بحلول عام 2011، رأى الكثير أن تركيا قوة إقليمية صاعدة لا يمكن تجاهلها أو التعامل معها، وتوجهت الأنظار إلى "حزب العدالة والتنمية" كرافع لتركيا وسبب رئيس لهذه النتيجة. إلا أن "الربيع العربي" أعلن بقدومه عن تغيرات جذرية في المنطقة، فبدأت حظوظ تركيا في التراجع رويداً رويداً في حين بدت إيران أوفر حظاً وخاصة بعد توقيع الإتفاق الدولي حول برنامجها النووي. لم تقف مفاجأت هذا "الربيع" عند هذا الحد، بل تعداه ليترك للمنطقة قوة صاعدة جديدة، أرَّقت مضاجع الجميع إسمها: (داعش).
حتى وبعد قدوم ما سُمي "بالربيع العربي"، إستبشر الجميع لتركيا تحت حكم "حزب العدالة والتنمية" بمستقبل هام ورائد في المنطقة. الكثير من العرب بحث عن النموذج التركي، وكثُر المنادون بمحاكاة هذا النموذج لما له من نجاحات عديدة على صعيد الديمقراطية والحريات والنمو الإقتصادي، لدرجة أن العديد من الأحزاب السياسية سُميت بأسماء مشابهة لإسم "حزب العدالة والتنمية" تيمناً به! نعم، دخلت تركيا المنطقة العربية من أبواب عدة، حيث كانت أدوات قوتها الناعمة أهم أسلحتها؛ فغزت البضائع التركية الشوارع والأسواق العربية، وعجَّت المدن التركية بالسياح العرب، ولم يعد يخلو بيت إلا وقد تابع أو يُتابع الدراما والمسلسلات التركية!
وكان للخطاب الرسمي والدبلوماسية العامة أثراً عميقاً في نفوس شريحة الشباب العربي، فرأى الكثير من أولئك الشباب في (أردوغان) "بكاريزمته" الخاصة ونبرته القوية خلاصاً أو طريقاً في سبيل التحرر من الديكتاتوريات الشائخة في بلادهم، وخاصة حين هاجم الرئيس الإسرائيلي ـــــ آنذاك ـــــ (شمعون بيريس)، وسياسات (إسرائيل) بشكل عام وما تبع حادثة سفينة (ماڤي مرمرة) من تصريحات عنيفة بحق (إسرائيل).
إلا أن "الربيع العربي" استمر في تقديم مفاجآته؛ فتدهورت علاقات تركيا (بإسرائيل)، ثم فقدت سوريا بعد أن استثمرت سنوات لإعادة العلاقة بين البلدين لتصل إلى شراكة إستراتيجية حقيقية. لم تقف الأمور عند هذا الحد، فبعد أن اتهمت العديد من البلدان العربية تركيا بالتدخل في شؤونها، تباعدت السُبُل بينها فتراجعت العلاقات بين تركيا من جهة ومصر، والعراق ودول خليجية أخرى من جهة ثانية.
استمرت العقبات تواجه اللاعب التركي، فطرقت بعدها باب الجمهورية التركية وبدأت الصفعات تتوالي من الداخل، فأثرت أولاً تظاهرات حديقة (جازي بارك) سلباً على شعبية الحزب الحاكم في تركيا، وفي نظرة الشارع العربي حيال مصداقية هذا النموذج التركي، ثم تلاها قضايا الفساد التي مسَّت رموز من "حزب العدالة والتنمية".
أما إنتخابات يونيو الماضي فكانت الصفعة الكبرى والتحدي الأعظم للحزب منذ أن تسيَّد الحكم في تركيا، فبعد 13 سنة من حكم منفرد واستقرار سياسي غير معهود في حياة الجمهورية، أعلنت هذه الإنتخابات عن تغيّر في تركيبة النظام السياسي في تركيا، والتي بدورها ستؤثر على المنطقة العربية بأسرها.
أولى تبعات هذه الإنتخابات إنتهاء عملية السلام بين الحكومة التركية و"حزب العمال الكردستاني"، حيث تبادل الطرفان الإتهامات؛ فتقول الحكومة أن "حزب العمال الكردستاني" بدأ بتكديس السلاح في شمال العراق، وهو بحد ذاته خرق للإتفاق بين الطرفين، أما الجانب الكردي فاتهم الحكومة بخرق إتفاق السلام والبدء بقصف المواقع الكردية شمال العراق، وذلك من أجل التغطية على فشل "حزب العدالة والتنمية" في الإستحقاق الإنتخابي، ومحاولة إضعاف فرص أي تصويت مستقبلي للحزب الكردي الذي أضعف حظوظ الحزب الحاكم بدخوله مجلس الأمة الكبير.
