"لماذا أنا؟"، "لماذا يحدث هذا لي ولا يحدث لغيري؟"، "لماذا يعاني ابني من هذه الأعراض؟"، "هل هي ضغوط الحياة؟؟.. أم هي الوراثة؟؟ هل أذنبنا في حق أبنائنا؟؟"
أسئلة تتردد في أذهان زواري الكرام، وتتردد أصداؤها في فضاء غرفتي الصغيرة بالعيادة النفسية للكبار والصغار.
والإجابة دائما: "نعم.. ولا".. "ليس بالضبط".. "في المسألة تفصيل"!!
عزيزي الإنسان؛
تتنفس شهيقك الأول في هذه الدنيا صارخا، فتبدأ معه رحلة الكبد والعناء إلى أن تغمض عينيك – أو يغمضها لك الآخرون – لتسدل الستار على حياة الكد وتفتتح حياة الحساب والجزاء، وبين هذه وتلك لا تخلو لحظاتك ولا أيامك من المنغصات والضغوط والشكوى، لا تعطيك الحياة أبدا كل ما تريد، هكذا تساءل ربها مستنكرا: "أم للإنسان ما تمنى؟؟"، فضغوط الحياة من الحياة، جزء لا يتجزأ من بنيتها الأساسية وتصميمها الذي أبدعت عليه لتؤدي دورها المطلوب منها:"ليبلوكم أيكم أحسن عملا"؛
ويختلف نصيب كل فرد فينا من الضغوط والمنغصات التي يتعرض لها على مدار حياته، كما يختلف كل منا عن الآخر في كيفية تعامله مع هذه الضغوط ودرجة تحمله لها، فمن الناس من يصاب بالاكتئاب النفسي، فإذا سئل عن أسبابه لم يجد له سببا، فحياته شبه خالية من المشاكل، أو هو يعاني من مشاكل وضغوط الحياة العادية التي يتحملها الغالبية العظمى من البشر دون أن يصابوا بالاكتئاب، ومن الناس من يمر بأصعب الظروف وأقساها فيتحملها جهازه النفسي بجلد رائع، وتكيف هائل يحميه من الانهيار، ويقيه من الإصابة بأي من الاضطرابات النفسية المعروفة، بما في ذلك كرب ما بعد الصدمة أو الكرب التالي للرضح، والذي يصيب الكثيرين – وليس الجميع - ممن يتعرضون للضغوط الاستثنائية الهائلة.
وهكذا عرف العلماء صفة "تحمل الإحباط" (Frustration Tolerance) على أنها قدرة الإنسان على الثبات في وجه الإحباط ومحاولة التكيف معه والتغلب عليه، و"الإحباط" هنا هو عكس "الإشباع"، فحصول الإنسان على رغباته وتحقق أمانيه هو الإشباع، وحرمانه من تلك الرغبات – أو تأجيلها - هو الإحباط، وقدرة الإنسان على الاحتفاظ بثباته الانفعالي وبقدرته على التفكير السليم والحكم على الأمور ومحاولة حل المشكلات في أوقات الإحباط هو ما نقصده بتحمل الإحباط. ويعتبر تحمل الإحباط واحدا من أهم أركان المرونة النفسية (Psychological Resilience)، وهي ما يمكن أن نسميه بالجلد (بفتح اللام) أو "المناعة النفسية" التي تتيح للإنسان تحمل الصعاب و تقيه من الإصابة بمعظم الاضطرابات النفسية كما أسلفنا.
ولما كان لصفة تحمل الإحباط هذه الأهمية الكبيرة في البناء النفسي للإنسان، كان لابد من البحث عن الأسباب التي تؤدي إلى تقوية هذه الصفة فيه، خاصة في مرحلة الطفولة والمراهقة والتي تعد فترة بناء الإنسان وتكوين شخصيته. ولا شك أن صفة تحمل الإحباط – كغيرها من الصفات - تتأثر بالعوامل الجينية الوراثية أي بالشفرة الإلهية التي ينفرد بها كل إنسان عن غيره، إلا أن الأبحاث والملاحظات التربوية قد أثبتت أن هناك عاملا آخر يؤثر تأثيرا كبيرا في قدرة الإنسان على تحمل الإحباط. هذا العامل هو مقدار تعرض هذا الإنسان للإحباط في صغره.
