يدخل هذا المفهوم في صلب علم النفس والطب النفسي والعلوم الاجتماعية بل وحتى السياسية منها.
لا يوجد من يجهل التنافس بين الأشقاء ويدرك الطفل ذلك من عمر مبكر جدا. ينتبه الوالدان لهذه الظاهرة بل والكثير منهم يبدأ بتوعية الطفل حول وصول الضيف الجديد إلى العائلة قبل الولادة. لكن هناك من الآباء والأمهات من لا يبخل بممارسة التمييز بين الأطفال منذ ولادتهم وحتى بعد رحيلهم من البيت. يصل التنافس مرحلة حرجة مع تقسيم الإرث في جميع المجتمعات ولا يتردد البعض بالتصريح عن سخطهم من الأهل وشعورهم الأبدي بتفضيل الوالدين للأخ الأصغر أو الأكبر أو الأوسط.
اقتبس علم النفس مفهوم تنافس الاشقاء من النص الديني لقابيل وهابيل وتكلم عنه سيغموند فرويد بحماس أحيانا(3) ولكنه لم يعِره نفس الأهمية للنظرية التي تمسك بها طوال حياته وهي نظرية أوديب التي تتعلق برغبة الطفل اللاشعورية في عقله غير الواعي للتخلص من الأب والاحتفاظ بالأم. تحدث فرويد عن تنافس الأشقاء عن تجربته يوم كان طفلا لا يتجاوز عمره الثلاثة أعوام وكان هناك الأخ الأصغر جوزيف الذي توفي عن عمر عام واحد فقط. أما علم النفس وتلميذ فرويد ألفريد أدلر فقد أسهب في الحديث عن تنافس الأشقاء.
هابيل وقابيل
في الوقت الذي أصبحت فيه نظرية أوديب مجرد أسطورة وخرافة في علم النفس ولم يتقبلها الجمهور ترى تنافس الأشقاء يتحول إلى هاجس الحضارة العالمية في الشرق والغرب وربما يعود السبب في ذلك إلى تعليق وملاحظة الناس لوفرة هذا المفهوم في النصوص الدينية وكتب التاريخ والأدب العالمي.
تنافس الأشقاء في النصوص الدينية والتاريخية
هناك اتفاق شامل بين مختلف الحضارات بأن قصة هابيل وقابيل تعكس تنافس الأشقاء وأصبحت موضوعا ألهم عالم الفن والأدب. تبع ذلك قصة يعقوب وعيسوا ومن ثم يوسف وإخوته. قصة يعقوب وعيسوا أولاد إسحاق(ع) تعكس تفضيل الأخ الصغير على الكبير ويقال والله أعلم بأن العرب هم أحفاد إسماعيل(ع) وأحفاد عيسوا أيضا أما اليهود فهو أحفاد يعقوب(ع).
أما في الأساطير المصرية فهناك سيت وأوزوريس وفي الإغريقية أتريس وثيتاستس وبعدها نرى روملوس يقتل أخاه ريمس ويؤسس روما.
أما النصوص الدينية التي أثارت فضول علماء الاجتماع والتاريخ وكذلك علماء النفس فهي قصة إسحاق (ع) وإسماعيل (ع) أولاد إبراهيم الخليل(ع). هذه الرواية متشابهة للغاية في القرآن الكريم والكتاب المقدس.
كان إسماعيل (ع) الابن الأكبر لإبراهيم الخليل(ع). لم تحمل سارة زوجة إبراهيم الخليل(ع) وأصرت أن يعاشر إبراهيم(ع) جاريتها هاجر ويتخذها جارية له. حملت هاجر وأنجبت إسماعيل(ع) واسم إسماعيل مشتق من العربية واسمه اشمايل ويعني السامع لله عز وجل. يحدثنا الكتاب المقدس بعد ذلك عن تعلق إبراهيم الشديد بابنه إسماعيل ومن ثم يأتي أمر الله بأن تحمل سارة رغم أنها دخلت سن اليأس منذ فترة طويلة. ولدت سارة إسحاق(ع) وأصرت على طرد هاجر وابنها لكيلا ينافس إسحاق. عند هذا المنعطف يقف الكثير من الباحثين ويتحدث عن تعاطف الناس مع إسماعيل(ع) ورحمة الله عز وجل به وإعلامه بهذه الرعاية ومن هنا يأتي الاسم السامع لله. كذلك يقول البعض بأن عقدة التنافس بين الطوائف الدينية المختلفة كان مصدرها سارة زوجة إبراهيم(ع).
