الطب النفسي وتعليمه في سيرة امرأة2
المحطة الأخيرة: نهاية وبداية
انتهت من كتابة أطروحتها وقررت الانتقال من مؤسسة التعليم إلى مؤسسة الحياة الجديدة حيث حصلت على وظيفة مساعد محاضر في كلية بيدفورد جامعة لندن. الحياة في لندن المكتظة بالسكان غير الحياة في عاصمة التعليم الجامعي الأوربي أكسفورد. تغير كل شيء في لندن ولم تتغير أبنية أكسفورد. الحياة في لندن غير متأزمة بالتنافس بين الأفراد في مؤسسات التعليم وهي أكثر ترحيباً بالإنسان مهمة كانت قابلتيه وطموحه.
ولكن عام 1975 كان نقطة تحول في تاريخ بريطانيا الحديث. كان عام ركوداً اقتصاديا وشللاً سياسيا وصراعات لا تنتهي بين القادة في مختلف الأحزاب وبين الأحزاب نفسها. كان أيضاً هو العام الذي شهد فيه الشعب وصول إرهاب الجيش الأيرلندي الحر إلى إنكلترا نفسها بعد أن استوطن أيرلندا الشمالية لفترة طويلة بسبب الصراع الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت.
كان أيضاً هو العام الذي صعد فيه نجم أول امرأة استلمت زعامة حزب المحافظين السيدة الراحلة ماركريت تاثشر التي استحدثت سياسات اقتصادية وخارجية لا يزال أثرها موجوداً في بريطانيا وأوربا والعالم. ولكن عام 1975 هو أيضاً العام الذي انتهى حلم كارين ارمسترونغ الأكاديمي.
تم اختيار كبير أساتذة الأدب الإنكليزي في جامعة كمبردج والذي قرأ الأدب في أكسفورد أيضاً ليكون الممتحن الخارجي لأطروحتها. كان الأستاذ خبيراً في أدبيات تنيسون وتولى امتحانها شفويا. استمر الامتحان 3 ساعات ويبدوا أن الممتحن مزق أفكار الآنسة تماما واستنتج بعدها بأنها لا تستحق شهادة الدكتوراه. متى ما فشل الطالب في الامتحان الأول للدكتوراه أو أي درجة جامعية في جامعة أكسفورد فليس لديه فرصة ثانية. لم يكتفي هذا الأستاذ بتمزيقها في الامتحان الشفوي وانتظرت تحليله لأسباب سقوطها في تقرير مفصل من عشرات الصفحات كما هو العادة. وصلها الرد وكان نصف صفحة فقط.
رغم الألم والحزن الذي استوطنها في تلك الفترة ولكنها أيضاً اكتشفت بأنها كانت تدرس وتتعلم لكي تثبت للآخرين تفوقها بدلا من الاستمتاع بما تقرأ والاستفادة منه. الإنسان الذي يبدع في العلم والأدب وغيرها من الحقول الثقافية هو الإنسان الذي يحب ويعشق ما يفعله. هذه هي الخطوة الأولى لكي يبدع في المستقبل. لم تتوقف عن القراءة والإطلاع ولكنها الآن بدأت تشعر بجمال وروعة ما تقرأه بدلاً من التحضير لامتحان لكي تثبت تفوقها على أقرانها.
ولكن نوبات السقوط لم تتوقف وبعد عام من رسوبها هوت إلى الأرض في محطة قطار كنغ كروس في لندن وفقدت الوعي. تم إرسالها إلى مستشفى ويست ميدلسيكس وتم تشخيصها بصرع الفص الصدغي.
تم علاجها بعقار مضاد للصرع واختفت نوبات السقوط وبدأت تسترجع قوتها وتتوجه نحو المستقبل بعقل جديد وتفكيراً خالياً من الارتباك.
كانت رحلتها عبر سلم حلزوني كما ذكرت في مذكراتها الثانية وتتوقف عند أبيات من الشعر لقصيدة الشاعر إليوت وهي أربعاء الرماد في عام 1930. كان رحلة اليوت من الشك إلى الإيمان ولكن رحلة أربعاء الرماد للسيد المسيح عليه السلام هي رحلة معاناة وصيام في الصحراء دامت أربعين يوماً. المكان هو المكان والوقت هو الوقت وما هو حقيقة هو حقيقة ربما في مكان واحد وزمن واحد. ولكن لا يلتفت الإنسان إلى الخلف وما عليه إلا أن يستعمل الماضي أبناء مستقبل جديد يحتفل به غداً.
