مراجعة نقدية:
مضى زمن طويل على نشأة الدعوة إلى علم نفس إسلامي، فمنذ أن نشر محمد عثمان نجاتي كتابه عن الإدراك الحسي عند ابن سينا عام 1949م ثم نشر بعده عبدالكريم العثمان كتابه عن ((الدراسات النفسية عند المسلمين)) عام 1962م والدعوة إلى تأصيل علم النفس إسلامياً يتردد صداها في أروقة البحث العلمي. وفي السنوات الأخيرة زادت العناية بهذا الموضوع وتطورت الدعوة إلى حركة واسعة صار لها أدبياتها الخاصة بها، وأصبح التأصيل مقرراً يدرسه طلاب علم النفس في أكثر من جامعة، ونشأت جمعيات وروابط علمية ومؤسسات تعنى بالتأصيل[1]، وأقيم كذلك عدد من المؤتمرات العلمية[2] لهذه الغاية.
أما البحوث والكتب التي نشرت فهي كثيرة ولاسيما بعد عام 1400هـ، إذ حجم ما نشر بعد هذا العام يفوق جميع ما نشر من قبل بأضعاف مضاعفة. وحسب دراسة نشرها محمد عبدالله الغامدي (1400هـ) بلغ ما نشر من بحوث ودراسات حول التربية الإسلامية قبل عام 1400هـ 525 بحثاً، كان منها 70 عنواناً عن علم النفس. وفي قائمة ببلوجرافية منتقاة لمحيي الدين عطية (1416هـ) عما نشر من بحوث وأطروحات ومقالات باللغة العربية عن تأصيل العلوم السلوكية (علم النفس وعلم الإنسان وعلم الاجتماع) في ست سنوات تقريباً فيما بين عامي (1400 – 1406هـ) فقط بلغت 302 عنواناً، منها 64 عنواناً خاصاً بعلم النفس.
هذه الحركة الواسعة تحتاج بين الفينة والأخرى إلى دراسة نقدية تقوم مسارها وترسم معالم مستقبلها. والدراسات النقدية المنشورة عنها (لا زالت) نادرة، ورغم البحث الدؤوب لم يستطع الباحث الحصول على دراسة نقدية حديثة لحركة التأصيل الإسلامي. ومن هنا جاءت هذه الدراسة لتسد ثغرة في مجال نقد حركة التأصيل.
إن حركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس تشعبت مع تشعب فروع علم النفس، ومن العسير التناول النقدي الشامل لجميع جوانبها في بحث موجز كهذا، ولهذا سوف يقتصر هذا البحث على ما قدم في حركة التأصيل في خمس قضايا هي:
1 - مشكلة المصطلح وتطوره.
2 - نظرية المعرفة.
3 - نقد علم النفس الغربي.
4 - مفهوم النظرية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس.
5 - شروط التأصيل الإسلامي لعلم النفس.
وهذه القضايا الخمس بمثابة المقدمات الضرورية لعملية التأصيل في علم النفس، وسلامة التصور فيها شرط لسلامة التأصيل ذاته.
مشكلة المصطلح وتطوره:
من أولى المعضلات التي يعاني منها المشتغلون بالتأصيل مسألة الاسم ودلالته، فعبر أكثر من نصف قرن تعددت المصطلحات التي استعملها الباحثون في التعبير عن إعادة صياغة علم النفس صياغة إسلامية كما تعددت أيضاً تصوراتهم حول هذه المهمة، وقد أحصى كمال مرسي (غ م) أربعة مصطلحات شاع استعمالها بين الباحثين وهي:
1 - علم النفس الإسلامي.
2 - أسلمة علم النفس أو إسلامية علم النفس.
3 - التأصيل الإسلامي لعلم النفس.
4 - التوجيه الإسلامي لعلم النفس.
وقد أضاف الباحث مصطلحاً خامساً استعمله بعض الباحثين وأصبح اسماً مكرراً في بعض الجامعات، وهذا المصطلح هو:
5 - التفسير الإسلامي للسلوك.
وهذا عرض لكل مصطلح على حدة، وبيان المقصود به كما يعني عند من يستعمله ثم مناقشة لهذا المفهوم وبيان موقف الباحثين الآخرين منه.
