متى نستطيع أن نقول بالفعل لشخص آخر "أنا أفهمك" أو "أشعر بما تحس به" أو "أفهم ما يدور بداخلك"... عندما نكون حساسين.
التعاطف Empathy هو أكثر من مجرد المشاركة الوجدانية Sympathy -إنه القدرة على الإصغاء والتبصر بهدف التعرف على أفكار ومشاعر الآخر. وتعد هذه القدرة مولودة وليست مكتسبة ومع ذلك فإننا قليلاً ما نستخدمها.
"أشعر بخوفكم" I can feel your pain، قالها بل كلنتون بعيون مغرورقة بالدمع في حديث مع أسرة إحدى ضحيا انفجار. وفي هذه الجملة، التي كان ينطق بها بصور مختلفة في مناسبات مشابهة، يعتقد المراقبون والمحللون أنهم اكتشفوا سر الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية؛ والذي يتمثل في الموهبة الخاصة بمنح الناس الشعور بأنه يفهمهم. حتى أن معارضوه السياسيون وصفوه بالجذاب المتعاطف empathically Charmer ، وبأنه منفتح على الآخر (وليس على النساء فحسب)، ويبحث عن التقارب الجسدي وينظر بعمق في عينيه، ويشد على يديه بحرارة ويبث له: أنا مصغ لك بالفعل، أنا مهتم بمشكلتك! ويبدو أن كلينتون كان يستخدم هذه القدرة أو المهارة حسب الحاجة في مقابلاته الشخصية.
ولكن هل هذا الشعور هو التعاطف Empathy أم مشاركة وجدانية Sympathy الذي يتم الخلط بينه وبين المفهوم الأشمل والأوسع التعاطف (التماهي العاطفي) في كثير من الأحيان؟
التعاطف أكثر من مجرد الإحساس العفوي بالآخر، الذي يغمرنا أو يستحوذ علينا استناداً لمشاعر الآخر، وقد يدفع أعيننا لذرف الدموع. فالمشاركة الوجدانية هي مجرد مرحلة سابقة للتعاطف. فعندما نشارك الآخر وجدانياً نتذكر كيف "يكون" الحزن أو السعادة أو الحنق إننا نتقاسم هذه الخبرات ويمكننا لهذا أن نعزي أنفسنا، أن نفرح أو نتوتر. وهكذا ينشأ بين الناس تشارك مصبوغ بالانفعال أو المشاعر، إلا أنه من حيث المبدأ تشارك سطحي. إلا أن التعاطف أكثر من مجرد التشارك الوجداني. إنه يصف القدرة على فهم خبرات الآخر والاستجابة بناء على هذا الفهم بالشكل المناسب.
التعاطف ليس مجرد المشاركة في المشاعر فحسب إنه يحاول فهم ما هو كامن خلف هذه المشاعر. لهذا يشترط التعاطف الإصغاء الدقيق والملاحظة الدقيقة. فإذا أردنا أن نكون متعاطفين فإننا نريد أن تفهم بدقة ما الذي يجري في الآخر. لهذا نحاول أن نرى العالم بعيونه "أن نرتدي حذائه". وهذا التبديل للمنظور (والتخلي العابر عن منظورنا) يفتح لنا تفهماً يتجاوز المشاركة الوجدانية لآخر. وبمجرد نستطيع "قراءة"، ما الذي يفكر فيه الآخر ويحسه وما ينويه وما هي الدوافع والعقد التي دفعه وهو موقفه نحونا، عندئذ يمكننا أن نتعاطف معه.
وهذا يعني: أننا نستطيع عندئذ مساعدته -أو حتى حماية أنفسنا من نواياه ومخططاته. إذ أنه يمكن استخدام التعاطف لصالح الآخر أو لإلحاق الضرر به. فمن يعرف بشكل جيد ما "يدور" في رأس المحيطين به فإنه لا يستطيع نصحه أو حمايته فحسب وإنما توجيهه واستغلاله.