لأني أعرف أن الزمان دوماً هو الزمان
والمكان هو دوماً نفس المكان
والواقع الآن فقط لهذا الزمان
وفقط لهذا المكان
سأنبذ هذه الظروف كما هي
وسأنبذ هذا الوجه اللعين
لأني لا أتمنى العودة ثانية
لذلك الآن أبتهج
لأني سأشيد شيئاً
من فوقه أبتهج
أربعاء الرماد، توماس إليوت 1930
مناقشة عامة:
تعليم الطب النفسي الجامعي:
لا توجد وسيلة تعليمية مثالية لتدريس الطب النفسي في كلية الطب. يصل الطالب إلى السنة القبل النهائية في كلية الطب ليتعلم مختلف الفروع الطبية مثل الطب النفسي والأنف وأذن وحنجرة والتخدير والأمراض الجلدية وغيرها من الفروع الطبية. يغادر السنة القبل النهائية إلى العام النهائي ليعود مجدداً إلى الطب الباطني والجراحة والعامة ليستعد لامتحان التخرج النهائي. ربما الطب النفسي أكثر حظا من الفروع الأخرى هذه الأيام ونصيبه من أسابيع التعليم يتراوح بين 4 – 8 أسابيع ولكنه أكثر الفروع تحديا لطالب الطب البشري الجامعي.
الطب النفسي يختلف عن بقية الفروع الأخرى والتواصل بين الطالب والمريض يختلف عن تواصله مع بقية المرضى. يتم تعليم مهارات التواصل Communication Skills بين الطبيب والمريض منذ السنة الأولى في كلية الطب وتشكل ما لا يقل عن 33% من الاختبارات السريرية في جميع السنوات ولا يستطيع الطالب التخرج إذا لم ينجح في هذا الجزء من الاختبارات؛
ولكن مهارات التواصل بين الطبيب والمريض في جميع الفروع الطبية تختلف عن تلك التي يجب إتقانها في الطب النفسي ولذلك فإن استحداث هذا التعليم لم يساعد من رفع مكانة فرع الطب النفسي في التعليم الجامعي مقارنة ببقية الفروع. يضاف إلى ذلك تم استحداث اختبار التحكيم الظرفي (Situational Judgment Test (SJT والذي يشكل 50% من الدرجة النهائية للطالب والتي تحدد مكان تعيينه. يتم عمل هذا الاختبار مركزياً ولجميع كليات الطب.
لا مبالغة في القول بأن الطب النفسي يتطلب ثقافة وإطلاع على علم النفس والاجتماع وهذه نادرا ما تكون من المواضيع التي يتحمس لها الطالب قبل دخوله كلية الطب حيث يكون تركيزه على الكيمياء والفيزياء والعلوم الحياتية.
دراسة سيرة كاتب أو شخصية أو حتى كتاب أدبي خلال مرحلة التعليم الطبي الجامعي قد تكون إحدى الوسائل التي تساعد في تقريب مفهوم الصحة النفسية للطالب. الأمراض الطبية تتميز بأعراض يتم تدريب الطالب على البحث عنها واكتشافها ورؤيتها بالعين المجردة. الاضطراب النفسي غير ذلك فلا أحد بشاهد الأعراض والغالبية من البشر لا ترغب في الحديث عنه. ولكن الإشارة لجميع الاضطرابات النفسية بصورة غير مباشرة يملأ أدبيات العالم ومنها الأدب العربي.
يحتاج الطبيب النفسي في جميع مراحل تدريبه وممارسته المهنة إلى عتاد يستخدمه أثناء تواصله مع المريض وتحليل أزماته المختلفة. لا يقتصر هذا العتاد على العقاقير ولا على نمط معين من العلاج الكلامي وإنما يتضمن ذلك ثقافة عامة بسلوك البشر وتفاعلاتهم مع الماضي والحاضر وتخطيطهم للمستقبل. في هذا المقال هناك إشارة إلى الأزمات الوجودية التي تواجه الإنسان في جميع مراحل حياته وخاصة في أعوام المراهقة. هذه الأزمات الوجودية لا تختلف بين مجتمع وآخر وتكاد تكون ثابتة في جميع الثقافات والحضارات على مد العصور.
واجهت الآنسة كارين أرومسترونغ هذه الأزمات وهي في منتصف أعوام المراهقة وتهربت من مسؤولية تحديها بمفردها أو بمساعدة الآخرين وتوجهت نحو العزلة. ربما كان من حسن حظها أنها اختارت العزلة في الدير ولكننا نشاهد هذه الأيام الكثير من الشباب يتوجه نحو العزلة والجلوس أمام شاشات الكمبيوتر وألعاب الفيديو. بعد فترة من الزمن قد يتم منحه تشخيص طبي مثل الرهاب الاجتماعي وطيف التوحد.