1 – علم النفس الإسلامي:
ليس واضحاً لدينا من أول من استعمل هذا المصطلح، ولكن فيما بين يدي الباحث من مراجع يجد أن أول من استعمله هو محمد عثمان نجاتي في تقديمه لكتابه ((الإدراك الحسي عند ابن سينا)) المنشور عام 1948م، ولا يجد الباحث تعريفاً واضحاً عنده لهذا المصطلح، ويبدو أنه يقصد به التراث النفسي الموجود في الحضارة الإسلامية، وإن صح هذا فدلالته عنده لا تتجاوز الدلالة التاريخية.
أما أول من نجده حاول تعريف هذا المصطلح فهو أحمد فؤاد الأهواني في تقديمه لكتاب عبدالكريم العثمان (1981م) ((الدراسات النفسية عند المسلمين))، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1962م، وحدده بأنه فرع علم النفس الذي يدرس السلوك الإسلامي، فهو إذن لا يعدو عنده عن أن يكون فرعاً من فروع علم النفس الديني. يقول الأهواني: "وما دمنا قد أفسحنا المجال لدراسة الظواهر الدينية نفسانياً، فلا غرابة أن نقول بوجود علم نفس إسلامي، كما نقول بوجود علم نفس بوذي أو نصراني، لاختلاف خصائص كل دين من هذه الأديان"(ص5).
وقد استعمل هذا المصطلح محمد رشاد خليل (1407م) في الدلالة على مفهوم مضاد تماماً للمفهوم الذي استعمله له الأهواني، فإذا كان علم النفس الإسلامي عند الأهواني أحد فروع علم النفس الديني فهو عند خليل ذو هوية مستقلة عن علم النفس الغربي، بل إن خليلاً يرفض التسليم بوجود علم نفس إذا لم يكن قائماً على أصول إسلامية، فعلم النفس القائم الآن ذو المنزع الغربي مرفوض عند محمد رشاد خليل ولا يستحق أن يطلق عليه هذا الاسم ((علم النفس)).
هذا عن المصطلح واستعمالاته، أما عن مواقف الباحثين منه فقد تباينت فمنهم من رفض المصطلح نفسه ومنهم من تحفظ على محتوى المصطلح أو دلالته. والمعنى الذي قصد إليه الأهواني مرفوض عند كثير من الباحثين ولاسيما بعد تطور مفهوم علم النفس الإسلامي، فلا أحد الآن من المعنيين بعلم النفس الإسلامي يقبل أن يكون ما يسعى إليه هو مجرد فرع لعلم النفس الديني هدفه دراسة السلوك الديني فقط، بل لا يرضى أن يكون فرعاً من فروع علم النفس الحديث لاختلاف المناهج والأهداف والتصورات المعرفية عند كل منهما. ويرى هؤلاء – كما سوف نرى في استعراض بقية المصطلحات – أن ما يسعون إليه يهدف إلى تصحيح علم النفس القائم فكيف يكون فرعاً له.
والبعض ينازع في صفة ((الإسلامي)) فلا يرى أن تضاف إلى علم النفس ويرى هؤلاء أن لا معنى لتخصيص هذا الفرع من فروع المعرفة بالإسلام، ويسألون في عجب قائلين: ترى هل معنى ذلك أن فروع المعرفة الأخرى التي لم توصف بالإسلامية كافرة؟
وإذا كان التحفظ على المعنى الذي ذكره الأهواني يحظى الآن بالقبول من المشتغلين بالتأصيل فإن التحفظ الذي ذكره من ينازع في وصف علم النفس بـ((الإسلامي)) لا زال موضع جدل بين الباحثين. ويرى الباحث أنه مع التسليم بوجاهة الاعتراض إلا أنه لا يرى مانعاً في الوقت الحاضر من استعمال مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) علماً على ما تنتجه حركة التأصيل وعلى ما تسعى إليه. والمبرر لهذا ظرفي فقط، وإذا زال زال معه الحكم.
حقيقة لا يوجد علم كافر وآخر مسلم، وإنما توجد نظريات صائبة وأخرى خاطئة، والأصل في العلم أن يكون صواباً متفقاً مع الشريعة، وإذا كان يعارضها فقد انتفت عنه صفة العلمية، وانحط إلى رتبة الجهل أو الضلال والهوى – أي إنه لم يعد علماً قط. ومن ثم فلا معنى لتمييز علم عن آخر بوسم الإسلامي؛ هذا هو الأصل، أو هو ما ينبغي أن يكون ولكن الواقع بخلاف ذلك، حيث إننا نجد علماً بل علوماً مبنية على تصورات منحرفة معارضة للشريعة الإسلامي ومع ذلك لم يسلبها ذلك صفة العلمية عند الكثير بل إنها تدرس في بلاد المسلمين ودور علمهم بصيغها المنحرفة، وبما أن التصور البديل لا زال طفلاً يحبو والتصور الغالب هو التصور المنحرف فلابد من تمييز هذا الوليد الناشئ عن التصور السائد.