ويعرف باحث التعاطف وليم إكس William Ickes القدرة التعاطفية على النحو التالي: الاحتضان التعاطفي (من الذات نحو الآخرين) ليس أكثر من شكل من قراءة الأفكار الذي نمارسه في حياتنا اليومية.... إنه على ما يبدو ثاني أكبر الإنجازات القادر عليها دماغنا، حيث أن الوعي نفسه هو الإنجاز الأكبر، فالتعاطف يمكِّننا مشاركة الآخرين حياتهم وتوسيع أنفسنا وبالحرف تجاوز حدودنا. فمن خلال تجاوز تفكيرنا لذاتنا وونضع أنفسنا مكان الآخر فإننا لا نوسع عالم رؤيتنا فحسب وإنما أيضاً فهمنا لأنفسنا. التعاطف هو الرابطة التي تربطنا بالآخرين -إذ كنا سنكون بدون التعاطف إما فردانيين أو منغلقين، منغلقين على أنفسنا. وبدون التعاطف لا يمكن أن يوجد التفهم، ولا علاقات دائمة ولا حميمية بين الناس.
ويمكن اعتبار التعاطف Empathy كفاءة أو قدرة مهمة من أجل البقاء مبرمجة في دماغنا -سواء في "دماغنا الانفعالي" أم في أم في الجهاز اللمبي أم في قشرتنا الدماغية Neo cortex. فالجهاز اللمبي وبشكل خاص اللوزة amygdale تستجيب للمحيط بشكل سريع وانفعالي: إما بالهرب أو المواجهة، بالدموع، بالشره والطمع أم بالرغبة. وفي مجرى ملايين السنين من التطور المستمر تشكلت القشرة الدماغية لتصبح الجهة المسؤولة عن التفكير والاستجابة. وتعمل القشرة الدماغية المرتبطة بصورة وثيقة مع جذع الدماغ الأقدم من الناحية النشوئية بشكل أبطأ من جذع الدماغ. إذ أن وظيفتها هي التفكير والاختبار وعكس الواقع المعقد. فالقشرة الدماغية تعمل بشكل يشبه المكابح بالنسبة للاستجابات الآلية المتسرعة في الغالب لجذع الدماغ.
وبالتدريج تطورت من الانفعالات الأساسية كالخوف والحنق والفرح والحزن أشكال أكثر تمايزاً من التعبير: فمن الحنق "المجرد" تطورت مشاعر معقدة كالغضب أو الغيظ، الرثاء أو الخجل؛ ومن الرغبة نشأ الحب، الحنان، ومشاعر الانتماء. وقد أصبح مهماً بالنسبة للحياة المشتركة التعرف على هذه المشاعر وتفسيرها بشكل صحيح.
وضمن الظروف العادية يعيد الإنسان تاريخه التطوري في سنواته الأولى من العمر: فحتى المواليد الجدد يستجيبون لبكاء الأطفال الآخرين ويبدءون هم أنفسهم بالبكاء. على نحو يمكن تسميته "بالعدوى الانفعالية"، وفي عمر الشهرين يبكي الطفل عندما يرى دموع الغرباء، أو يستجيب بابتسامة. فالأطفال فهم يمكنهم في وقت مبكر التعرف على المشاعر و"يعكسون"، في أية حال المشاعر "البسيطة" فحسب، كالفرح أو الحنق أو الحزن، وليس المشاعر المعقدة كالخجل أو الازدراء.
وفي عمر السنوات الست يدرك الأطفال أنه يمكن أن يكمن خلف التعبير عن شعور ما شعور آخر مختلف كلية. وفي عمر السبع سنوات يفهمون المواقف المعقدة، التي تظهر فيها مشاعر على نحو الغيرة والذنب والفخر أو التواضع. وبالتدريج يصبح لهم أيضاً دور الدوافع والمقاصد الكامنة خلف تعبير ما أكثر وضوحاً. وبين سن التاسعة والحادية عشرة يمكن للأطفال أن يتعرفوا من الإشارات غير اللفظية إذا أراد شخص ما خداعهم أو خداعهم واستغلالهم.
ويحتل التعبير عن المشاعر في السنوات الأولى من الحياة أهمية كبيرة بالنسبة لنمو التعاطف: إذ علينا أن نكتشف مشاعرنا عبر مرآة والدينا -علينا أن نتعرف على أحاسيسهما كي نفهم مشاعرنا، كي نبني عالم مشاعرنا الخاص. فعندما نضحك ولا واحد يضحك معنا، وعندما نبكي ولا يبكي أحد يواسينا، فلن يتم "توكيد" أو "برهان" مشاعرنا. وبالتدريج نحصل على صورة مشوهة لعالمنا الداخلي، لذاتنا. ولكن في حال استجاب الوالدان تعاطفياً فإننا نشعر بأننا مقبولون وننظر لانفعالاتنا (والتعبير عنها) بأنها مقبولة و مبررة أو مشروعة. وأخيراً فإننا نتمثل الاهتمام التعاطفي المتمثل في أننا نصبح غير متعلقين "بالانعكاسية"، أي باستجابات الوالدين الانفعالية علينا، وأننا نحن أنفسنا نستطيع أن نواسي أو نعزز أو نشجع أنفسنا بأنفسنا.
