مقدمة
خلف سقوط الاتحاد السوفيتي فراغًا عالميًا، جعل الولايات المتحدة اللاعب الرئيس في العالم، مما أغرى رئيسها جورج بوش بإطلاق مصطلح النظام العالمي الجديد؛ لتأكيد سطوة الولايات المتحدة وجبروتها العسكري، الذي كرسته حرب الخليج الثانية، التي ذهب بعضهم لاعتبارها الحرب العالمية الثالثة، استنادًا إلى عدد الدول المشاركة فيها وإلى كمية الأسلحة المستخدمة خلالها، وعلى الرغم من الإحراجات الدبلوماسية والأخلاقية التي سببها قرار الحرب الأمريكي، فإن الجبار الأمريكي لم يتوقف عن الشكوى، وتركزت شكاواه على الأمور التالية بصورة خاصة:
- أنه لا يحظى بنفوذ سياسي يتناسب وتفوق قدراته العسكرية، مما يعكس عدم كفايته, بالرغم من قدرته على جر دول عديدة إلى تلك الحرب بضغوطات نفوذه وقوته الاقتصادية والعسكرية والسياسية، فقد كانت كل من فرنسا وروسيا تبذلان المستحيل من الجهود لمنع هذه الحرب، ليس فقط لإضرارها بمصالحهما، ولكن أيضًا لوعيهما أن هذه الحرب هي حاجة أمريكية، وليست ضرورة دولية أو إنسانية أو غيرها، عداك عن حرج الدول العربية بالمشاركة في حرب أمريكية ضد دولة عربية، خاصة بعد الرفض الأمريكي لمحاولة إيجاد مخرج عربي للأزمة.
- أنه يبحث عن عدو ولا يجده، حتى بدا الأمر وكأنه يطالب العالم بتقديم ضحية ليتسلى الجبار على افتراسها وممارسة جبروته عليها، وفي غياب هذه الضحية راح الجبار يتسلى بالحروب الصغيرة وبالحصارات متعددة الدرجات، ومعها تصنيف دول العالم إلى تابعة ومارقة، وفي ذلك الإعلان عن عدم وجود حالة وسطية.
- أنه يواجه عقبات في وجه عولمة نظامه القيمي الذي يرى الجبار الأمريكي أنه أثبت نجاحه ليصبح سيد العالم دون منازع، فإذا ما فشلت العولمة في مجموعة كبيرة من الدول المتعولمة والمستسلمة لشروط الأمركة، رد الجبار هذا الفشل إلى الفساد والتخلف في هذه الدول. وليس إلى عدم صلاحية نظامه للعولمة.
- أن بعض تطبيقات العولمة تضر بالاقتصاديات الأمريكية؛ مما يعطي للجبار الحق بتجاوز العديد من قوانين السوق ومنظمة التجارة العالمية، لكن هذا الحق بالتراجع لايمتد إلى أية دولة أخرى مهما بلغ شأنها وقوتها العسكرية.
حتى لو أدى الأمر إلى معاناة شعبها من المجاعة كما حصل في روسيا.
هذه هي باختصار المظالم الأمريكية التي جعلت الولايات المتحدة تبرر تجاوزاتها لمبادئها الليبرالية؛ لتخوض صراعات مثل حرب كوسوفو، ولتفرض الحصار على مئات الملايين من البشر، بل إنها أجبرت الاتحاد الأوربي على اتخاذ الخطوات الكفيلة بالقضاء عليه، وعلى إمكانيات تطويره، وكان ذلك عبر التعديلات الاستراتيجية المدخلة على ميثاق حلف الناتو، والتي بدأت طلائعها مع إعلان بوش الابن عن إصراره على مشروع "الدرع الصاروخي الأمريكي" ولما يمضِ شهر على دخوله البيت الأبيض.