قد يتساءل البعض ويسقط اللوم على أهل الآنسة الفاضلة في السماح لها بحرية الاختيار يوم توجهت إلى الدير. هذه الأزمة تواجه الكثير من الآباء والأمهات حول التدخل في تقرير مصير أبنائهم وبناتهم ولا يوجد حل مثالي. آخر ما يجب أن يفعله الطبيب النفسي أو المعالج النفسي التلميح إلى مريضته أو أهلها بأن ما حدث كان بسبب قرار تم اتخاذه في مرحلة ما من حياة الأطفال. تأثير الآباء والأمهات على مسيرة أطفالهم بدأ يتضاءل تدريجيا في العصر الحديث ومع انفجار تكنولوجيا المعلومات.
هل كانت الآنسة تعاني من اضطراب الشخصية؟
استعمال هذا المصطلح لا يساعد المريض ولا طبيبه على التواصل والعلاج. ليس من الصعوبة استعمال مختلف المصطلحات الرنانة مثل الانطوائية والحدية والوجدانية لوصف شخصيتها. الإسراع في استعمال هذا المصطلح لا يجدي نفعاً ومن الأفضل التركيز على وصف وصياغة جميع الصفات الشخصية وفهم مصدرها من الماضي ودور الدفاعات النفسية الغير شعورية التي يستعملها الفرد.
ماذا عن مختلف الاضطرابات العصابية؟
يشمل هذا الحقل مختلف أنواع القلق واختلال الآنية والاكتئاب الطفيف المزمن وغيرها. موقع هذه الاضطرابات في الطب النفسي يتميز بارتباكه ولذلك يميل الكثير من الأطباء إلى استعمال مصطلع عدم التوازن الجداني Affective Dysregulation فهذا يعطي الضوء الأخضر لاستعمال عقاقير مضادة للاكتئاب وموازنة للمزاج.
ولكن الاستعراض العاطفي المسرحي مع نوبات السقوط Falling Episodes مصطلحاً قاسيا يوجه الاتهام إلى الإنسان بأنه ضعيف البنية عضويا وعاطفيا يصرخ بالنجدة عند مواجهة أبسط التحديات. استعمال مصطلح نوبة لتعريف السقوط لا يمتلك معنى تشخيصي ولكن استعمال مصطلح نوبة استيلائية Falling Seizure هو أكثر وضوحا من مصطلح إغماء أو نوبة فجائية ويعني مصادرة وعي الإنسان وتوازنه بصورة فجائية. عند هذا المنطلق يبدأ الطبيب في البحث عن العوامل الطبية أو النفسية التي استطاعت صرع المريض والتغلب عليه ومصادرة وعيه وتوازنه.
الوصول إلى مصدر النوبات الاستيلائية يشكل تحديا لجميع الاختصاصات الطبية وخاصة الاضطرابات القلبية والعصبية. غير أن هناك مجموعة من المرضى لا يقل عن 35% من المرضى المصابون بالنوبات الاستيلائية يصعب تفسير مصدر نوباتهم وبالتالي يتم إرسالهم نحو الطب النفسي أو تشخيص إاصابتهم باضطراب الصرع ووضع نوباتهم في إطار الصرع الونائي Atonic Epilepsy رغم غياب الأدلة القاطعة ويتم وصف مضادات الصرع. ليس هناك بديلا لتاريخ طبي دقيق ووصف شاهد للنوبات لتشخيص الصرع وأنواعه وهذا أفضل بكثير من الاعتماد على فحوصات مختبرية مثل تخطيط الدماغ الكهربائي. هذا لم يحدث مع الآنسة كارين ارمسترونغ ولم يتم تشخيص الصرع لفترة طويلة.
اضطرابات الصرع تثير اهتمام الطب النفسي أكثر من بقية الفروع الطبية ولأسباب متعددة منها شيوع جميع الاضطرابات النفسية في المرضى المصابين بالصرع واستعمال مختلف العقاقير المضادة للصرع في توازن المزاج. ليس هناك اضطرابا يوضح علاقة الطب النفسي بالطب العصبي، وارتباط العوامل العضوية بالعوامل النفسية مثل متلازمة كيشوند أو كيشوند كاستوت Geschwind – Gastautو التي أحيانا تعرف بمتلازمة الشخصية لصرع الفص الصدغي. تتكون هذه المتلازمة من 4 أعراض وهي:
1 - الإسراف الإملائي Hypergraphia حيث يكثر المريض من الكتابة وتراه إن طلب منه أحد كتابة شكوى فسيكتب عشرات الصفحات عن معضلة لا تستحق أكثر من صفحة واحدة.