وهذه التسمية ليس هدفها تمييز تصور عن آخر فحسب، وإنما لها وظيفة أخرى هي أنها إصبع اتهام مشهور على علم النفس الآخر، لا يزال يذكر بخطئه وينادي بالبديل عنه. لهذا لا يرى الباحث في الوقت الراهن مانعاً من استعمال مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) عَلَمَاً على علم نفس جديد يبنى على أسس إسلامية. هذا فيما يتعلق بالمصطلح، أما فيما يتعلق بما يراه محمد رشاد خليل من رفض علم النفس الغربي جملة وتفصيلاً ونفي صفة العلمية عنه، فهذه مبالغة لا تثبت أمام النقد العلمي لأن علم النفس الغربي ليس خطأ صرفاً، وسوف يناقش الباحث المقبول والمردود من علم النفس فيما بعد ضمن الحديث عن نقد علم النفس الغربي.
المراجع:
الغامدي، محمد عبدالله (1400هـ). قائمة بدراسات في مجال التربية الإسلامية: مجلة كلية التربية، (جامعة الملك عبدالعزيز) 5، 131 – 216.
عطية، محيي الدين (1416هـ). أسلمة العلوم السلوكية: علم النفس، علم الإنسان، علم الاجتماع، قائمة ببلوجرافية منتقاة. (ذكر في): المعهد العالمي للفكر الإسلامي. المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية: بحوث ومناقشات المؤتمر العالمي الرابع للفكر الإسلامي، ج2. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 1183 – 1226.
مرسي، كمال إبراهيم (غير منشور). محاضرات في مدخل التوجيه الإسلامي.
نجاتي، محمد عثمان (1980م). الإدراك الحسي عند ابن سينا: بحث في علم النفس عند العرب. ط3. بيروت دار الشروق.
العثمان، عبدالكريم (1981م). الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص. ط2. القاهرة: مكتبة وهبة.
خليل، محمد رشاد (1407). علم النفس الإسلامي العام والتربوي: دراسة مقارنة. الكويت: دار القلم.
[1] من المؤسسات العلمية التي نشأت لهذا الغرض:
أ – ((جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين)) أنشئت في أمريكا عام 1392هـ، واعتنت بتوجيه علم النفس توجيهاً إسلامياً وأقامت عدداً من المؤتمرات لهذا الغرض، ولها مؤتمر سنوي ودورية فصلية.
ب – ((الجمعية الإسلامية العالمية للصحة النفسية)) أنشئت في مطلع القرن الخامس عشر تقريباً في عام 1983م، ولهذه الجمعية نشرة شهرية بعنوان ((النفس المطمئنة))، كما أن لها مؤتمراً عاماً كل سنتين، وقد عقدت مؤتمرها الأول في لاهور بباكستان عام 1985م.
ج – المعهد العالمي للفكر الإسلامي أنشئ في أمريكا عام 1401هـ للعناية بأسلمة المعرفة والعلوم الإنسانية خاصة. ورفع المعهد شعار الأسلمة، وتحته عقد عدد من المؤتمرات واللقاءات والندوات، من أهمها المؤتمر المعقود في كراتشي، باكستان تحت عنوان إسلامية المعرفة عام 1402هـ (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1408).
[2] من المؤتمرات التي عقدت لهذا الغرض بالإضافة إلى المؤتمرات السنوية التي تعقدها بعض الجمعيات السابق ذكرها في الهامش السابق:
أ – ندوة ((علم النفس والإسلام)) عقدتها كلية التربية بجامعة الملك سعود في مدينة الرياض عام 1398هـ.
ب – ندوة ((التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية)) أقامتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض عام 1407هـ.
ج – مؤتمر ((التوجيه الإسلامي للعلوم)) أقامته جامعة الأزهر بمصر مع رابطة الجامعات الإسلامية عام 1413هـ.
المصدر: مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد 22، السنة 22، ص469-506
يتبع............ : التأصيل الإسلامي لعلم النفس2
واقرأ أيضًا:
الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر / فاعلية العلاج النفسي الديني في الوسواس القهري(2) / التغيرات العصبية الدماغية المصاحبة للخبرات الدينية / الدين والطب النفسي مشاركة