هذه المظالم تقودنا إلى السيكولوجيا وإلى الحديث عن العقل الجمعي المنتج لهذه السياسات والمواقف، ليصدمنا هذا السؤال بواقع التعددية الأمريكية، التي تجعل من المجتمع الأمريكي تجمعًا أشبه (بالموزاييك) الذي يتطلب أولا السؤال عن المواد اللاصقة لأجزائه، والجامعة بين جماعاته. وهو السؤال الأصعب!. فعلى الرغم من وجود جواب سهل وجاهز يتمثل بالوفرة الاقتصادية (متوسط الدخل الأمريكي 35 ألف دولار سنويًا) فإن الموضوعية تقتضي تحري أجوبة أخرى، فالوفرة المادية قد تكون المادة اللاصقة الأساسية للموزاييك البشري الأمريكي. إلا أنها ليست الوحيدة، فماذا عن بقية المواد؟
إن معرفة المواد اللاصقة الأخرى غير ممكنة بالنظر إلى المجتمع الأمريكي من الخارج، إذ أن هذا المجتمع يختلف بصورة كلية، عندما ننظر إليه من داخله عنه عندما ننظر إليه من الخارج، ففي الداخل الأمريكي رفاهية نفسية تضاعف الأثر اللاصق لتلك المادة، فالحرية الأمريكية لاتقف عند حدود ممارسة القناعات الخاصة، بل تتعداها إلى التحرر من قيود الآخر لدرجة اللامبالاة به. وذلك على عكس المجتمعات التقليدية حيث يكون الفرد أسيرًا لرأي الآخر ومقيدًا بالنظم الرمزية للجماعة وقيمها، بما فيها تلك التي تتعارض مع قناعاته ورغباته، مما يجعل الفرد يحس أحيانًا بالاغتراب داخل جماعته.
أما المجتمع الأمريكي فيقدم للفرد حرية شخصية في حدودها القصوى، وهذا ما يعطي للمجتمع الأمريكي قدراته التذويبية الفائقة، التي تصهر المزيج الأتني والثقافي الهائل التنوع في موزاييك المجتمع الأمريكي، فإذا أردنا أن نعطي مثالا على اللامبالاة والتحرر من قيود الآخر، فإننا نأخذ المقابلة التي أجريت مع الرئيس بوش الابن عندما كان مرشحًا، ففي تلك المقابلة الشهيرة كان بوش نموذجًا للمواطن الأمريكي العادي الذي لايهتم بما لا يعنيه، ومن هنا فشله في الإجابة على أسئلة من بديهيات السياسة، وهو فشل فضائحي بالنسبة إلى مرشح لرئاسة القطب العالمي الأوحد، ومن الأمثلة أيضًا ذلك الإحصاء الذي بيّن أنّ (80%) من الأمريكيين يعتقدون أن باكستان وإيران هي دول عربية! وقس على ذلك.
في المقابل لابد من السؤال عن "الحنين إلى الأصول" وهوحنين من طبيعة الجنس البشري، والجواب اختصارًا هو أن عوامل انتصار البراجماتية الأمريكية عقائديًا، والوفرة المادية وخمود القوميات كانت عوامل مذوبة كبتت هذا الحنين، الذي عاود ظهوره بقوة تتنامى مع تنامي انبعاث القوميات، وهو ردة الفعل الطبيعية أمام خمود الايديولوجيات (ويقال سقوطها). وهذا ما يجعل دراسة المجتمع الأمريكي الراهن أكثر تعقيدًا، فهل نقسمه وفق انتماءاته العرقية والقومية؟ أم نتبع التقسيم البراجماتي الذي يصنف الناس في أنماط وقوالب سلوكية بغض النظر عن شخصياتهم ووعيهم الفردي والجماعي؟.
لذلك كان من المهم التطرق لموضوع التحليل النفسي للشخصية الأمريكية؛ عله يقدم لنا الأجوبة على هذه التساؤلات، حتى نصل إلى الموضوع الأهم والأكثر إلحاحـا، وهو موضوع "مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية". إذ يبين علم المستقبليات أن الامبراطوريات متعددة القوميات تموت موتًا بطيئًا وموجعًا وجالبًا للكوارث ومريقًا للدماء، فهل تشذ الولايات المتحدة عن هذه القاعدة المستقبلية المتعارف عليها؟!