لم تقف نتائج الإنتخابات التركية عند هذا الحد، فبدأ الجيش التركي معركة مفتوحة مع تنظيم (داعش)، وما هي إلا بضعة شهور وتننقل التفجيرات إلى داخل المدن التركية في مشاهد لم يتوقعها أكثر المتشائمين على مستقبل تركيا. وصحيح أن إنتخابات الأول من نوفمبر أعادت "حزب العدالة والتنمية" لسُدة الحكم منفرداً، إلاّ أن نتائج الانتخابات السابقة وبالتوازي مع الرمال الإقليمية والداخلية المتحركة ستحد كثيراً من الدور التركي في المنطقة.
في الوقت الذي بدا فيه نجم تركيا بالأفول، صعد نجم آخر هو إيران... إيران وعلى الرغم من أنها قوة إقليمية تتمتع بكافة مؤهلات الدول الكبرى من تاريخ وحضارة وتعداد بشري ومصادر طبيعية وفُرص كبيرة لنمو إقتصادي وقوة عسكرية، إلا أنها معظم المراقبين لم يرَ حظوظاً لها في المنطقة. التطورات الأخيرة أظهرت نتائج مغايرة تماماً، وأخرجت الإنتخابات الإيرانية الأخيرة إيران عن المسار المتوقع لهذا البلد بعد أن أفرزت شكل جديد للقيادة هناك تمتاز بالحِنكة والدبلوماسية. صحيح أن "الربيع العربي" قد أثَّر سلباً على إيران، وتحديداً على حُلفائها في المنطقة وعلى رأسهم النظام السوري والحوثيين في اليمن و"حزب الله" بعد أن تم إستدراج الأخير بعيداً عن (إسرائيل) ليدخل في أتون حرب لا تبدو نهايتها قريبة.
وعلى الرغم من إستنزاف قدرات شبكة حلفاء إيران في المنطقة في أعقاب أحداث "الربيع العربي"، إلا أنها حافظت على إتساق مواقفها وسياستها وأدوات سياستها الناعمة (في إختلاف واضح عما بدا من تركيا). ولكن مع توقيع الإتفاق النووي الإيراني بدا توازن القُوى يختلف مجدداً في المنطقة.
هذا الإتفاق هو مكسب أمريكي بامتياز؛ فمن الناحية الإستراتيجية، قامت الولايات المتحدة بتحييد الخطر الإيراني ـــــ ولو لحين، حيث يتسق هذا الموقف مع الرؤية الأمريكية المحدثة للمنطقة، والتي تضمن الخروج تدريجياً، وعدم الدخول في صراع مباشر مع أي من القوى الإقليمية. كذلك يعني رفع العقوبات عن إيران ضرر مباشر وكبير للاقتصاد الروسي، حيث ستدخل إيران بمخزونها النفطي الضخم كمنافس يسعى لتعويض سنوات الغياب عن سوق يُعاني أصلاً من إنخفاض مستمر في الأسعار، وتُشكل صادرات النفط في الوقت ذاته العمود الفقري للإقتصاد الروسي. بعض آراء صناع القرار في واشنطن رأت أن رفع العقوبات عن طهران سيعني أيضاً إنفتاحاً إقتصادياً وثقافياً، وهو الأمر الذي قد ينعكس على ممارسات وتوجهات إيران بشكل عام ويُدخلها حظيرة العولمة الأمريكية.
ولهذا، لم يكن مستغرباً أن نرى العديد من دول الغرب تلهث لتحجز موقعاً في إيران "الجديدة" من أجل الإستثمار في قطاعات عدة منها النفط والبناء والإتصالات وغيرها. بجميع هذه المعطيات، ومع رفع الحظر عن مليارات الدولارات الإيرانية المجمدة، يبدو جلياً أن حظوظ إيران كقوة إقليمية آخذاً في الصعود.
أما النجم الجديد الذي بدأ بريقه في السطوع هو الحركات والفاعلين غير الدوليين، وعلى رأسهم تنظيم الدولة: (داعش). خرج هذا التنظيم كنتاج مباشر عن بقايا نُظم زالت، ودكتاتوريات سقطت، ودول فشلت، ففقدت السلطات المركزية سيطرتها، ووجدت هذه العناصر بيئة خصبة لتنمو، وتجند، وتتمدد.
استطاع هذا التنظيم فرض وجوده بسرعة قياسية وانتشر عبر حدود بلدان المنطقة، فقلب المنطقة رأساً على عقِب، فشغل أجندات جميع المؤتمرات الإقليمية والدولية، وفرض نفسه على سياسات جميع الدول، بل وأدخل مصطلحات ومفردات جديدة على ثقافة العامة "كالتكفير" و"الإلحاد"، وبدى الشارع منقسماً بين التزمت والإنفتاح، حيث دفعت جرائم هذا التنظيم العديد من الشباب إلى البُعد عن الدين والإقتراب من نظرة الغرب حيال الإسلام.
