تعارض الغالبية العظمى من الأطباء والمعالجين النفسانيين استخدام المعتقدات الدينية أو الدين كعاملٍ داعم أو مساعدٍ في العلاج النفساني، ويعتبر ذلك موقفا نشأ مع نشأة الطب النفساني الغربي على يد فرويد ومدرسة العلاج بالتحليل النفساني، لكنه فيما يبدو استمر يؤثر في الأطباء والمعالجين النفسانيين حتى يومنا هذا، ففي وصفه لعلاقة المعالجين النفسانيين بالدين يقول إيان أوزبون "أغلبهم يرى أن الدين والعلاج النفساني ببساطة لا يختلطان" (Osborn, 2008)... وبينما يظن بعض المتفائلين أن هذا يعبر عن المجتمعات الغربية وأما عندنا فالصورة مختلفة... فالحقيقة أنها ليست كثيرا مختلفة بالنسبة للأطباء والمعالجين النفسانيين وإن كانت مختلفة للغالبية العظمى من المرضى، بل إن الثابت هو أن الرعيل الأول (إلا قلائل) من رواد الطب النفساني وعلم النفس في عالمنا العربي والإسلامي كانوا يحملون نفس المفاهيم الغربية التي تصر على فصل الدين ويسوقون ويفرضون على تلامذتهم عدم الخلط بين الدين والعلوم النفسانية،.... وذاكرة المرء ملأى بحكايات لباحثين أرادوا التجريب أو المزج أو المقارنة بين طرق العلاج الدينية وطرق العلاج النفساني ورفضت أطروحاتهم شكلا وموضوعا، لكنني رغم ذلك يمكنني أن أصنف الأطباء والمعالجين النفسانيين العاملين في مجتمعاتنا العربية بما في ذلك القطاع التعليمي أو الجامعي إلى ثلاثة أصناف:
1- صنف يعتنق فكرة ضرورة الفصل بين ممارسة الطب النفساني والأمور الدينية الخاصة بالمريض ظاهرا وهو عادة لا يعلن رأيه مفصلا إلا للخاصة لكنه يصر على القطيعة مع رجال الدين باعتبار الدين أمرا يخص المريض بينما المرض أمر يخص الطبيب.... وليس هؤلاء إلا قلة لكنها قلة نافذة لأنها ببساطة تميزت في مجتمعاتنا بعلاقاتها الوطيدة مع الغرب.
2- صنف يعتنق فكرة ضرورة المزج بين ممارسة الطب النفساني والأمور الدينية الخاصة بالمريض، والاستفادة من قوة التدين ما دام موجودا.... وهؤلاء حتى الآن قلة من الأطباء النفسانيين وعلماء النفس ولولا الإنترنت والفضائيات لما أمكن لجهودهم أن تثمر.
3- وأما الصنف الأخير فهو جمهور الأطباء والمعالجين النفسانيين الذين يرون أفضلية البقاء على الحياد فهم غير متشددين في رفض دور الدين ولكنهم ليسوا مختصين بالدين وبالتالي لا يتحدثون إلا فيما يعرفون.... وتجد في ممارسة هؤلاء غالبا شيئا من القصور يستشعره المريض لكنه يستعيض عنه بعلاقة مع شيخ أو راهب.
والحديث عن علاقة الطب النفساني بالدين حديث ذو شجون فأشهر الأطباء النفسانيين حتى الآن وهو سيجموند فرويد كان له موقف علماني مشهور من الدين ومن الكنيسة... ليس فقط بل ورأى الدين أو الممارسات الدينية شكلا من أشكال العصاب القهري ورأى الدين عامة "وهاما جماعيا Mass Delusion " ومجموعة من التخيلات والأوهام إضافة لما سماه " انخداعات التمني Wishful Illusions "، ورغم استناد ذلك الموقف الفرويدي من الميتافيزيقا إلى أسباب تخص ربما أسرته ونشأته اليهودية في فيينا إلا أن هدف فرويد كان إيجاد طريقة علاج للأمراض النفسانية تستند إلى مبادئ علمية راسخة وكان انتحاؤه ذاك المنحى متماشيا مع مناخ التنوير العالماني الثقافي الاجتماعي الذي ساد أوربا في عصره وكان في أغلبه يكرس الفرقة بين العلم والكنيسة،
وطبقا لنظرية التحليل النفساني التي سادت بدايات ممارسة الطب في كل مكان تقريبا فإن العملية العلاجية تعني تحرير العقل البشري من صراعاته وعقده ومعتقداته غير المنطقية ومن بينها المعتقدات الدينية كي يفكر بطريقة علمية، وعندما يصبح التفكير علميا فإن فهم المشكلات بطريقة علمية هو مفتاح حلها، وكما يقول المحلل النفساني الشهير أوتو فينشيل Otto Fenichel "رأيت مرارا وتكرار أنه مع تحليل الصراعات الجنسية ونضوج الشخصية يزول الاحتياج إلى الدين" (Osborn, 2008). وربما كان هذا سببا وتفسيرا للمشهور عن إلحاد أغلب المحللين النفسانيين أو على الأقل قلة تدينهم.