إن المواطن الأمريكي اليوم فاقد للتوجه، إذ يتنازعه الحنين للأصول (الآريون الأمريكيون واللوبي اليهودي والتجمعات العرقية والدينية المختلفة) ومتعة اللامبالاة والذوبان، مما أفقد الموزاييك الأمريكي دعم الوفرة المادية بنشوة الحرية الشخصية التي تبدت مثاليتها لا واقعيتها في الزمن الصعب، حيث اشتكى الآريون من سيطرة اليهود على الحكومة الفيدرالية، وحيث اشتكى الزنوج من تدني دخلهم واستمرارية التمييز العنصري ضدهم، وحين اتهم ذوو الأصول العربية بانفجار أوكلاهوما وغيرها من المواقف التي غذت الحنين إلى الأصول، وهي في طريقها لإلغاء متعة اللامبالاة بالآخر؛
هذا الإلغاء الذي يترك الموزاييك الأمريكي قائمًا على الوفرة المادية وحدها، وهكذا يتضح تدريجيًا عجز الذات الأمريكية عن مكاملة وتركيب مجموعاتها الدينامية؛ إذ يزداد بروز عوامل الاختلاف بين هذه المجموعات حتى ينفجر مع أول أزمة اقتصادية أمريكية قادمة، وعندها ستتبدى الفوارق بين هذه المجموعات على الأصعدة المختلفة (العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والقومية ...إلخ). حتى أمكن القول أن انفجار أوكلاهوما وقبله حوادث ليتل روك ولوس أنجلوس وبعدها حوادث سينسيناتي لم تكن سوى مظاهر لبداية تفكك الذات الأمريكية، على طريق تحويلها إلى فتات من الأقليات المتنافرة.
(إنها النفس الأمريكية المفككة...).
الدراسات السابقة:
تجد الانثروبولوجيا الثقافية جذورها في تاريخ الفكر الإنساني، ولعل أقدم الملاحظات الانثروبولوجية هي تلك المنقولة عن المؤرخ هيرودوتس الذي لاحظ الفوارق بين العادات الإغريقية والعادات الفرعونية، ثم توالت الملاحظات الشبيهة مع تنامي إمكانيات الاختلاط بين الأمم عبر التاريخ، حتى وصلت إلى تقارير منظمة تتعلق بخصوصيات الأمم، من أعداد المبشرين الدينيين، إلا أن تحول الانثروبولوجيا الثقافية إلى فرع علمي مستقل تأخر لغاية الحرب العالمية الثانية، حين قادت الولايات المتحدة دراسات الشخصية القومية من منطلق فائدتها في التعرف على بنية وهيكلة مجتمعات الأعداء، إضافة إلى التعرف على أساليبهم التفاعلية وردود أفعالهم المحتملة أمام الأحداث والشائعات وغيرها؛
وتولت هذه المهمة هيئات رسمية أمريكية استعانت بكبار الباحثين الانثروبولوجيين في حينه، فقد عمل العالم "باتسون" في هذا المجال لدى مكتب الخدمات العسكرية الأمريكي (المخابرات في حينه)، كما عمل العلماء "غورير" و"لايون" و"كلاكهوهن" في مكتب المعلومات البحرية الأمريكية (فرع المخابرات الآخر في حينه)، وقام هؤلاء بدراسة الشخصيات القومية في الدول الصديقة والعدوة على حد سواء، إلا أن الاهتمام تركز في حينه على الشخصية اليابانية (بسبب جدية التهديد الياباني وخطورته أثناء تلك الحرب) والشخصيات الرومانية والتايلاندية والروسية والألمانية بالطبع.
أما بالنسبة إلى الدراسات المتعلقة بالشخصية الأمريكية فقد تأخر ظهور أولى الدراسات المنشورة في هذا المجال إلى العام 1948 عندما نشر العالم "غورير" كتابه المعنون:
Gorer.G: The American People,A Study in National Character, W.W. Norton,NY,1948
في هذه الدراسة يلاحظ غورير أن الأمريكيين يطبقون نظامًا صارمًا بالنسبة لمواعيد إرضاع أطفالهم، ومن الطبيعي أن الطفل يحتاج إلى فترة للتكيف مع هذا النظام (الموضوع من قبل بالغين عاجزين عن التحديد الدقيق لحاجات الطفل. خصوصًا وإنها عشوائية وغير منتظمة). خلال هذه الفترة يمر الطفل بتجربة الجوع التي تغضبه، فيعبر عنها بالصراخ، ويستنتج غورير أن الشعور بالخوف من الجوع يلازم الأطفال الأمريكيين على مدى حياتهم، وهذا سبب الاحتجاجات الأمريكية الشعبية على المعونات الأمريكية التي قد تؤدي إلى مجاعة أمريكية في حال استمرار توريد الأغذية إلى الخارج.
