ربما استشعر النظام السياسي في مصر عزلة خارجية شديدة بعد الثلاثين من يونيو تمثلت في استنكار بعض الدول لما حدث ووقوف بعضها الآخر في مربع العداء والهجوم، وقد شكّل هذا ضغطا كبيرا على صانع القرار السياسي حيث كان يتحرك في وسط دولي غير متقبل، أو في أحسن الأحوال متململ، ويضاف إلى ذلك تقارير بعض المنظمات الدولية المختصة بحقوق الإنسان والتي لم تكن دائما في صالح النظام. وكان يدعم هذا الشعور بعدم المقبولية حالات الاحتجاج الداخلي من قوى ثورة 25 يناير وخاصة الشباب.
من هنا نشأت الرغبة النفسية القوية لدى صانع القرار بالحصول على الرضى والقبول (وربما المشروعية) بأي شكل، ولنضرب بعض الأمثلة لتوضيح هذه الفكرة:
• الإفراط في استخدام اللغة العاطفية والاستمالات الوجدانية في الخطاب السياسي للجماهير (انتوا نور عينينا .. الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه) مما أحدث حالة هائلة من الانجذاب الشعبي العاطفي الذي وصل لدرجة التقديس ليتبعها حالة من الإحباط وربما الغضب حين مواجهة الحقائق والتحديات على أرض الواقع.
• كان مشروع حفر تفريعة قناة السويس الجديدة متعجلا ولم تتم دراسة جدواه الاقتصادية، لذلك أرهق الاقتصاد المصري دون عائد اللهم إلا حالة الحماس الشعبي واستثارة المشاعر الوطنية، إضافة إلى التسويق السياسي الخارجي والبروباجاندا الهائلة للمشروع.
• محاولة استمالة السعودية ودول الخليج (وربما قوى أخرى محلية ودولية) بجزيرتي تيران وصنافير، وإصرار النظام السياسي غير المبرر على تقديم الأدلة والبراهين القانونية لتسهيل انتقال الجزيرتين إلى السيادة السعودية، ولم يتوقف عن ذلك إلا حين أثبت القضاء نفسه أن كل الوثائق المعتبرة تؤيد كون تيران وصنافير جزر مصرية.
• تقديم تنازلات لإثيوبيا في مفاوضات سد النهضة بحثا عن تهدئة للموضوع وربما بحثا عن رضا إفريقي بعد عزل مصر في المنظمات السياسية الإفريقية.
• التصويت على القرار وعكسه في مجلس الأمن بخصوص المشكلة السورية إرضاءً للجانب الروسي وربما الإيراني.
• تبني قرارات وإجراءات اقتصادية شديدة الوطأة (مثل تعويم الجنيه ورفع الدعم وزيادة أسعار الوقود) دون حماية اجتماعية تقي الطبقات الفقيرة والمتوسطة من توحش الأسعار بشكل جنوني وتدهور الحالة الاقتصادية بشكل غير مسبوق، كل ذلك إرضاءً لصندوق النقد الدولي، وتلبية لإملاءاته وشروطه، وبحثا عن شهادة حسن سير وسلوك لدى الصندوق.
• تحريك دعاوى قضائية ضد إسلام البحيري وأحمد ناجي وفاطمة ناعوت على أرضية ازدراء الأديان، ولم يكن ذلك غيرة على الدين بقدر ما هو محاولة لاسترضاء بعض القوى الدينية، أو إثبات الغيرة على القيم الدينية، أو نفي تهمة معاداة النظام للتوجهات الدينية.
• المبالغة في الهجوم على ثورة 25 يناير وكل رموزها ومن ينتمون إليها بهدف استبقاء المشروعية والبريق لـ 30 يونيو ومن يمثلها. وقد أدى هذا إلى استجلاب عداوات داخلية وخارجية كثيرة خاصة من قطاع الشباب والتيارات الإسلامية، وأحدث شروخا وانقسامات مجتمعية خطرة.
• المبالغة في الحشد والتسويق والترويج الإعلامي والسياسي مما أفقد الخطاب الإعلامي والسياسي الكثير من المصداقية.
• استبعاد ونفي أي صوت معارض (حتى ولو كان من معسكر 30 يونيو) خشية أن يهز الصورة أو يقلل المقبولية أو يطعن في المشروعية، وكانت النتيجة موت الممارسة السياسية، وتبني الرأي الواحد في كل القرارات والممارسات.
• التوجه لإيران استجلابا لرضاها بعد تأكد غضب دول الخليج من المواقف المصرية.
• التراجع عن تقديم ملف إدانة بناء المستوطنات الإسرائيلية في مجلس الأمن إرضاءً لترامب وإسرائيل، وللحفاظ على علاقات "دافئة" مع قوى تعتبر في الحقيقة معادية للمصالح المصرية والعربية والإسلامية.
• تناقضت القرارات وتخبطت في مواقف كثيرة بشكل حيّر المراقبين في الداخل والخارج، وذلك يرجع لأن القرارات تنبني على اعتبارات نفسية وعاطفية تتصل بعقدة "المقبولية" والبحث عن الرضا، ولا تنبني على آراء خبراء ومتخصصين أو على دراسات موضوعية.
وعلى الرغم من بحث النظام السياسي المصري عن المقبولية والرضا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، إلا أنه لم يهتم كثيرا بالرضى الشعبي فاتخذ قرارات وخطوات أدت إلى تقليص شديد لمساحة هذا الرضى، وربما يرجع هذا للتقدير المتدني لأهمية الرضى الشعبي أو حتى أهمية الشعب نفسه.
واقرأ أيضًا:
سيكولوجية الثورة / ما وراء زلة اللسان / لديهم وزارة السعادة .. ولدينا سعادة الوزير 2016 / الحواتمية بين الاصطباحة والاستباحة / مولانا !