رغم أن هناك إجماعا على فصل إسماعيل(ع) عن أخيه إسحاق(ع) ولكن الكتاب المقدس يشير إلى أن إسماعيل(ع) وإسحاق(ع) توليا دفن والدهما سوية.
يتحدث القرآن الكريم والكتاب المقدس بعد ذلك عن زيارة الخليل(ع) لبيت إسماعيل وحديثه عن سلوك زوجات ابنه إسماعيل. كانت زوجته الأولى عائشة والثانية فاطمة استنادا إلى روايات النصوص الدينية العبرية.
رغم أن الباحثين أسرفوا في الحديث عن تنافس الأشقاء في قصة إبراهيم(ع) وأبنائه ولكن الحكمة من هذه القصة غير ذلك. كان تقييم إبراهيم(ع) لزوجات إسماعيل يتعلق بحسن أخلاق الإنسان نحو الآخرين من الغرباء وتراه عليه السلام يطلب من خادمه البحث عن زوجة لابنه إسحاق بعيدة عن البلدة ولا صلة لها بالأهل والأقارب. بعبارة أخرى ولدت العولمة من أيام إبراهيم (ع) وليست مجرد عصر جديد نعيش فيه.
يعلم الجميع من هو إبراهيم الخليل(ع) والكل على دراية بالديانات الإبراهيمية التوحيدية ولكن رسالته قلما اتعظ بها المؤمنون بهذه الرسالات. رسالة العولمة وحسن الأخلاق والتسامح والتعاطف لا يدركها الجميع ويضعها جانبا في حساباته الشخصية والسياسية والعنصرية. كان ولادة النزعة العنصرية بين تصنيف إسماعيل(ع) بأن أمه لم تكن حرة وحملت به بأمر من بشر (سارة) على عكس إسحاق التي حملت به سارة بأمر من الله عز وجل. تم نعت اليهود سابقا بأنهم أحفاد إسماعيل(ع) ومن ثم جاء دور المسلمين ووصفهم ضمن هذا الإطار.
تطورت النزعة العنصرية بين البشر وشملت اللون والدين والطائفة والعرق وغير ذلك. رغم أن الحركة الليبرالية الحديثة تحاول القضاء على هذه النزعات العنصرية ولكنها فشلت في بداية القرن العشرين وولدت واحدة من أبشع النزعات البشرية وهي النازية والفاشية. عالم اليوم لا يختلف تماما وبدأت الحركات المعادية لليبرالية تنتشر تدريجيا في مختلف المجموعات البشرية شرقا وغربا.
أما رواية يعقوب مقابل توأمه الأكبر عيسوا فهي مثال صارخ لتنافس الأشقاء ولكنها لم تثر اهتمام الكثير. حرص يعقوب(ع) على الحصول على بركة أبيه إسحاق(ع) بتحريض من أمه مستغلا ضعف بصره.
تطرق شكسبير إلى تنافس الأشقاء في مسرحياته وربما كان ذلك سببا في شهرة المفهوم عالمياً. أما في التاريخ الحديث فنسمع عن عقدة نابليون بسبب أخيه جوزيف ويفسر البعض نزعته الدموية والتوسعية بسبب حمله المتأزم لعقدة تنافس الأشقاء. كان آخر مثال هو تنافس إيد مليباند ضد أخيه الأكبر ديفيد لزعامة حزب العمال البريطاني قبل أقل من عشرة أعوام.