"أعرف ما الذي تحس به"، "أعرف ما يدور بداخلك"، مثل هذه الجمل تساعدنا في بعض المواقف، إنا تعبر عن الحساسية Sensibility والمشاركة الوجدانية Sympathy، إلا أن التعاطف أكثر من مجرد هذا: فعندما نكون متعاطفين فإننا لا نمتص بصورة سلبية Passive المشاعر التي يعيشها الآخر الآن فحسب، إذ أن التعاطف أكثر من مجرد نوع من الواقع التقديري الذي نفكر ونشعر فيه كما لو كنا مكان الآخر.
فالتعاطف يسأل: ما الذي يعنيه شعور ما؟ ما الذي أراه من خلال التبصر في العالم الروحي للشخص الآخر؟ لهذا يتطلب التعاطف -إلى جانب كل التشارك والإحساس بالآخر- درجة معينة من البعد. ويقول وليم إكس في هذا الصدد: التعاطف عبارة عن استنتاج مركب ترتبط فيه الملاحظة والذاكرة والمعرفة والتفكير من أجل الوصول لاستبصار في مشاعر وأفكار الناس الآخرين.
فمن يكون تعاطفياً أو متعاطفاً لا يذوب في مشاركة المشاعر أو لا يشارك الآخر الغضب والفرح. التعاطف يعني التعلم من الحوار - والتصرف بعد ذلك. التعاطف ليس هدفاً بحد ذاته. إذ أننا بمساعدته نوسع معرفتنا وذخيرتنا السلوكية ونحسن تفهمنا للعالم والبشر كي نتمكن من حل المشكلات بشكل أفضل وتجاوز الأزمات والتعرف على الأسباب الأعمق.
التعاطف ليس أمراً احترافياً مقصوراً على المعالجين النفسيين أو الأطباء وإنما هو جزء من الذكاء الانفعالي الذي يجعل من العيش المشترك ممكناً ومحمولاً في الحياة اليومية ويوسع في الحالات المثلى التفهم والتسامح والنجاح عند أولئك الذين يمارسونه.
إلا أنه لابد من التمرن على هذه القدرة أو المهارة المولودة وتحسينها وتطويرها، ولابد من عدم تركها تذبل أو تجميدها على مرحلة المشاركة الوجدانية.
التعاطف عمل نفسي أو جهد نفسي، أبعد من مجرد إحساس: "تسلق الجبال أو الوصول بالتعاطف نحو الكمال كلاهما عمل شاق ومرهق... فمن أجل الوصول للقمة نحتاج إلى نقاط استناد كثيرة ومعالم طرق كثيرة"، كما يذكر عالمي النفس الاجتماعيين سارة هودغس ودانييل فيغنير Sara Hodges & Daniel Wegner.
فالمستمع المتعاطف يستجيب لكل موقف بحساسية، ولا ينساق وراء القوالب الجامدة والأحكام المسبقة، ويسجل أدق التغيرات وأقل الأصوات انخفاضاً. وإلى جانب التدريب يتطلب التعاطف ومعرفة الذات التركيز والانتباه بشكل خاص. ويطلق بعض الباحثين على هذا الانعتاق من فيض الشعور بوصفه "الأنا المُراقِب" تسمية ما وراء الاستعراف Meta cognition. وقد نصح سيجموند فرويد باتجاه مشابه نحو العمل العلاجي -الانتباه المُحلِّق بشكل حيادي. ويفضل بعض النفسانيين استخدام مفهوم "الوعي" والانتباه اللامتحيز للحالات النفسية للآخر والذات. ويعد هذا الانتباه الشرط الأولي للتعاطف.
ومن أجل إيجاد المدخل التعاطفي للآخرين علي في البداية ملاحظة أحاسيسي وسلوكي أنا: طيف أعبر أنن نفسي عن أفكاري ومشاعري كي أصل لقلب وعقل الآخر؟ كيف أظهر بالشكل الأمثل بأني "أفكر معه" بالفعل وأرغب بمساعدته؟.
يتبع............ التعاطف2
واقرأ أيضًا:
التوازن النفسي/ ازدواجية العواطف / المنظومات السلبية النفسية