علم الأمراض الجلدية النفسي1 Psychodermatology1
الجزء الثاني
1- الجسدنة Somatization
العوامل النفسية عموما تؤثر على جميع الاضطرابات الطبية وهذه حقيقة لا يعترض عليها أحد، ويشمل ذلك مسار المرض واستجابته للعلاج. كلما ارتفعت معنويات الإنسان في مواجهة مرض ما ارتفع احتمال الشفاء والعافية. كل ما كان رد فعل المريض سلبيا لعلته تفاقم أمر الأعراض الطبية. ولكن هناك مفهوم آخر يشغل المؤسسات الطبية أكثر من تأثير العوامل النفسية على مسار وعلاج الأمراض العضوية وهو الجسدنة.
الجسدنة هي مفهوم نفسي يفسر نزعة الفرد للتعبير عن ألمه النفسي أو مشاكله الشخصية في إطار ألم جسدي أو أعراض طبية يصعب تفسيرها من قبل الطبيب.
الجسدنة واضطرابات الجسدنة شائعة جداً في جميع الاختصاصات الطبية والأقلية منهم فقط من يتوجه نحو الطب النفسي. يقدر علوم الاقتصاد بأن الجسدنة بحد ذاتها تستهلك ما لا يقل عن 10% من ميزانية الصحة في جميع بلاد العالم.
هناك عدة نماذج للجسدنة في الممارسة السريرية ومنها:
1- أعراض طبية لا يمكن تفسيرها عن طريف دراسة التاريخ الطبي والفحص السريري والمختبري.
2- جسدنة يتم حصرها بالمراق ويطلق عليها جسدنة مراقية Hypochondrical Somatization. يختلف مريض المراق عن مريض الجسدنة بخوفه من وجود مرض خطير. بعبارة أخرى المريض المصاب بالجسدنة يطلب علاجا لآلامه ومريض المراق يطلب تفسيرا لها ونفي وجود مرض خطير.
3- يضع البعض الأعراض الجسدية المصاحبة للاضطراب النفسي في إطار الجسدنة ومن أبسطها نوبات الهلع. المريض الذي ينتمي إلى هذه المجموعة يشكو من اضطراب طبنفسي مثل الاكتئاب ولكنه كثيرالتركيز على الأعراض الجسدية.
4- تضخيم جسدي حسي لأعراض مرض. المريض الذي ينتمي إلى هذه المجموعة يميل إلى تضخيم شدة أعراض جسدية ناتجة من مرض عضوي.
5- سلوك المرض Illness Behaviour وهو تفاعل المريض النفسي والاجتماعي لمرضه ويبدأ بالشكوى من أعراض جسدية إضافية للحصول على العناية الطبية اللازمة.
6- سلوك المرض غير الطبيعي Abnormal Illness Behaviour في هذه الحالة يفشل المريض كليا للتكيف مع مرضه ويتغير سلوكه الشخصي وتفاعله مع الآخرين ويصاحب ذلك أعراض جسدية شديدة.
الفاصل بين سلوك المرض وسلوك المرض الغير طبيعي أكاديمي بحت. تشخيص مرض يدفع المريض نحو سلوك معين من أجل الشفاء والحصول على الرعاية الطبية وأما الغير طبيعي فهو أشد تطرفا وقد تكون نتائجه عكسية وفي كلاهما تكثر ملاحظة الجسدنة.
هناك اضطرابان في علم الأمراض الجلدية النفسي تتعلق بالجسدنة.
أ- الحكة المزمنة المجهولة السبب Chronic Idiopathic Pruritus
الحكة سلوك أو عرض طبي شائع وربما ليس هناك إنسان لا يحك يوميا. هذا الشعور الحسي ينتقل من الجلد عبر النخاع الشوكي إلى الدماغ. رد فعل الإنسان يكون بالطريق المعاكس ويبدأ بالحك للتخلص من الشعور بالحكة. الحكة بدورها تتفاوت بشدتها ويصل السلوك أحيانا إلى درجة يشعر بها الإنسان بألم. ومع الشعور بالألم ينتقل الإحساس به عبر النخاع الشوكي إلى الدماغ. هناك بعض الدراسات في الحيوان3 تشير إلى أن الشعور بألم يؤدي إلى زيادة إفراز السيروتنين Serotonin وبالتالي الشعور بالارتياح.