ويدعم الباحث هذا التحليل بالخوف الذي يجتاح الأمريكيين من احتمالات تناقص المحاصيل الزراعية في المستقبل (كانت هذه المخاوف منتشرة في حينه في المجتمع الأمريكي). كذلك يربط غورير بين تجربة الجوع هذه وبين اهتمام الأمريكي بصدر المرأة، ويصف المرأة الأمريكية بأنها شبقية وعمياء معتبرًا هذه الصفات على علاقة بجوعها إبان فترة الرضاعة.
والواقع أن هذه الدراسة تعرضت لانتقادات عديدة، أهمها أن الباحث يؤكد على كون مرحلة الطفولة محددة للشخصية البالغة (توجه تحليلي-فرويدي). ومع ذلك فإن أثر مرحلة الطفولة غير قابل للإلغاء وإن لم يكن وحده المحدد لشخصية البالغ، بل إننا وبالرغم من تغير الظروف والمعطيات، لا نزال نلاحظ خوف الأمريكي من الجوع في مواقف عديدة، مثل الجماعة التي كانت تخزن الأطعمة في أقبية خاصة تحسبًا للحرب النووية، وكذلك الاهتمام الأمريكي البالغ بالرفاهية الاقتصادية، وهو الاهتمام الذي جعل كلينتون يفوز على بوش تحت شعار"أمريكا أولا".
ومن أحدث تبديات هذا الخوف من الجوع ذلك الشلل الذي أصاب تجارة البيع بالتجزئة في النصف الثاني من العام 2000 حين قتر الأمريكيون على أنفسهم حفاظا على مدخراتهم، التي اعتبروها مهددة بسبب التغيير المرافق لسياسة الرئيس المقبل، وكان قرار خفض سعر الفائدة بعد فوز بوش على علاقة بهذا الخوف. فهذا الخفض يسمح للمواطن العادي بالاقتراض بفائدة أقل مما يشجعه على الإنفاق ويحرك جمود تجارة التجزئة.
وإذا كان غورير قد التمس نقطة الضعف هذه، فإن ذلك لايعني بحال استمرار صلاحية تحليله للشخصية الأمريكية، فقد لحق التغيير بنظم التربية (نعايش حاليًا الجيل الأمريكي الذي تربى وفق مباديء الدكتور سبوك، وهو ما عرف بالتربية الحديثة التي حولت الأطفال إلى متحكمين بأهاليهم) وبالتركيبة الديموغرافية ومستوى الدخل الفردي، ومستوى الهيمنة العالمية للولايات المتحدة، هذه المتغيرات وكثيرة غيرها تسقط تحليل غروير، وتجعله مجرد مرجع لتلك الحقبة، وهذا يقودنا إلى طرح السؤال حول الشخصية الأمريكية المعاصرة بعد كل هذه التبدلات.
إن الموزاييك الأمريكي، الذي يزداد تعقيدًا مع مرور الوقت، يقطع الطريق أمام مجرد محاولة الحديث عن شخصية أمريكية بالمعنى القومي لسمات الشخصية الجمعية، ولقد أدرك الأمريكيون هذه الاستحالة لذلك طرحوا المسألة على صعيد ما أسموه ب: "نمط الحياة الأمريكية". بما ينسجم مع تعدديتهم التي تضعهم في ردة فعل دفاعية-فكرية تجعلهم يرفضون القوميات والأفكار القومية، وهذا ما سيقود للحديث عن الأمة الأمريكية عوضًا عن القومية الأمريكية، وبذلك يصبح استكشافنا لهذه الشخصية مرتبطًا بالفكر المقرر لنمط الحياة الأمريكي. وهو الفكر البراجماتي الإنساني، الذي تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى عولمته، بما يعادل فرض نمط الحياة الأمريكي على شعوب العالم، وهنا تكمن مفارقة شديدة الأهمية، إذ أن نمط الحياة هو سلوك برهنت التجربة الأمريكية على كونه قابلا للاعتماد من أشخاص وجماعات ينتمون إلى مختلف الثقافات والأعراق، والسلوك هو نمط تصرفات وحياة قابل للاعتماد من قبل الشخصيات المختلفة.