إن فشل التحالف الذي شكَّلته الولايات المتحدة الأمريكية من أكثر من ستين دولة من تحقيق نتائج حقيقية أو إيقاف تمدد (داعش) أدى لتعزيز مكانته بين أعضائه، وشكَّك الكثير من جدية وصدق نوايا تلك الدول في إنهاء وجود هذا التنظيم. الأمر المثير هنا هو تصريح الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) في شهر يوليو الماضي بأنه لا يوجد نهاية منظورة للحرب على (داعش)، مؤكداً في الوقت نفسه أنه لن يسمح بوجود بري لجنود أمريكيين على الأرض.
وإذا كان مفهوم الدولة الفاشلة وإنتهاء دور الدولة المركزية سبباً واضحاً لنشأة التنظيم، يمكن القول بأن تنظيم (داعش) يُمثل خليط فريد من المصالح الدولية والإقليمية المتشابكة. فالبعض رأي في وجود التنظيم سبيلاً لإضعاف أو إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، ورأت قوى أخرى في تنظيم (داعش) سبيلاً لإلهاء وإضعاف "حزب العمال الكردستاني". في الوقت نفسه، رأى آخرون أن وجود تنظيم (كداعش) أو "النُصرة" سيوجه آجلاً أم عاجلاً ضربة لحليف إيران والأسد في لبنان "حزب الله"، وغيرهم اعتقد في وجود تنظيم (داعش) سبيلاً لإفتعال صراع طائفي، يتم فيه التخلص من جميع المتطرفين من الطرفين تحت مبدأ (let the bad guys kill each other).
نائب الرئيس الأمريكي (جو بايدن) قال في حديث له بأن حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط سمحوا بظهور (داعش) وزودوه بالمال والسلاح من أجل محاربة نظام الأسد في سوريا، وخوض حرب طائفية بالوكالة على الأراضي السورية، ووصل الجنرال الأمريكي (ويسلي كلارك) لذات النتيجة حيث قال بأن حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية قاموا بتمويل (داعش) من أجل محاربة وإنهاء وجود "حزب الله".
يمكننا القول إذاً بأن الإنتخابات الإيرانية الأخيرة أسهمت جدياً في رفع أسهم إيران في المنطقة، في مقابل ذلك، أدت الإنتخابات التركية في شهر يونيو الماضي في تعميق جروح اللاعب التركي وإستنزاف المزيد من مصداقيته. وتبدو أن نتائج الإنتخابات التركية المُعادة أعادت ثقة صانع القرار في "حزب العدالة والتنمية" بنفسه، إلا أن حدود التعامل التركي مع قضايا المنطقة سيحدوه الكثير من المحاذير في ظل الأزمات الداخلية المتمثلة بأعمال العنف والعمليات الإرهابية والوضع الإقتصادي المتراجع، ناهيك عن الظروف الإقليمية التي غمست تركيا كطرف أصيل في صراعات المنطقة. أما تنظيم (داعش)، فعلى الرغم من النجاح الذي حققه، إلا أنني أرى بأن حظوظ سطوع نجمه لن تطول كثيراً، وخاصة أن الظروف التي ساعدت على نشأته وتمدده لن تستمر طويلاً.
وبعيداً عن أي أحاديث لمؤامرة، نرى أنه إن التصق إسم أمريكا بعدد من الأحداث العفوية والصُدف، كتلك الصدفة التي جلبت "القاعدة" ومخلفاتها للمنطقة مع الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، والصدفة التي كانت سبباً في منح تركيا ـــــ الممثل للإسلام المعتدل وفقاً للبعض ـــــ فرصة الصعود وفرضها كعنصر أصيل في مشروعين أمريكيين هما الشرق الأوسط الجديد ثم الكبير، وصدفة إخراج الإتفاق النووي الإيراني ـــــ الأمريكي في وقت أفول النجم التركي، وصدفة عدم قدرة التحالف الأمريكي الذي يتشكل من أكثر من ستين دولة لإنهاء أو على أقل تقدير إيقاف زحف (داعش)، يبقى التدخل الروسي الرسمي في سوريا صدفة أيضاً...
واقرأ أيضا:
إسرائيل ما بين حديث السلام الوهمي وخطر الوجود الافتراضي/ فلسطين بين عبرات شعب وعثرات قضية!/ الهجوم على سورية سقوط الأقنعة!/ ثورات العرب الجديدة: نظرية مؤامرة أم إرادة أمة/ مخلفات ربيعية: هل ضل الجميع سبيله!؟