مسرحية شكسبير الملك لير وتنافس الاشقاء
شعبية المفهوم لعبت دورها في قبول الوالدين بأن وجود علامات تنافس الأشقاء أمر طبيعي ولا يستحق الانتباه وبأنه ليس حصراً على الإنسان وهذا صحيح وتراه حتى في الطيور ومن جراء ذلك يستعمل الناس مصطلح Pecking Order حيث ينقر الطير الأكبر للحصول على الطعام قبل الأصغر.
تنافس الأشقاء بعد البلوغ
العلاقة بين الإخوة تتميز بسيولتها وتتأثر بعوامل عدة منها معاملة الوالدين للأطفال، جنس الأبناء والظروف البيئية التي تمر بها العائلة التي تؤثر على الوالدين وبالتالي تؤدي إلى فقد التوازن في التعامل بين الأبناء والبحث عن حلول سريعة وقت الأزمات بالتزام جانب واحد ومعاقبة آخر. هذه الأزمات تبقى عالقة في ذهن الطفل وتنمو معه(4) وغالبا ما ترى المراهق والبالغ يسترجع هذه الأحداث ويتحدث عنها بحماس متغافلا حوادث أخرى. ينتقل الإنسان بعد ذلك نحو زوجه ويضع جانبا تنافس الأشقاء ولكن هذا لا يمنع من ظهور هذه العقدة بين الحين والآخر وخاصة أيام تقسيم التركة.
تنافس الأشقاء في المجموعات البشرية
استعار علم الاجتماع مفهوم التنافس بين الأشقاء وتمت صياغته في إطار جديد وهو الرغبة في التقليد Mimetic Desire. يبدأ الإنسان بالانضمام إلى مجموعة صغير وأحيانا كبيرة لتعريف نفسه حضاريا وصراعه من أجل البقاء. الصراع بين الأشقاء هو مصدر ما يسميه ريني جيرارد(1) العنف بين الشعوب والطوائف الدينية والعرقية المختلفة ويوصف العنف بأنه وليد الرغبة في التقليد Mimetic Desire . والرغبة في التقليد تعني تطلع الفرد أو المجموعة إلى الحصول على ما تملكه المجموعة الأخرى عن طريق العنف أو الاحتيال تماما كما يرغب الطفل ويطالب الأهل بشراء لعبة يراها مع طفل غيره. تبحث المجموعات البشرية أحيانا عن كبش فداء(2) لحل أزماتها بدلا من التركيز على دراسة مشاكلها وهذا في غاية الوضوح غي عالم الغرب والشرق.
كل مجموعة بشرية تدعي بأنها تملك الحقيقة ولكن حين تدعي مجموعة ما بأنها تملك الحقيقة فهناك احتمالان:
الأول: أن الحقيقة التي في حوزتها تافهة وربما المقابل حقيقته مزيفة.
ثانيا: أن تكون الحقيقة التي في حوزتها دامغة والمقابل حقيقته دامغة أيضا.
هذا ما لا تفهمه المجموعات البشرية ويستمر الصراع بينها وهذا ما نراه اليوم وربما في كل يوم عبر التاريخ منذ أيام سيدنا إبراهيم (ع).
المصادر:
1 Girard, Rene (1976).Deceit, Desire, and the Novel: Self and Other in Literary Structure. Johns Hopkins University Press. Baltimore.
2 Girard, Rene (1989). The Scapegoat. Johns Hopkins University Press. Baltimore.
3 Reiff, Philip (1965). Freud the Mind of Moralist. Methuen, London.
4 Scarf Merrell, S (1995) The Accidental Bond: How Sibling Connections Influence Adult Relationships. Ballantine Books. New York.
واقرأ أيضًا:
نفوذ عالم الفضاء على الصحة النفسية الجنسية/ أصوات / الكلام في الطب النفسي/ التفريق في معاملة الأطفال