وتتخذ العلاقة بين التعرض للإحباط في الصغر والقدرة على تحمله في الكبر شكل المنحنى الجرسي الشهير، والذي يقل ارتفاعه تدريجيا كلما اتجهت إلى أحد جانبيه ويتزايد في منطقة الوسط. فالأطفال الذين يتعرضون لكم قليل جدا من الإحباط في صغرهم، أي الذين يجتهد آباؤهم وأمهاتهم في تحقيق كل ما يعن لهم من رغبات وأحلام في التو واللحظة، لا يختلفون كثيرا في قدرتهم على تحمل الإحباط – وبالتالي في مناعتهم النفسية – عن الأطفال المحرومين، الذين تعودوا على عدم تلبية معظم رغباتهم، والذين ذاقوا في طفولتهم قدرا هائلا من الإحباط والحرمان.
وكلا الفريقين – المحروم والمدلل – يعاني عادة من ضعف المناعة النفسية ويكون أكثر عرضة للاكتئاب وفرط الحركة والجناح والاضطرابات السلوكية الأخرى. وبعبارة أخرى، فإن التوسط في تلبية رغبات أبنائنا وتحقيق أمنياتهم اليومية الصغيرة هو الأسلوب الأمثل لبناء نفوسهم بناء صحيحا ولإعدادهم إعدادا نفسيا سليما لتحمل مصاعب الحياة ومواجهة تحدياتها.
ومن هنا ابتكر بعض العاملين في علم النفس التربوي مفهوم "الحرمان الحميد" لمواجهة ميل الآباء والأمهات إلى تلبية كل رغبات أطفالهم، فالكثير من الأسر تتخيل أن لديها التزاما تجاه أبنائها بتلبية جميع رغباتهم، وهناك خلط في هذا الفهم، فالأسرة ملزمة حقا بتلبية جميع الاحتياجات الأساسية للطفل كالمأكل والمشرب والملبس المناسب والرعاية الطبية، ولكنها ليست ملزمة بتلبية كل ما يعن للطفل من رغبات غير ضرورية كالحلويات والألعاب والنزهات وغير ذلك، والتوسط في هذه الأمور هو الأصل.
ولا بأس من حرمان الطفل "حرمانا حميدا" من بعض هذه الطلبات وأن يتعود الطفل على سماع كلمة "لا" التي تقال بهدوء وحب حين يبالغ في طلباته، ولا بأس من اقتراح بعض البدائل على الطفل لتحل محل ما يطلبه، أو تاجيل تحقيق طلبه بعض الوقت، أو ربطه بإنجاز معين ينجزه الطفل.
ويعد المبدأ الأخير – أي ربط تحقيق الرغبات بإنجاز الواجبات – هو من أهم المبادئ التربوية التي تساعد في بناء القدرة على تحمل الإحباط. لأن الربط بين إنجاز الإنسان وعمله من ناحية وبين ما يحدث له من نجاح وفشل في تحقيق رغباته من ناحية أخرى هو من أهم القواعد التي تحمي الإنسان من الإحباط واليأس. فالإنسان الذي تعود أن تتحقق أحلامه بمجرد التفكير فيها أو التعبير عنها دون جهد أو تعب غالبا ما يصاب بالإحباط واليأس حين يفقد "الكفيل" الذي يتكفل بتحقيق رغباته في كل وقت وحين، وحين يكتشف أن تحقق الأحلام بغير تعب ليس من طبيعة الحياة أصلا، وأن "السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة"؛
ومن ناحية أخرى فإن الإنسان الذي يفشل في تحقيق آماله ورغباته حين يشعر بالعجز عن فعل شيء يغير من حاله البائس فإنه يصاب بالإحباط واليأس، ويتراكم عنده هذا الإحباط إلى حد الانفجار لفشله في تحويل هذا الإحباط إلى جهد وفعل إيجابي لتغيير الأحوال.
ولهذا شجعنا الإسلام على تحويل ما نشعر به من إحباط إلى فعل إيجابي "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان (رواه مسلم)، بل حرص الإسلام على ترسيخ فكرة ارتباط العمل بالنتائج في الدنيا والآخرة حتى فيما يحدث للإنسان من مصائب خارجة عن إرادته، وحرص القرآن الكريم على تأكيد هذا الارتباط في أكثر من موضع:
"وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" (الشورى – 30) وأكد الرسول – صلى الله عليه وسلم – على ذات المعنى في حديثه الشريف: "ما يُصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" (رواه البخاري ومسلم). فالمؤمن دائما يشعر بأن لديه دورا يؤديه في تحقيق آماله، وأن اجتهاده في العمل محفوظ مأجور حتى ولو لم يؤت ثماره في الدنيا، وأن ما يصيبه من سوء هو في مقابل ما أساء هو فيه من عمل، وبالتالي هو كفارة عنه يحميه من العذاب يوم القيامة.