2 - النقص العاطفي Hypoemotional ويكون في غاية الملاحظة في ضعف التواصل العاطفي بين الفرد والآخرين. تميز علاقتهم بأزواجهم بالبرود العاطفي.
3 - النقص الجنسي Hyposexuality وغياب الرغبة الجنسية. تميل بعض المقالات إلى إدراج الخطل الجنسي ولكن كاتب المقال لم يلاحظ هذه الظاهرة في هذه المتلازمة بالذات وإنما في بعض المرضى المصابين بالصرع.
4 - اللزوجية Viscosity في التواصل مع الآخرين والإسراف في التفاصيل.
5 - الإسراف الدينيHyperreligiosity حيث يتميزون بكثرة ترددهم لأماكن العبادة والإسراف في ممارسة الطقوس الدينية بأنواعها.
لا توجد علاقة بين السيطرة على الصرع وعلاجه وملاحظة هذه المتلازمة المتمثلة بجميع المزايا أعلاه. على العكس من ذلك لاحظ كاتب المقال في 18 حالة تم متابعتها أكثر من خمسة أعوام ما يلي:
1 - تاريخ سابق للصرع فقط في الطفولة في 5 مرضى.
2 - السيطرة على الصرع كلياً في 14 حالة.
3 - 14 رجلاً مقابل 4 نساء فقط.
4 - الأعراض أكثر وضوحاً و شدة في الرجال.
5 - نوبات اكتئابية قصيرة متكررة تميل إلى التحسن والاستجابة لجرعات صغيرة من مضادات الاكتئاب.
6 - عدم وجود أعراض ذهانية.
هذه المتلازمة تختلف تماما عن ملاحظة أعراض وصفات الشخصية الحدية في المرضى المصابين بالصرع وتشخيصه في أعوام المراهقة.
في نهاية المقال لابد من العودة إلى سيرة الآنسة كارين أرمسترونغ. يمكن دراسة شخصيتها من عدة زوايا ولا شك بأنها على مقدرة عالية من الذكاء والقدرة على الإبداع. تفاعلت ظروفها البيئية والعوامل العضوية في ولادة أزمات نفسية لم تفلح في حلها حتى ذلك اليوم الذي فشلت فيه أكاديميا واكتشفت أن تطوير النفس والعثور على السعادة في الحياة لا يأتي عن طريق سور ضيق. كان هذا السور الضيق هو رغبتها في التنافس وإثبات وجودها عن طريق الحصول على درجات أكاديمية متميزة. ربما كان عليها أن تستمع إلى نصيحة أستاذها حين قال لها بأن المبدعون في الحياة يأتون إلى أكسفورد ليتعلموا التحليق والطيران ويغادرونها ليثبتوا وجودهم في المجتمع بعيداً عن الحرم الجامعي.
لعب فصها الصدغي دوره ربما في إسرافها الإملائي وبرودها العاطفي والجنسي وصراعها الديني وميلها إلى الإسراف في التفاصيل. لكن إسرافها الإملائي لم يساعدها في الحصول على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي ولا شك بأن الممتحن لم يظلمها كما تتصور.
ودعت كارين أرمسترونغ الأدب الإنكليزي وأبدعت في الكتابة عن تاريخ الأديان. كتابها عن تاريخ الحروب الصليبية لا منافس له وقدمت سيرة الرسول الكريم محمد صلى عليه وآله وسلم للعالم بأسلوب عصري راقي يستحق الإعجاب.
المصادر:
- Armstrong Karen (2004). The spiral Staircase. Harper Collins. London
- Blumer D (1999). Evidence supporting the Temporal Lobe Pesronlaity Syndrome. Neurology 53( Supp 2)S9-12.
- Devinsky O, Vorkas C, Barr W (2006). Personlaity Disorders in Epilepsy In Psychiatric Issues in Epilepsy: A practical guide to diagnosis and Treatment. Lippincot williams & Wilkins.
• هذا المقال هو المحاضرة التي ألقاها الكاتب في لقاء الجمعية الثقافية العراقية في كاردف : المملكة المتحدة.
واقرأ أيضًا:
الشك في رمضان / النزاعات الوجودية والشباب العربي / معالم الأخلاق والطب النفسي / معالم الأخلاق في حب السلام والحسن عليه السلام / حرية الرأي في العالم العربي والإسلامي من منظور اجتماعي نفسي