ورغم تضاؤل تأثير فرويد ومدرسته في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن الأشكال الأحدث من العلاج النفساني واصلت حمل نفس فكرة أن المشكلات النفسانية لا يمكن علاجها إلا إذا تمكن صاحب المشكلة من فهمها بشكل أكثر علمية وواقعية، حتى أن ألبرت إيليس Albert Ellis النفساني الأمريكي الذي طوَّر نظرية العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي (Rational Emotive Behavior Therapy (REBT وربما المعالج النفساني الأكثر تأثيرا منذ فرويد، قال وحديثا جدا -سنة 1983- ما نصه: "يسهم الإيمان النقي والتدين بشكل واضح في إحداث الخلل وهو بطريقة ما يساوي الاضطراب النفساني أو الانفعالي بينما عدم الإيمان والشك، والإلحاد عموما ليس فقط يساعد على ولكنه يكاد يكون مرادفا للصحة النفسانية" ووفقا لألبرت إيليس فإن أي فرضية غير علمية، تصبح ضارة عندما يعتقد فيها الشخص بقوة، وبالتالي فإن أغلب المعالجين النفسانيين على الأقل حتى خلال ثمانينيات القرن العشرين كانوا غير متدينين وكانوا يرون المعتقدات الدينية والروحانيات مصدرا للمرض النفساني وليست أبدا علاجا له، إلا أن نوعا من التقارب بدأ يظهر في العقد الأخير من القرن العشرين حيث ظهر التدين والروحانيات كقوة فاعلة ومفيدة لا سيما في علاج إدمان الكحول، ثم توالت الدراسات التي تثبت الدور الكبير الذي يمكن للروحانيات لعبه في التعافي من أصناف القلق والاكتئاب (Osborn, 2008).
لكن رغم ذلك بقي تأثير فرويد ومدرسة العلاج بالتحليل النفساني التي أسسها على عقول قطاع كبير من الأطباء النفسانيين إلى حد كبير يبدو مستمرا إلى اليوم كما تشير نتائج دراسات قديمة وحديثة على الأطباء النفسانيين (Franzblau, 1975) والمعالجين النفسانيين (Marx & Spray, 1969) وأيضًا (Bergin & Jensen, 1990) إلى الحد الذي يجعلني -في نقاشاتي مع الزملاء الرافضين لفكرة الاستفادة من تدين المريض ما دام متدينا تعبيرا عن هذا الأثر- أسميه "عقدة فرويد Freud Complex " والحقيقة أنها لعنة فرويد! فالأطباء أو المعالجين النفسانيين كما في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الغربية هم بشكل عام أقل تدينا من غيرهم وأقل ممارسة للشعائر الدينية أو زيارة لدور العبادة؛
وبالنسبة للدراسات التي قارنت الأطباء النفسانيين بزملائهم الأطباء ذوي التخصصات الأخرى يبدو الطب النفساني فريدا في موقفه الأقل تدينا من كل التخصصات الطبية (Curlin et al. 2010) إذ لم تشذ عن النتائج التي تؤكد قلة التدين إلا دراسة كندية واحدة (Waldfogel, et al., 1998) وكندا هي البلد الغربي الذي انطلقت منه صيحة ضرورة تعليم المتدربين من الأطباء النفسانيين بعض المعلومات عن الأديان والروحانيات (McCarthy & Peteet, 2003) اعترافا بأهميتها في حياة الإنسان وتمكينا للطبيب النفساني من فهم أعمق لشكوى المريض المتدين وقدرة أكبر على المساعدة، وللأسف لم أهتدِ لأى دراسات عربية تهتم بالأمر.
