يقول هنري مري في وصفه للمنظومة النفسية داخل الشخصية: "الشخصية أشبه بمؤتمر كامل يضم عددا كبيرا من الأفراد, منهم الخطباء وجماعات الضغط والأطفال, ومنهم الغوغائيون والشيوعيون والانعزاليون وتجار الحروب, وفيهم المستقل والمحافظ ومبتز الأموال ومقايض الأصوات, وبينهم أشباه قيصر والمسيح وميكيافيلي ويهوذا وبرومثيوس الثوري".
فمن المعروف أن النفس ليست شيئا واحدا وإنما هي عدة كيانات تتناغم أو تتصادم أو تتكامل مع بعضها, وحصيلة تفاعل هذه الكيانات هو الذي يحدد حالة الصحة النفسية من عدمها, وقد اختلفت تسمية هذه الكيانات من مدرسة لأخرى, ففي مدرسة التحليل النفسي نجد الـ"هو" (الجزء من الشخصية الملئ بالرغبات الجنسية والعدوانية غير المقبولة اجتماعيا), والـ"أنا الأعلى" (الجزء من الشخصية الذي يحتوى على القانون الديني والأخلاقي ويهتم بموضوعات الحرام والحلال والصحيح والخطأ من المنظور الأخلاقي), وبين هذين الكيانين المتباعدين يوجد "الأنا" (وهو الجزء الوضوعي المحايد في الشخصية فهو يهتم بالحقائق الموضوعية ويركز على الجوانب الواقعية وعلى حسابات المكسب والخسارة, ويقوم بالتوفيق بين رغبات الأنا المندفعة والخطرة والمرفوضة اجتماعيا وبين احتياجات الأنا الأعلى وواقع المجتمع, أي أنه يشكل عامل التوازن داخل الشخصية).
والتركيبة النفسية للشخصية تتوازن بوجود هذه الكيانات في حالة توازن وتفاعل, فإذا طغت إحدى هذه الكيانات على الأخرى أو استبعدتها أو أضعفتها هنا ينتج الاضطراب, فمثلا إذا طغى الـ"هو" وجدنا الشخص منفلتا نزويا عابثا أو عدوانيا, وإذا طغى الأنا الأعلى وجدناه متشددا متعصبا صارما متجهما مكبلا وكابتا لقوى النفس, وإذا طغى الـ"أنا" وجدنا الشخص يميل إلى الحلول الوسط ويتحول إلى شئ اشبه بالكومبيوتر لا حياة فيه ولا لون ولا طعم, وكأنه مجموعة حسابات وأرقام ليس إلا. أما إذا أتيحت الفرصة لهذه القوى والكيانات أن تعمل بتوازن وتكامل فنحن أمام شخصية متوازنة ومتعددة الأبعاد ذات لون وطعم مميز.
وفي مدرسة التحليل التفاعلاتي للعالم النفسي "إريك برن" نرى النفس تتكون من ثلاث كيانات هي الطفل والوالد والراشد, فذات الطفل تحوي الرغبة في الحركة والإنطلاق والعفوية والإبداع, وذات الوالد تميل إلى الضبط والربط والإلتزام بالقواعد الدينية والأخلاقية, وذات الراشد تميل إلى الواقعية والموضوعية, ويحدث التوازن في الشخصية من خلال تبادل الأدوار بين هذه الذوات المختلفة حسب ما تقتضيه المواقف والظروف, فإذا كنا في عيد أو نزهة فإن ذات الطفل تنشط لتواكب ظروف الفرح والبهجة والانطلاق؛
إما إذا كنا في موقف تربوي في المدرسة أو المسجد أو البيت فإن ذات الوالد تنشط لدى المربي, فإذا ذهبنا للعمل نحتاج ذات الراشد الموضوعية الواقعية لتضبط حركة الإنتاج بحسابات المكسب والخسارة, وهذه الذات –أي ذات الراشد – هي عامل التوازن في الشخصية حيث تتسم بالنضج والتروي والقدرة على ضبط إيقاع الحياة بعيدا عن نزق الطفل وتحكمات الوالد.
