هل الشعب المصري لا يستحق إلا ضرب الكرباج يوميا, وأنه شعب مضرب عن العمل بـ"الحق الباطل", وأنه شاكي بـ "المكايدة والإسفين", وأنه متدين بـ "المظاهر الكدابة", وأنه وطني بـ "الأغنية والشعار", وأنه فهلوي بـ "النصب والتسليك", وأنه متسول بـ "الحيلة والمحايلة", وأنه متواكل بـ "نصيبي كده" ؟؟!! . وهل إذا صحت فيه هذه الصفات فهو الذي أنشأها في نفسه, وأنه ولد بها هكذا شعبا نمرودا لا يعرف أفضال "حكامه" عليه ولا ينفذ أوامرهم ويطيعهم, وأنه لا يجيد إلا اللف والدوران والمراوغة والنصب والاحتيال, وأنه لا يعتدل أمره إلا بالكرباج كما كان المملوك القديم والباشا القديم يعامله؟؟!!. هل هو شعب من العبيد يعيش عالة على "حكامه" فيسبب لهم المشاكل والزهق والقرف من سلوكه المضطرب؟؟!!. هل هو شعب متمرد لا يكف عن إزعاج السلطات بالثورات والمظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات بدلا من أن يعمل في صمت وينتج في أدب؟؟!!.
هذه هي صورة المصريين كما وردت في ملف كامل نشر في جريدة "الوطن" المصرية على ثمان صفحات كاملة يوم 28 أبريل 2016 م العدد 1460 .
ولنبدأ بـ"الكرباج", وهو عنوان زاوية يومية يكتبها رئيس التحرير التنفيذي بالجريدة يلهب بها ظهور رموز مصرية مهمة تنتمي لتيارات مختلفة ولها وجهات نظر مخالفة لسيادته, بل ويسخر ويتهكم من, ويسب ويلعن ثورة يناير وأصحابها والمؤيدين لها والمتعاطفين معها ويعتبرهم خونة وعملاء وأصحاب سبوبة, وبصرف النظر عن أن هذه وجهة نظره, فإن ذلك مخالف للدستور الذي قدّر ثورة يناير ووضع هذا التقدير في مقدمته على أنها ثورة عظيمة قام بها الشعب المصري وهي ملهمة لكل ما جاء بعدها وهي جزء هام من تاريخ الشعب المصري وحركته الوطنية.
إذن من هنا تبدأ القضية, أن ثمة توجها في الجريدة يمثله رمز من رموزها المهمة مفاده أننا أمام شعب يستحق ضرب الكرباج, ويستفتى أناس بعينهم ليثبتوا هذه المقولة ليس في زاوية محدودة المساحة والتأثير هذه المرة ولكن على ثمان صفحات كاملة في عدد وصفوه بـ"الخاص" تحت عنوان "الباشمواطن", سخرية واستهزاءا وتهكما, على الرغم من أن المواطن المصري المطحون الذي يتحدثون عنه لم يكن باشا في يوم من الأيام وإنما هو في نظر الباشوات (في حقب تاريخية عديدة) شعب من العبيد لا يصلح معه إلا ضرب "الكرباج" أو ضرب "النار" أو ضرب " ....." أيهم أقرب.
والملف في مجمله يدور حول فكرة أن العيب في الشعب, وأن الحكومة "هايله" و"ماحصلتش" وأنها "خسارة فينا" لأنها تعمل ليل نهار لإصلاحنا ولكننا نفسد عليها وعلى أنفسنا كل شيء.
قد يدافع أحد عما ورد في الملف بقوله نحن نتحدث عن 7 خطايا في حياة المصريين لإصلاحها, ولكن للأسف الشديد لم تكن اللهجة أو الطريقة تفيد ذلك بل كان نوعا من جلد الذات وإهانة الذات وتدمير الذات المصرية. ولا أحد يقول بأن الشخصية المصرية هي أفضل شخصية في الدنيا, وأن المصري هو أذكى البشر, وأننا شعب "ماحصلش" كما يروق لبعض دراويش الكتاب الذين ينفخون ليل نهار في النرجسية المصرية ليخفوا عنا عيوبنا وليضعونا في حالة من الخدر اللذيذ فننصرف عن مشاكلنا وأخطائنا.
فالمصريون بشر لهم حسناتهم ولهم عيوبهم, والخطورة تأتي من تضخيم الحسنات لدرجة السكر الحضاري والتيه التاريخي الذي يصرف عن العمل والاجتهاد وإصلاح الأخطاء, أو تضخيم السيئات الذي يؤدي إلى كراهية هذا الشعب واعتباره مجموعة من القطيع لا يصلح معهم إلا جلد الظهور وإهانة الذات.
