بعدها يتزايد الشعور بالسعادة وتقل المسؤولية وتغمر الإنسان السعادة بما أنجزه وقدمه لمن حوله من مقربين والمجتمع بأسره.
هذه العوامل تتفاعل مع الوقت وقد تدفع الإنسان نحو العزلة وشعور مزمن بالوحدة وربما يبحث عن العلاج النفسي.
الشعور بالعزلة Loneliness في العلاج النفسي:
يتطرق من يمارس الطب النفسي أو العلاج النفسي إلى أزمات تواجه الإنسان الذي يعاني من اضطراب نفسي ومنها:
1 ـ فقدان التمثيل الداخلي للآخرين في العقل.
2 - تغير التمثيل الداخلي للآخرين في العقل .
3 - فقدان من يراعيه ويعينه في محيطه الخارجي.
كل هذه العوامل يمكن ضمها في مجموعة واحدة وهي شعور الإنسان بالعزلة. هذا الموضوع يتكرر في جميع الاضطرابات النفسية بصورة أو بأخرى. على ضوء ذلك فإن الجلسات العلاجية النفسية لا تكتمل إن لم يتم التركيز على الشعور بالعزلة في مرحلة ما من مراحل العلاج.
عملية التمثيل الداخلي العقلي للآخرين حركية نشطة لا تتوقف إلا إذا بدأ الإنسان يفقد وظائفه المعرفية مع دخوله مرحلة الشيخوخة. لا يعني ذلك بالضرورة أن الإنسان تجاوز عتبة الإصابة بالخرف Dementia ولكن الشعور بالوحدة بحد ذاته يمكن أن يتفاقم من جراء ضعف بسيط في التركيز والذاكرة. هذا الشعور بالوحدة من جراء العوامل الثلاثة أعلاه يزيد من احتمال تدهور الإنسان المسن عقلياً وإصابته بالخرف مع الوقت. بعبارة أخرى إن الشعور بالوحدة عامل لا يمكن التغاضي عنه باحتمال تجاوز الإنسان العتبة السريرية لتشخيصه بالخرف2.
أما المريض المصاب بالفصام فلا يقوى على التواصل مع الآخرين والتفاعل معهم عاطفياً ويصبح أكثر عرضة للانتكاس مع احتكاكه حتى بالمقربين منه. يبدأ تهميش الإنسان المصاب بالفصام تدريجياً وتلقائياً من قبل المجتمع ولكن ذلك لا يمنعه من الشعور بعدم السعادة بسبب العزلة التي فرضها عليه المرض والمجتمع. لا يكفي أن يقف العامل في الصحة النفسية يتفرج على المريض وإنما يحرص على الوصول إليه والسؤال عنه وتلبية احتياجاته الناقصة. دون ذلك فربما يدرك المريض بأن الطريق الوحيد للخروج من عزلته هو الانتحار. العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة الذي نراه في الفصام قد لا يختلف في إطاره ومحتواه في الاضطرابات الوجدانية كذلك.
أما الإنسان المصاب بالاكتئاب المرضي فترى سلوكه مجرد سلوك إنسان لا قيمة له فقد التمثيل الداخلي لإنسان آخر يحبه. يتحول التمثيل الداخلي للإنسان نفسه تدريجياً إلى كائن بذيء ومع هجران الحبيب في واقع الحياة يتحول ضميره أو ما نسميه الأنا العليا إلى كائن سادي يعاقبه ليلاً ونهاراً كما تعذب الأم القاسية طفلها. هذا الشعور بالعزلة يدفع المريض المكتئب نحو الانتحار3.
الخروج من العزلة:
الإنسان الذي فقد الشعور بالسعادة يطرق باب العلاج النفسي أحياناً ويستقبله المعالج بابتسامة. العلاج نفسي واحد من اثنين:
٠ علاج تعبيري (تعبيري) Expressive.
٠ علاج دعم (دعمي) Supportive .
ولكن في الحياة العملية السريرية هوخليط من الاثنين. ما يجب أن يحرص عليه المعالج النفسي هو وضع حدود معينة بينه وبين المريض وأن لا تتحول العلاقة العلاجية النفسية إلى اعتماد المريض على المعالج والاتصال به خارج أوقات الجلسات العلاجية. هذه الظاهرة كثيرة الملاحظة وقد ينتهي أمر الإنسان الوحيد بالتراجع والعزلة أكثر بعد نهاية الجلسات.
ولكن هذه الأيام ومنذ خمسة أعوام تقريباً انتشرت ظاهرة المواقع الاجتماعية التي تساعد الإنسان بالعثور على شريك أو شريكة له. لا يعتبر الكثير هذه الظاهرة اليوم مجرد عمل يائس يلتجأ إليه الإنسان الوحيد كفرصة أخيرة للخروج من عزلته ولا تحل وصمة عار للطرفين. على العكس من ذلك فإن التعارف بين الرجل والمرأة والذي ينتهي بالزواج بدأ عبر عالم الفضاء واستلام رسالة إلكترونية في أكثر من الثلث من الحالات1.
ولكن يجب توخي الحذر عند استعمال هذه المواقع التي قد تستغل الإنسان المستضعف الذي هو عرضة لعبث الآخرين عاطفياً ومادياً.
المصادر:
1- The Economist (2010). Love at first byte. December 29 - 2010.
2- Holwerda T, Deegd J, Beckman A, et al (2012). Feeling of loneliness, but not social isolation, predict dementia onset: results from the Amsterdam Study of the Elderly (AMSTEL). J Neurol Neurosurg Psychiatry. Epub ahead of print. Dec 10 - 2012.
3- Jacobson E (1971). Psychotic Identifications in Depression. In Comprartive Studies of Normal, Neurotic and psychotic Conditions. ed Jacobson E. International University Press. New York.
واقرأ أيضا:
مستقبل الطب النفسي أو نهايته (البحث عن تصنيف عربي ؟) / البحث عن نصف الحقيقة / المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون! / كيف نبحث وكيف نكتب الحقيقة