وفي التصور الإسلامي هناك النفس الأمارة بالسوء (المشحونة بالرغبات والشهوات والمندفعة نحوها), والنفس المطمئنة التي توازنت فيها القوى وتناغمت حركتها ورضيت عن الله ورضي عنها الله وأعطت للدنيا حجمها وحقها وللآخرة أيضا حجمها وحقها, وتطلعت إلى معالي الأمور وتنزهت عن الدنايا, وأخذت من الحلال ورضيت به وتعففت عن الحرام وعافته, ثم تأتي النفس اللوامة وهي نفس تتأرجح بين رغبات النفس الأمارة بالسوء واضطراباتها وبين رضا وسكينة النفس المطمئنة.
والإنسان تتناوبه تلك الأحوال من وقت لآخر وتتوقف صحته النفسية على قدرته على إدارة المنظومة الشخصية بين هذه القوى بعضها البعض, أما محاولات الإستبعاد أو الإلغاء أو التنكر لجزء من أجزاء الشخصية فإن نتيجته اضطرابا نفسيا بشكل أو بآخر لأن ثمة نوع من التوازن المطلوب بين القوى المختلفة يخلق تنوعا وانسجاما في داخل النفس.
وهناك تصور للخريطة النفسية على أنها تتكون من ثلاث دوائر: دائرة المعرفة (تحوي الأفكار والنشاطات العقلية المجردة), ودائرة العاطفة (تحوي المشاعر والوجدانات والإنفعالات), ودائرة السلوك (تحوي كل أنواع السلوك من حركة وكلام). ولكي يكون الإنسان صحيح نفسيا يجب أن نرى توازنا بين هذه الدوائر وتناغما وتبادلا للأدوار حسب الظروف والمواقف والملابسات, ففي المواقف العقلانية الذهنية نجد أن دائرة المعرفة تتولى قيادة الشخصية, وفي المواقف العاطفية تتراجع دائرة المعرفة بطواعية ومرونة وتترك المجال لدائرة العاطفة.
أما حين يكون الكلام أو الحركة مطلوبان لذاتهما أو للتعبير عن دائرتي المعرفة والعاطفة فإن دائرة السلوك تتقدم لتقوم بالمهمة, وكل هذا يحدث في توازن وتناغم ومرونة وسلام. أما إذا استبدت دائرة منهم – أيا كانت – بالظهور فإن ثمة اختزال يحدث في الشخصية يجعلها ناقصة أو مبتورة أو مشوهة, وهنا يحدث المرض أو أحادية الرؤية أو الوجود, وهي أشياء عكس الفطرة التعددية في النفس البشرية, فمثلا إذا استبدت دائرة المعرفة نجد أن الشخص عقلانيا مجردا أكثر من اللازم, لذلك يفقد مذاقه كإنسان متكامل.
أما إذا طغت دائرة العاطفة فنجده حماسيا وانفعاليا أكثر من اللازم مما يجعله في دائرة الإندفاع والتهور, أما إذا طغت دائرة السلوك فنجده يهتم بالكلام والطقوس والمظاهر الخارجية على حساب المعنى العميق وعلى حساب الوجدانات التي تعطي لونا وطعما للأشياء.
وهكذا سنة الله في النفس (كما هي في الكون والحياة) أن تكون هناك قوى وكيانات مختلفة ومتعددة تتبادل الأدوار والقيادة والتوجيه والتأثير, وذلك يضمن للحياة التناغم والسلام والإستقرار, أما في حالة استبداد كيان واحد بالسيطرة على النفس فإن الكيانات الأخرى قد تضمر وتموت وتترك الكيان المستبد يأكل بعضه بعضا حتى يموت مثل خلايا السرطان الجامحة والطامعة, أو أن هذه الكيانات المستبعدة تكمن وتنتظر الفرصة للإنقضاض على الكيان المستبد وقهره, أو تحدث انشقاقات وتصدعات في الشخصية من وقت لآخر تعبر عن أزمة داخلية لم تجد حلا تكامليا أو صيغة للتعايش بين قوى النفس المختلفة التي خلقها الله وشاء لها أن تؤدي وظائفها داخل المنظومة النفسية.
واقرأ أيضاً:
قوة التسامح/ لولا دي سيلفا.. ماسح الأحذية صانع نهضة البرازيل