يعرف الدارسون لعلم النفس هرم "ماسلو" للاحتياجات، وفي قاعدة هذا الهرم توجد الاحتياجات البيولوجية (الأساسية) مثل المأكل والمشرب والمأوى يليها الاحتياج للأمن ثم الاحتياج للحب ثم الاحتياج للتقدير الاجتماعي ثم الاحتياج لتحقيق الذات، وأضاف بعض علماء النفس الاحتياجات الروحية في أعلى الهرم.
وبناءا على ذلك تنزع بعض النظم السياسية والإدارية على أن تجعل الناس مشغولة طول الوقت بتوفير احتياجاتها الأساسية، أي تعيش في أسفل هرم الاحتياجات، ولهذا تستغل (أو تصنع) أزمات متتالية أزمة دولار، أزمة قمح، أزمة أرز، أزمة زيت، أزمة سكر، أزمة بوتاجاز، أزمة....، أزمة......، بذلك تشغل الناس بهذه الأمور البيولوجية الحياتية فلا يتطلعون لما هو أكثر من ذلك.
والإدارة من هذا النوع تستفيد استفادة مزدوجة من الأزمات، إذ تشغل بها الناس طول الوقت، ثم تأخذ صورة المنقذ "البطل" الذي قام بمجهودات لحل الأزمات. وهي أيضا ترى وظيفتها محصورة في توفير احتياجات البقاء ولا يرتفع بصرها أو تعلو همتها إلى احتياجات التنمية والارتقاء، لذلك لا تنشغل بمسائل الإصلاح السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، فقط هي لقمة العيش وما يدور حولها، ولو كان ذلك بالتسول أو الاقتراض أو بيع الأصول.
وللتأكيد على إحكام السيطرة على وعي الناس وحركتهم يتم اللعب على المستوى التالي من الاحتياجات وهو مستوى الأمن، فالناس يحتاجون للأمن مباشرة بعد احتياجهم للطعام والشراب والمأوى، وإذا اطمأنوا إلى هذين الاحتياجين ينصرفون إلى الاحتياج الأعلى وهو العبادة (في المفهوم الديني للاحتياجات) كما ورد في الآيات الكريمة "فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". والنظم التي تلعب على الخوف تحرص على أن تثير حالة من الفزع والإحساس بعدم الأمان من خلال الحديث المتكرر أو الدائم عن خطر الإرهاب وخطر المؤامرات الداخلية والخارجية وتزرع حالة من الانقسام الداخلي وحالة من فقد الثقة بين الناس وحالة من التوجس من الجميع وتسوّق لفكرة المؤامرة الكونية على الوطن.
وغالبا ما يستجيب غالبية الناس لضغط الأزمات المتتالية وللخوف من المخاطر المحدقة، وعندئذ يسهل التحكم فيهم والسيطرة عليهم، ويسهل تمرير أي سياسات أو مشروعات أو أفكار أو تغييرات، إذ في حالة الأزمة والخوف يتعلق الإنسان بالضرورات التي تحفظ بقاءه ويتنازل عن الاحتياجات الأرقى (الحب والتقدير الاجتماعي وتحقيق الذات والاحتياجات الروحية)، وبلغة السياسة يرضى بلقمة العيش ويتنازل عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهنا يصبح مواطنا ذلولا (أو ذليلا)، وهذا ما تحبذه الإدارة بالأزمة والإدارة بالخوف وتمنحه لقب "مواطن شريف".
والإدارة بالأزمة كما الإدارة بالخوف ليس فقط تحرمان المجتمع من فرص التنمية والنهوض والعيش الكريم، وإنما أيضا تضر بالإدارة التي اتبعت هذا المنهج وظنت أنها تحقق به مكسبا سياسيا أو إداريا، إذ سرعان ما يلاحقها الفشل ويلاحقها السخط حين يطالبها مواطنوها بمستحقات العيش والأمان التي لا يجدونها (رغم تضاؤل طموحاتهم وتنازلهم عن الاحتياجات الأعلى)، وهنا تحدث الأزمة الكبرى بين الجماهير الجائعة والخائفة والغاضبة وبين الإدارة العاجزة.
واقرأ أيضًا:
سيكولوجية الثورة / ما وراء زلة اللسان / لديهم وزارة السعادة .. ولدينا سعادة الوزير 2016 / الحواتمية بين الاصطباحة والاستباحة