أي أنه من الممكن اعتماد النمط السلوكي مع الحفاظ على الشخصية ومعها على الفروق الفردية، وهذا ما يقودنا للحديث تفصيلا عن نمط الحياة الأمريكي ومنطلقاته الفكرية التي طالما تعرضت للسخرية؛ لكونها لاترقى إلى مجال الفلسفة، وهذا ما حال دون تحويل هذا النمط إلى نظام ايديولوجي، وها هو هذا النمط يحفظ استمراريته بعد غياب (سقوط) الأيديولوجيات. لدرجة استغلال الفراغ الناجم عن هذا الغياب، من أجل الدعوة لعولمة هذا الفكر (البراجماتي) ونمطه الحياتي.
البراجماتية الإنسانية:
نصادف عناصر الفكر البراجماتي موزعة في محطات عديدة من التراث الإنساني، بل إننا نجد أثر هذه العناصر في بعض الديانات القديمة، كما نجدها في العديد من الأساطير القديمة والمنسوخة، إلا أن انتظام الفكر البراجماتي شهد بداياته عند نيتشيه حيث طغت عليه النزعة التشاؤمية، في حين يعتبر الفيلسوف الأمريكي وليام جايمس المؤسس الفعلي للبراجماتية، الذي أصدر أول كتبه بعنوان "مباديء السيكولوجيا" مكرسًا فيه قناعته بضرورة انحسار طموحات الفلسفة من الكون في الإنسان، ومطلقًا نظريته البراجماتية التي لم تتجاوز كونها مجرد واحدة من نظريات المعرفة.
ولم تكن نظرية جايمس لتقاوم وتستمر إلى الآن لولا التطوير الذي أدخله عليها الفيلسوف فرديناند كانغ سكوت شيلر (1864 – 1934). الذي أطلق ما عرف باسم "البراجماتية الإنسانية". وهو يعتقد أن إنسانية نظريته تعود إلى الأهمية المركزية للإنسان فيه، فقد حافظ شيلر على مبدأ جايمس بالحكم على قيمة المعرفة من خلال منفعتها، وبما أن الإنسان هو الحكم على هذه المنفعة، فإن شيلر يعطيه مكان الصدارة في التفلسف، بحيث يشارك فيه بحسه وعقله وإدراكاته وحتى وجدانه، وبذلك يعتبر شيلر أن الإنسان هو المركز الكامل للعالم الفكري، جامعًا بذلك بين اكسيولوجية بروتاغوراس (القائلة بأن الإنسان هو المرجع في الأمور جميعها) وبين تشاؤمية نيتشيه (القائل بأن الإنسان هو حيوان لن نصل يومًا إلى فهمه).
وانطلاقًا من أهمية الإنسان في هذه النظرة، اعتبر شيلر أن مذهبه هو "المذهب الإنساني للبراجماتية"، وبهذا فهو يسمح لنفسه باستبدال أحكام "الوجود" بأحكام "القيمة"، وهكذا تتحول الحقيقة إلى مجرد أداة للعمل (بعد أن فقدت اطلاقيتها وتجريديتها) وهي لاتصبح واقعة إلا بفعل الإنسان فيها، وقبل متابعة شرحنا لنظرية شيلر نود إيراد الخلاصة العملية لهذه النظرية، والتي تنعكس بوضوح على نمط الحياة الأمريكي، حيث يمكن اختصارها بالمبادئ التالية:
1- يجب احترام جميع المعتقدات حتى ما يبدو لنا منها باطلا، بشرط أن يكون أصحابها صادقين ومخلصين لها.
2- يجب الابتعاد عن مواقف التشيع والانحياز.
3- يجب الابتعاد عن المواقف التحزبية.
4- يجب الابتعاد عن مواقف العنصرية والتمييز وتجنبها.
5- يجب اعتماد قيم التسامح والشمولية الإنسانية.
وبالرغم من قائمة الأسئلة التي تثيرها هذه المبادئ، والتي نؤجل مناقشتها، فإننا نلاحظ أن هذه المبادئ هي المعتمدة كأساس لليبرالية الأمريكية، أما عن نمط التفكير الداعم والمرافق لتطبيق هذه المبادئ، فيلخصه شيلر عبر تصنيفه للاعتقادات التي يعتبرها أداة قمع اجتماعية أو سلطوية، بحيث يجب الخلاص من تأثيرها، وعلى طريق هذا الخلاص فإنه يصنفها إلى:
1. الاعتقادات الضمنية التي لانجاهر بها ولا نناقشها.
2. الاعتقادات الجدلية، وهي غير مستقرة، لكننا نسلم بها عن بينة.