وإذا عدنا إلى أبنائنا، وكيف نطبق معهم هذا المبدأ الهام في التربية، نجد من أهم الأنظمة السلوكية التي أثبتت نجاحها في هذا المضمار هو نظام النقاط السلوكية، حيث يقوم المربي بتحديد المهام والواجبات المطلوبة من الطفل سواء أكانت مهاما منزلية أو دراسية أو عبادية، ويوضح للطفل أنه سيحصل على عدد معين من النقاط حين يؤدي كل مهمة من هذه المهام، ويمكن أن يرمز لهذه النقاط برسوم أو علامات، كما يمكن أيضا أن يتم استخدام العملات النقدية ذاتها وأن توضع في "حصالة" أو ما شابه ذلك، على أن يعاقب الطفل على تقصيره في الواجبات أو إساءة السلوك بالحرمان من النقاط.
ثم يتم إفهام الطفل بأن تحقيقه لرغباته الصغيرة غير الضرورية سوف يتناسب طرديا مع كم ما يحصل عليه من نقاط أو كم ما يحققه من "رصيد". ولكي ينجح هذا النظام يجب أن يحل محل نظام "المصروف" بالكامل. بمعنى ألا يسمح للطفل بالحصول على أي مبالغ مادية ليس لها ما يقابلها من عمل وجهد إيجابي يبذله. ولا يسمح له باستخدام أي وسيلة أخرى غير العمل (كالإلحاح في الطلب على أحد أفراد الأسرة أو البكاء والصراخ أو غير ذلك من الأساليب) للحصول على رغباته، فإن ذلك يؤدي إلى عكس المطلوب من هذا النظام، ويربي عند الطفل الاعتمادية ويعوده على استخدام الأساليب الملتوية غير البناءة لتحقيق الرغبات.
ومن الملاحظ أن نظام النقاط يقوم على تفتيت الهدف الكبير البعيد إلى أهداف صغيرة قريبة، فإذا كان طفلك يتمنى الحصول مثلا على جهاز حاسب لوحي جديد فيمكنك أن تقول له سأشتريه لك إذا حصلت على المجموع الفلاني في درجاتك هذا العام، ولكن الأفضل من جهة التحفيز أن تقول له إذا فعلت المطلوب منك دراسيا كل يوم ستحصل على مبلغ معين من المال مقابل ما بذلته من جهد، ولك بعد ذلك أن تنفق من هذا المال أو توفر منه حتى تشتري ما تريد، وبذلك يتحول الهدف الكبير "الحاسب اللوحي" إلى مجموعة من الأهداف الصغيرة (الحصول على النقاط المطلوبة كل يوم وتوفير أكبر قدر من المال)؛
والمعروف أن الأهداف الصغيرة القريبة أكثر فعالية في التحفيز وأشد كفاءة في الحماية من الإحباط من الأهداف الكبيرة البعيدة. وهو – مرة أخرى – نفس الأسلوب الذي يستخدمه معنا رب العالمين عز وجل في التحفيز، فالهدف الكبير (الجنة) مقسم إلى أهداف كثيرة صغيرة (الحسنات) يجمعها الإنسان على مدار يومه وليلته، فتبقيه في حالة من التحفيز الدائم، وتحميه من الإحباط واليأس في حال التقصير إذ تقدم له الحل دائما في صورة فعل إيجابي متاح لتدارك الخطأ واستكمال المسيرة (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) (رواه الترمذي)، "إن الحسنات يذهبن السيئات" (هود – 114)، وبذلك يبقى الطفل مع مربيه – كما يبقى المؤمن في حضرة ربه سبحانه وتعالى – في حالة دائمة من النحفيز الإيجابي بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والرجاء!!
واقرأ أيضاً:
هل يصاب الأطفال بالمرض النفسي؟؟!! / الاضطرابات النفسية: ظواهر مرضية أم أعراض شيطانية؟؟