وكانت القطيعة بين العلم والكنيسة أمرا يكاد يكون من المسلمات بدأت مع بدايات نشوء البحث العلمي بمفهومه الحديث في أوروبا فمثلا يقول الأب اوغسطينوس (نوفمبر 1354 - أغسطس 1430) "المسيحي الجيد يجب أن يحذر من علماء الرياضيات... فالخطر موجود بالفعل لأن علماء الرياضيات قطعوا عهدا مع الشيطان ليلقي بظلاله على الروح ويحصر الإنسان في أربطة الجحيم". وتمت محاكمة جاليليو في القرن السابع عشر حيث أعدمته الكنيسة الكاثوليكية سنة 1633، ويقول ريتشارد دوكينز، "الإيمان هو واحد من أعظم الشرور في العالم، مماثل لفيروس الجدري ولكن من الصعب القضاء عليه" وقد استمرت تلك القطيعة خلال القرن التاسع عشر وهو القرن الذي شهد أعنف الآراء المعادية للطرف الآخر من الطرفين،
ثم بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين دعوات لما يمكن تسميته بالسيادة المستقلة العلم والدين يتعاملان مع جانبين منفصلين جوهريا من التجربة الإنسانية، وبالتالي يمكن لكل منهما البقاء في المجال الخاص به، وأن يتعايشا سلميا (Gould, 1999)، ورغم أن عالما بحجم ألبرت أينشتين كان يقول "العلم بدون دين أعرج، والدين بدون علم أعمى" فإن التوجه السائد من الجانبين -العلم والدين- في ذلك الوقت ظل هو التحاشي والتجاهل المتبادل، وحتى أواخر القرن العشرين ظلت تسود الأوساط الطبنفسية أفكار تدعم عدم إمكانية التعاون بين الطب النفساني والدين، مثل أن الطب النفساني كعلم –بالمعنى الغربي الحديث للكلمة- مثله مثل أي علم إنما يقوم أساسا على البحث العلمي المستند بالضرورة إلى الشك Doubt كدافع للبحث والدراسة وتبقى نتائج الأبحاث فيه قابلة للشك أيضًا ثم التغيير إذا بينت الدراسات ما يعضد ذلك الشك في حين أن الأديان عموما تقوم على التصديق المطلق أو الاعتقاد Belief أو الإيمان ولا مجال في ذلك للشك، ولا ينتظر أن يعرف المؤمن أكثر مما أريد له دينيا أن يعرف، ومثل أن الدين والعلم عالمان منفصلان من الفكر الإنساني يستبعد بعضها بعضا، وخلطهما أو عرضهما في ذات السياق يؤدي إلى سوء فهم النظرية العلمية والمعتقد الديني كليهما (Fawzi, 2009)
ورغم أن فكرة تشريح المشكلات النفسانية وإرجاعها إلى أسباب محسوسة بحيث تصبح منطقية مفهومة، وحين يستوعبها العقل فإن المريض يبرأ من اضطرابه النفساني هي فكرة محورية لشتى أنواع العلاج النفساني الحديث فلا يصح رسميا أن نعالج إلا بالطرق التجريبية العلمية وليس بأي من الطرق غير المسندة أو المدعمة بدليل علمي، رغم ذلك فإن الخبرة المباشرة للمتدينين من الأطباء والمعالجين النفسانيين لا تدعم دائما نفس الموقف فالحقيقة أن ما يطلبه عقل المريض وهو في طريق الشفاء المتحقق بالفهم لا يشترط أن يكون دائما كلاما علميا، بل التفسيرات الدينية عادة ما تكون أقرب، وكما نقل أوزبون (Osborn, 2008) فقد أظهر استفتاء نشرته مجلة حوليات الطب النفساني Psychiatric Annals الشهرية وهي الأكثر قراءة في الولايات المتحدة الأمريكية في عددها الصادر في أغسطس سنة 1999 أن 15% من الأطباء النفسانيين في أمريكا لا مانع لديهم من نصح المريض بأن يمارس الصلوات، صحيح أنها كانت فئة قليلة من الأطباء النفسانيين لكن الواضح أنها فئة نمت وتنمو باضطراد في الفترة الأخيرة... وفي رأيي فإن ما سيحدد عدد من سيغيرون موقفهم هو نجاح الاستعانة بالدين.