3. أنصاف الاعتقادات – وهي غير ثابتة (غالبا" دينية برأي شيلر).
4. الاعتقادات الموهمة، وهي إيحائية الطابع.
عبر هذا التصنيف يبين لنا المذهب الإنساني لااطلاقية المعتقدات، وعدم اضطرارنا للاستسلام لها كأداة بطش اجتماعية أو سلطوية، وتاليًا فإننا لسنا عبيدًا لمعتقداتنا، فنحن أحرار في اختيارها وتعديلها، بما يتناسب مع طموحاتنا الفردية، ورغبتنا في تعديل البيئة (الواقع) وفق غاياتنا، ونحن إذا ما قررنا دعوة شيلر للخلاص من سلطة الاعتقادات، وجدنا أنه المؤسس الحقيقي لدعوة العولمة الراهنة، فالخطوة الأولى لتطبيق نظام السوق (العولمة) تبدأ من إلقاء الاعتقادات جانبا، لأن الخلاص من سلطتها شرط رئيس لليبرالية الأمريكية التي أرسى شيلر مبادئها، وبذلك يحق لنا الاعتقاد بأن كتاب شيلر المنشور عام 1929م تحت عنوان "منطق للاستخدام" هو المقدمة الفكرية للعولمة، مما يجعل من مناقشة هذا الكتاب وأفكار مؤلفه عامة، مناقشة للينابيع الفكرية وللإرهاصات الأولى للعولمة، ولعله من المفاجئ أن الباحثين العرب المتصدين لمناقشة العولمة، لم يتطرقوا إلى هذا الجانب الفكري منها.
مناقشة البراجماتية الإنسانية:
ولكن هل تفضي هذه المنطلقات إلى حرية العيش الإنساني؟ فلو سلمنا بأن الإنسان يصنع واقعه بنفسه، فإننا سنقع في إشكاليتين ميتافيزيقيتين هما:
أ- عدم كمال الواقع،
ب- إطلاقية حرية الفعل الإنساني
وشيلر يتجاهل الإجابة على هاتين الإشكاليتين؛ ليرى أن حرية الإنسان هي أمر واقع لأنها غير محدودة بواقع ثابت (لأن العالم غير ثابت لذلك فهو يتغير ويتطور باستمرار مغيرًا معه الواقع). في المقابل نجد أن شيلر لاينكر الحتمية، لكنه يجد البينة على محدوديتها في نتائج أبحاث الفيزياء الكوانتية. التي أثرت الفلسفة، وقدمت لها أداة ثمينة لاستيعاب منهج العلم وطبيعة المعرفة.
مما تقدم نلاحظ أن الإغراق في الجانب النظري لآراء شيلر، يحجب عن البعض علاقة هذا المذهب بدعوة بداية القرن 21 (وما العولمة إلا واحدة من تجلياتها) لكن الخلاصة التالية توضح لنا بجلاء هذه العلاقة وهي اختصارا" التالية:أن عدم تمام العالم، وحاجته إلى التطور تحولان الواقع إلى عدم الثبات وإلى إمكانية التحكم به وتشكيله، بحيث يمكننا أن نصنع منه ما نشاء، بل إننا نبدل فيه، ونبتدع منه على الدوام ودون توقف، وبما أن عالمنا مستمر في نموه وتطوره فإن عملية ابتداعنا للواقع غير قابلة للتوقف أو الانتهاء، وبذلك يكون المستقبل مجموعة ممكنات (أو احتمالات) يمكننا أن نحول بعضها إلى واقع وبعضها الآخر إلى مستحيل (المستقبليات من تجليات هذا المذهب) أما عن اتجاه هذا التحويل فهو يتعلق بعوالمنا الفردية ومنها الاعتقادات المصنفة أعلاه.
ونعود إلى مبادئ نمط الحياة الأمريكية لنناقشها واحدة بعد الأخرى ولنبدأ ب:
1- احترام معتقدات الغير شرط أن يكون صادقا في اعتناقه لها.