والملف تلوح فيه الكراهية والاحتقار لهذا الشعب وندلل على ذلك ببعض عبارات وردت في مقدمة الملف ونضعها بين قوسين : يقول صاحب "الكرباج" اليومي في الجريدة وراعي هذا الملف وكاتب مقدمته:
"هذا ليس جلدا للذات. وحتى إذا كان جلدا للذات فنحن بصراحه شعب يستاهل. الشعب الذي يكحت أسفلت الشارع وهو يكسر إشارة المرور ويحول مطالع الكباري ومنازلها إلى محطات أتوبيس, يتلكأ ليتفرج على حادث تصادم، ويسمح لعيل شمام في الثالثة عشرة من عمره بأن يقود ميكروباصا لا فيه رخصة ولا طفاية حريق ولا فوانيس ولاحتى موتور يستحق الجلد". "لا أفهم لماذا يترك الباشمواطن المصري كل عاداته "الزرائبية" على باب المطار,
وعندما يعود من السفر بعد سنة أو عشرين يقاوم قليلا ثم ييأس ويستسلم ويعود إلى سيرته الأولى "ياعم أنا مالي إن شالله تولع"... "الآن أصبح المصريون كسالى ومحبطين ومكتئبين ومنفلتين وهمجيين وكذابين وعدوانيين, وأقربهم إلى الله أبعدهم عنه" . "كأن هذا الشعب عدو نفسه".
ولا يوضح الملف جذور هذه الصفات السلبية التي تفشت في المجتمع المصري على مدى عقود بسبب الاستبداد والفساد واللذان هيئا ويهيئا لكل الرذائل ليس فقط في المجتمع المصري ولكن في أي مجتمع يشيعان فيه, وهما صنوان يغذي كل منهما الآخر. والسلوك الإنساني هو نتاج تفاعل العوامل الجينية مع العوامل البيئية ولا يستطيع أحد أن يتهم جينات المصريين بأنها فاسدة, ولكن العامل الأكثر اتهاما هو البيئة الفاسدة التي عاش فيها المصريون بسبب استمرار الاستبداد والفساد.
إن كثيرا من أخطاء وخطايا المصريين هي محاولات للتكيف المشوه مع ظروف ضاغطة وأحوال مضطربة قد يكون لهم نصيب في صنعها أو استمرارها, ولكن ليس لأنهم كسالى وكذابون ومنافقون وهمجيون وعدوانيون. إن المصريين – على الرغم من عيوبهم – فهم يعملون لساعات طويلة وفي أكثر من عمل ليحصلوا على لقمة عيشهم, وليعالجوا مرضاهم وليوفروا احتياجات طعام وتعليم أبنائهم, ويعيشون سنوات طويلة في الغربة يحرمون فيها من حياتهم الطبيعية وسط أبنائهم ليوفروا لقمة العيش التي تعذرت عليهم في بلادهم.
والقاعدة الراسخة في علم النفس الاجتماعي والسياسي أنك لا تستطيع أن تصلح شعبا تكرهه وتراه سببا في كل المصائب التي حلت به, وكأننا أمام موقف طبيب جاء ليعالج مريضا فبدلا من انشغاله بالتشخيص وإجراءات العلاج راح يسب ويلعن المريض ويتهمه بالإهمال والتراخي حتى ساءت حالته, ويقوم بجلده عقابا له على أخطائه.
وثورة يناير التي يكرهها راعي ملف جلد المصريين بالكرباج, كانت وعيا شعبيا قويا لتغيير مسار حياة المصريين بعد أن بلغ الاستبداد والفساد أقصى مدى, ولكن للأسف الشديد أطاحت أحداث الفترة الانتقالية وما حدث فيها من تبريد الثورة وركوب الثورة والالتفاف على الثورة وترويض الثورة, بكل أهداف هذه الثورة. وأدى ذلك إلى تفريغها من مضمونها وتحويلها إلى مجرد حالة انفلات أمني تستدعي المزيد من إحكام القبضة الأمنية.
الخلاصة أن الملف يدور حول فكرة أن العيب في الشعب وليس في غيره, وأن على الشعب أن يتغير أو نأتي بشعب "أنظف منه" ان كنا نريد أن نعيش حياة سوية مثل بقية البشر, أو أن نستمر في جلد هذا الشعب بالكرباج حتى ينصلح حاله.
إن كل المصلحين أحبوا شعوبهم وعملوا لإصلاح أحوالهم وتصحيح أخطاء حياتهم دون ذم أو احتقار لهم بسبب أمراض اجتماعية وأخلاقية أصابتهم بحكم غفلتهم أو سوء إدارة لحياتهم.
واقرأ أيضًا:
سيكولوجية الثورة / ما وراء زلة اللسان / لديهم وزارة السعادة .. ولدينا سعادة الوزير 2016 / الحواتمية بين الاصطباحة والاستباحة