وفي العقد الأخير انتشرت في أغلب بقاع العالم تقريبا طرق العلاج بالروحانيات Spirituality والتأمل Meditation واليوجا Yoga وغيرها وأثبتت نجاحا لا شك ساعد على انتشارها، حتى أنه يصح وصف هجوم العلاج بالروحانيات على ميادين العلاج النفساني خاصة في التعامل مع الكروب وآثار التعرض للرضح، ورغم أن أحدا لا يعرف كيف تعمل الروحانيات عملها بصورة علمية إلا أن أحدا لم يرفضها أو يحاربها بالشكل الذي حدث مع من حاولوا الاستفادة من الدين بالعلاج، ينطبق هذا الكلام على الدول الغربية انطباقه على الدول العربية والإسلامية فرغم أن النسب بالتأكيد ستكون مختلفة باعتبارنا مجتمعات متدينة وفي أغلبها تقبل فكرة الأثر النفساني الطيب للدين، إلا أن ما يواجه به الطبيب أو المعالج النفساني الراغب في إيجاد أو البحث عن أو اختبار طرق العلاج التي تستفيد من المعتقدات أو الممارسات الدينية من الجماعات العلمية في أغلب بلادنا العربية ليس إلا عدم القبول؛
أقول هذا رغم اعترافي بوجود مشكلات كثيرة ليس فقط في التطبيق وإنما حتى في إيجاد أدوات البحث المناسبة فعلى سبيل المثال ما يزال إيجاد مقياس خاص بقياس التدين مشكلة كبيرة بالنسبة للمسلمين كما تبين قراءة فقرات أي من المقاييس الغربية وهذا فضلا عن صعوبة قياس التدين بالأصل، بل وحتى الروحانيات ما تزال عصية على القياس العلمي المُرضي وكما يقول هارولد كونيج (Koenig ,2008) إن استخدام لغة دينية أو روحانية لوصف المصطلحات النفسانية العلمانية أمر مربك، وحين نود قياس الروحانية نجد نفس المشكلات التي تقابل من يحاول قياس التدين وربما سبب ذلك أن المحكات والمعايير التي نحتاج لقياسها تتداخل تماما مع معايير قياس الصحة النفسانية.
.......... يتبع .......الدين والعلاج النفساني2
المراجع:
2- Franzblau, AN.; D’Agostino, A.; Draper, A., et al. (1975) Psychiatrists’ Viewpoints on Religion and Their Services to Religious Institutions and the Ministry. Washington, DC: American Psychiatric Association Task Force on Religion and Psychiatry; 1975.
3- Marx JH, Spray SL.(1969): Religious biographies and professional characteristics of psychotherapists. Journal of Health and Social Behavior 1969;10:275–288.
4- Bergin AE, Jensen JP.(1990) Religiosity of psychotherapists: a national survey. Psychotherapy 1990;27:3–7.
5- Curlin FA, Odell SV, Lawrence RE, Chin MH, Lantos JD Meador KG and Koenig HG (2010): The Relationship Between Psychiatry and Religion Among U.S. Physicians. Psychiatr Serv. Author manuscript; available in PMC 2010 May 11
6- Waldfogel S, Wolpe PR, Shmuely Y. (1998): Religious training and religiosity in psychiatry residency programs. Academic Psychiatry. 1998;22:29–35.
7- McCarthy & Peteet (2003): Teaching Residents about Religion and Spirituality. Harv Rev Psychiatry 2003;11:225–228. Psychiatric Anals, August 2000, 529.
8- Gould S. J. (1999): Rocks of Ages: Science and Religion in the fullness of life. Ballantine Books, 1999.
9- Fawzi M. (2009): psychiatry and religion: Suggestions for Future Research. Proceedings of Egyptian Psychiatric Association, 2009 annual conference Semiramis InterContinental Hotel Cairo.
10- Koenig H.G (2008): religion, spirituality and health: research and clinical applications. Presented at: NACSW Convention 2008 February, 2008, Orlando, FL.
واقرأ أيضًا:
الاستشفاء بالقرآن في الطب النفساني المعاصر / الدين والطب النفساني مشاركة