وهنا يُطرح السؤال الآتي: مَن يحدد هذا الصدق ومقداره؟ ومَن يتولى مهمة توزيع المعتقدات وفق تصنيفاتها المذكورة أعلاه؟ وغموض الأجوبة على هذه الأسئلة يكاد يساوي شرعية احتقار آراء الغير ومعتقداته (لدرجة إلغائها) إن هي لم تتوافق مع معايير التصنيف وفق رؤية الطرف الأقوى لها!. بل إن سؤالا أكثر جذرية يطرح نفسه وهو: هل تعني الحرية الإنسانية وجوب الحصول على الاعتراف بالمعتقدات؟ وإذا كان ذلك واجبًا، فمَن هي الجهة المانحة لهذا الاعتراف؟ وما هي الإثباتات والقرائن الواجب على صاحب الاعتقاد تقديمها لنيل هذا الاعتراف؟ وإذا كان هذا المذهب شريكًا للسيكولوجيا (شراكة الموضوع وهو الإنسان) فإننا نسأله عن سبب إهماله للغرائز الإنسانية، وهي محركات أكثر فعالية من الاعتقادات. فماذا عن غرائز البقاء واستمرارية النوع لدى شعوب يأكلها المرض والمجاعات؟! فتتعرض لمساومات تبديل اعتقاداتها حتى يسمح لها بالاستمرار في الحياة! فهل هذه هي الليبرالية؟!
2- الابتعاد عن مواقف التشيع.
ألا يتعارض هذا المبدأ مع أبسط المعطيات التاريخية والإنسانية؟ ماذا فعلت البشرية عبر حربين عالميتين وعبر آلاف الحروب الصغيرة؟ وماذا عن مبدأ الأحلاف (الاقتصادية والعسكرية والعرقية...إلخ)؟ ألا تندرج هذه جميعها في خانة التشيع؟
3- الابتعاد عن الحزبية.
والحزبية هي المصطلح السياسي لما تطلق عليه السيكولوجيا تسمية الانتماء، والانتماء مرادف للحياة واستمراريتها، هذا دون أن نتجاهل الإشارة المحقة لشيلر حول أعباء الانتماء وتبعاته الثقيلة على طموحات الفرد، إلا أن "اللاانتماء" يعني "فقدان الاعتراف" وهي أزمة وجدانية تهون أمامها إعاقة الطموحات.
4- الابتعاد عن العنصرية والتمييز.
وهو ما يكتسب راهنا تسمية الحقوق المدنية، وهو شعار إنساني رائع إذا توصلت البشرية لوضع المعايير العالمية له، أي المعايير الصالحة للتطبيق بدون تمييز يقوم على عوامل المصالح، فالواقع يشير إلى أن أغنياء المعلومات هم الذين يفرضون معايير الحقوق وفق مصالحهم، في حين يدفع فقراء المعلومات فواتير هذا الخلل المعياري، بما يقود للتأكيد على أن ازدواجية المعايير هي عنصرية متطورة تهون أمامها العنصرية التقليدية.
5- اعتماد قيم التسامح الإنساني.
وهنا نتساءل عما إذا كان السباق على مشاريع الدمار الشامل وجهود احتكارها هو مظهر تسامحي؟! أم أن التسامح يتجلى في الحروب الرمزية، حين تستخدم القوة العسكرية بكل طاقتها وتسيل الدماء بدون الحاجة لمجرد إعلان الحرب؟
مما تقدم نستطيع استنتاج الباعث الحقيقي على الفوارق القائمة في تطبيق مبادئ الليبرالية، ما بين داخل الولايات المتحدة وخارجها، وعندها يمكننا القول بأن المواطن الأمريكي ليبرالي لغاية تلقيه إيحاءات إعلامية عن وجود تهديدات للمصالح الأمريكية، وبالتالي لمستوى الرفاهية الذي يعيشه، فعندها فقط يتحمس الأمريكي لتخطي الليبرالية! وبمعنى آخر فإن الليبرالية ونمط الحياة الأمريكية هما مجرد خدعة إعلامية.
وتجنبا للإغراق في النظري، نجد من الواجب تقديم لمحات تطبيقية عن السلوك الأمريكي العام إبان الأزمات؛ لأن السلوك المأزمي هو خير مدخل للاطلاع على مكونات الشخصية.
يتبع >>>>>>>: التحليل النفسي للشخصية الأمريكية2
واقرأ أيضًا:
هل الثورات العربية خطة أمريكية؟ / الشباب العربي وملامح ثورة جديدة / كيف نفسـر الثورة التونسية؟ / سيكلوجية الشعوب بعد ثورة الشباب المصرية