هذا النوع من الحكة كثيرُ الملاحظة في الذراع ومن ثم الظهر. وقد يشمل منطقة واحدة أو أكثر من الجسد وخاصة الذراع والظهر والساق. يعاني أكثر من 60% منهم من الحكة يوميا وتزداد شدتها ليلا وقد تؤدي إلى الاأرق في الأكثرية والبعض منهم يشكو من الاكتئاب بسببها2.
ما نعرفه أن الصدمات النفسية بأنواعها والتوتر العاطفي يؤدي إلى هبوط عتبة الحكة في كل إنسان. هذه العوامل النفسية تؤثر أيضاً على الحكة من أسباب عضوية وتؤدي إلى ارتفاع شدتها وطول أمدها. لكن الطبيب لا يصل إلى تشخيص هذا النوع من الحكة إلا بعد يقينه من عدم وجود أسباب عضوية لتفسيرها. الأسباب العضوية متعددة وفي جميع الأعمار ونادراً ما تكون الحكة هي العرض الطبي الوحيد على عكس الحكة المجهولة السبب.
ظهور الحكة الشديدة المزمنة بعد منتصف العقد الرابع من العمر يتطلب الحذر. الحكة قد تكون الشكوى الوحيدة للمريض ولفترة طويلة مع التشمع الصفراوي الأولي Primary Biliary Cirrhosis وخاصة في الإناث ولذلك يفضل قياسا ضداد المتقدرات Antimitochondrial Antibodies في كل مريض عند هذا العمر. كذلك هناك بعض المرضى من المصابين بعجز الكلية المزمن من تكون أول شكوى لهم هي الحكة.
الحكة المجهولة السبب قد تكون محددة أحيانا في منطقتين وهي الشرج ويطلق عليها الحكة الشرجية Pruritus Ani أو منطقة الصفن وتسمى بالحكة الصفنيةPruritus Scroti في الذكور أو الحكة الفرجية في الإناث Pruritus Vulvae. يجب توخي الحذر في عدم الوصول إلى هذا التشخيص بدون فحص المريض. هذه المناطق أرض خصبة لسكن بعض الفطريات والجراثيم والفحص المختبري قد يساعد في العثور عليها. البواسير أحيانا قد تكون السبب الوحيد للحكة الشرجية وبدون وجود أعراض أخرى،
ب- اضطراب الألم Pain Disorder
اضطرابات الألم المزمنة هي نوع من أنواع الجسدنة ويمكن أن يشكو الفرد من الألم في أي منطقة من مناطق الجسم ولكن في ضمن علم الأمراض الجلدية النفسية هناك ألم اللسان Glossodynia وألم الفرج المتغير الإحساس Dysesthetic Vulvodynia. تتوجه المريضة التي تشكو من ألم في الفرج نحو أطباء النساء والتوليد وأما التي تشكو من ألم في اللسان فتتوجه أولا نحو الطبيب العام والذي بدوره ينصح المريضة بالتوجه نحو طبيب الأمراض الجلدية للتأكد من عدم وجود اضطراب جلدي لم تظهر أعراضه بعد في الجلد.
هناك مصطلح آخر لألم اللسان وهو متلازمة احتراق الفم Burning Mouth Syndrome. تكثر ملاحظة هذا الاضطراب في النساء بين عمر 55-60 عاماً ويرتبط بتوقف العادة الشهرية. يكون الألم على أشده في طرف اللسان وجوانبه ويصاحبه شعور بالتنمل والجفاف والشكوى من تدهور حاسة الشم والتذوق.
علامات القلق والاكتئاب في اضطراب ألم اللسان شائعة وتستجيب للعلاج ويستجيب الألم أيضا لاستعمال العقاقير المضادة للاكتئاب أحياناً. لكن الوصول إلى هذا التشخيص لا يتم إلا بعد فحص دقيق للفم وأفضل من يقوم به هو أخصائي الأمراض الجلدية. قياس تركيز الحديد في الدم وفيتامين ب 12B لابد منه في جميع الحالات.
الحزاز المسطح Lichen Planus طالما يسبب الألم في اللسان وبدون علامات جلدية ويتطلب علاجا ومراقبة دائمة.
2- مناقشة عامة
دراسة العاطفة واحدة من الأدوات التي تساعدنا على استيعاب من هو الإنسان وكيف يتفاعل مع الآخرين. يزدحم العالم الثقافي والعلمي بنظريات فلسفية ونفسية وبيولوجية وعصبية وجميعها تستحق الدراسة. لكن الحقيقة هي أن الشكوى من الألم والجسدنة سلوك اجتماعي بحت ومن خلاله يحصل الاتصال بين الفرد والطبيب. الطبيب هو موضع ثقة البشر عموما والجميع يطلب منه وصفة للشفاء والعافية. إن لم يجد الإنسان وصفة اجتماعية لمشاكله فستراه يتوجه تلقائيا ولا شعوريا نحو المعالج الأول وهو الطبيب ولكي تصل إليه لا بد من الشكوى من أعراض طبية وألم.
الحياة لا تقتصر على مواجهة التحديات ولكنها أيضا مزدحمة بالخوف والقلق والرعب أحياناً. هذا الخوف يتضاعف مع وحدة الفرد وعدم تواصله مع الآخرين وربما الجسدنة وسيلة لا شعورية يلجأ إليها الفرد للتواصل مع غيره وينتمي تدريجيا إلى المجتمع الصحي المهني. رغم رفض المرضى للتفسير النفسي لأعراضهم في البداية ولكن الغالبية منهم لا ينفرون من جلسات علاج نفسي فردية أو جماعية للحديث عن مشاكلهم. لا توجد أدلة مقنعة حول فعالية أي علاج كلامي أو سلوكي في الجسدنة والغالبية العظمى منهم يغادرون عيادات الطبيب وبيدهم وصفة عقار أو أكثر.
استجابة ألم اللسان لمضادات الاكتئاب جيدة والنصيحة الطبية هو الاستمرار عليها لفترة لا تقل عن عام أو عامين والكثير منهم يلاحظ تحسن الأعراض. هناك أقلية منهم من يستجيب لعقار الكابابينتين Gabapentin أو الكلونازيبام Clonazepam. عقار الدلكوستين Duloxetine المضاد للاكتئاب كثير الاستعمال هذه الأيام في علاج اضطراب الألم المزمن وهناك بعض الدراسات التي تشير إلى أن فعاليته ربما أفضل بقليل من بقية العقاقير ولكن أحد أعراضه الجانبية هو الألم في اللسان والفك ولذلك لا يحبذ وصفه في هذه الحالة. أما في وجود أعراض اكتئاب وقلق واضحة فيحب التركيز على علاجها كما هو الحال في علاج المرضى الآخرين المصابين باضطرابات وجدانية.
الشكوى من الحكة المجهولة السبب شائعة جداً وفي جميع الأعمار. هناك وصفات شعبية لا نهاية لها وعقاقير متوفرة في الصيدليات لا تحتاج إلى وصفات طبية. الكثير من المرضى يستعملون مضادات الهستامين الحديثة التي لا تسبب التهدئة ويكتفون بها، ولكن مع وجود أعراض قلق واكتئاب فمن الأفضل استعمال مضادات الاكتئاب. يتم تقييم الاكتئاب وعلاجه كما هو الحال في أي مريض لا يشكو من الحكة ولكن إذا كانت الحكة هي الشكوى التي تشغل المريض أكثر من غيرها فيستحسن اللجوء إلى مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقة. عقار الدوكسابين Doxepin هو من أكثر العقاقير شهرة وفعالية1 في هذا المجال ونتائجه جيدة في معظم الحالات وهناك أيضا مرهم للاستعمال الموضعي.
المصادر
1- Smith P. Corelli R(1997). Doxepin in the management of pruritus associated with allergic cutaneous reactions. The Annals of Pharmacotherapy 31(5): 633-635.
2- Yosipovitch G, Ansari N, Goon A, Chan Y, Goh C (2002). Clinical Characteristics of Pruritus in chronic idiopathic pruritus. British Journal of Dermatology 147(1): 32-36
3- Zhong-Qiu Zhao9, Xian-Yu Liu9, Joseph Jeffry, W.K. AjithKarunarathne, Jin-Lian Li, Admire Munanairi, Xuan-Yi Zhou, Hui Li, Yan-Gang Sun12, Li Wan13, Zhen-Yu Wu, Seungil Kim14, Fu-Quan Huo15, Ping Mo, Devin M. Barry, Chun-Kui Zhang, Ji-Young Kim, N. Gautam, Kenneth J. Renner, Yun-Qing Li, Zhou-Feng Chen (2014). Descending Control of Itch Transmission by the Serotonergic System via 5-HT1A-Facilitated GRP-GRPR Signaling. Neuron 84(4): 821-834.