أجريت دراسات عديدة على موضوع الكذب في عالم السياسة ووضعت كتب رصينة علميا في هذا الشأن, نذكر منها على سبيل المثال: "عندما يكذب الرؤساء: تاريخ الخداع الرسمي وعواقبه" لإريك والترمان والصادر عن (Viking Adult 2004) والذي يزودنا بنماذج كثيرة من الكذب الرئاسي في السبعين سنة الماضية, وكتاب: "لماذا يكذب القادة؟ : حقيقة الكذب في السياسة الدولية" لمؤلفه جون جي ميرشيمر (ترجمة غانم النجار – عالم المعرفة ديسمبر 2016م).
وقبل أن نتطرق إلى الكذب علينا أن نعرف ما هو نقيضه .. "الصدق" ؟ ... فالصدق "هو أن يعرض الفرد الحقائق على أتم وجه وبطريقة مباشرة وأمينة". والراوي الصادق قد يعتريه النسيان أو تؤثر فيه توجهاته وتحيزاته, ولكنه يبذل جهدا حقيقيا للتغلب على أي تحيزات أو نوازع شخصية ربما تكون كامنة لديه.
والخديعة هي أن يتخذ الفرد بصورة مقصودة خطوات متعمدة لمنع الآخرين من معرفة الحقيقة كاملة – كما يفهمها هو – بخصوص أمر محدد. وقد تأخذ الخديعة أحد الأشكال التالية :
1 - الكذب, وهو أن يتحدث الإنسان بشيء يعرف أنه غير صحيح, ولكنه يسعى لإقناع الآخرين أنه صحيح, فالكذب هو فعل عمدي مخطط لخداع الآخرين وتوجيههم حسب ما يريد الكاذب. وقد يتضمن الكذب تأليف حقائق يدرك مؤلفها أنها غير حقيقية, أو إنكار حقائق يعرف أنها صحيحة. غير أن الكذب لا يتعلق فقط بمدى صدق حقائق معينة, بل يمكن أن يكون عن طريق ترتيب الأحداث بطريقة خادعة ماكرة توصل للمتلقي معنى يقصده من يكذب عليه, وهذا ما تفعله كثيرا وسائل الإعلام الموجهة سلطويا.
2 - التلفيق, وهو يختلف عن الكذب على الرغم من وجود مساحة تداخل بينهما, وهو أن يروي شخص ما حكاية يركز فيها على أحداث معينة ويربط بعضها ببعض بطريقة تصب في مصلحته بينما يقلل من أهمية حقائق أخرى أو يتجاهلها, وقد يدس وسط الحقائق المعروفة شيئا غير حقيقي فيغير مسار الصورة لدى المتلقي. وفي حلة التلفيق لا تبذل أي محاولة لتقديم عرض واف للأحداث فالقصة المروية هنا مشوهة, وهذا ما قاله "سبورتس إليستريد" عام 2000م : "تعلمت أنه بإمكانك دائما أن تقول الحقيقة, ولكن لست ملزما بقول الحقيقة كلها". ولهذا يطلب من الشاهد في المحكمة أن يقسم بأنه يقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. والسياسيون والدبلوماسيون كثيرا ما يقولون أجزاءا من الحقيقة أو يرتبون الحقائق بطريقة معينة توصل المعنى الذي يريدونه دون أن يتورطوا في كذب صريح. والتلفيق يحدث كثيرا في القضايا ذات البعد السياسي ويكون هو سلاح السلطة ضد المعارضة فتظهرها بمظهر الخيانة وانعدام الوطنية وربما تصمها بالإرهاب.
3 - الكتمان أو الإخفاء والتستر, وهو يتعلق بحجب الحقائق وإخفائها لتحقيق أهداف معينة, وفي هذه الحالة يلتزم الشخص (أو المؤسسة) الصمت لأنه يريد إخفاء الحقيقة عن الغير. أما إذا سئل سؤالا مباشرا عن الموضوع وكذب أو ناور لإخفاء الحقيقة وهو يعلمها فإن ذلك يعد كذبا.
4 – التضليل, وهو صرف الأنظار عن الحقائق وتوجيهها وجهات أخرى, وصناعة روايات بديلة ينشغل بها الناس طول الوقت فلا ينتبهون إلى ما يحاك لهم في الخفاء.
5 – الإلهاء والاستهواء, وذلك من خلال برامج ترفيهية, أو احتفاليات بانتصارات مزعومة وإنجازات وانتصارات مبالغ فيها, أو المبالغة في الاهتمام بالأنشطة الرياضية والأعمال الفنية أو المبالغة في الشعارات الوطنية أو إذكاء النرجسية الأممية أو الدينية, لأخذ الناس بعيدا عن المجالات السياسية.
وقد وجد الباحثون أن سلوك الخديعة, سواء بالكذب أو التلفيق أو الكتمان أو التضليل أو الإلهاء, هو سلوك معتاد لدى القادة سواء في العلاقات الدولية أو في علاقتهم بشعوبهم, ولكنهم وجدوا أن نسبة الكذب في العلاقات الدولية أقل بكثير من نسبة الكذب على الشعوب, وربما يرجع ذلك إلى أن العلاقات الدولية يحكمها وجود معلومات استخباراتية لدى الدول تجعل من الصعب ممارسة الكذب الدولي بشكل مفرط, أما في حالة الشعوب فإنه من السهل التحكم في المعلومات المتاحة لهم بحيث يصلهم مايريد القادة أن يوصلوه وبالطريقة التي يريدونها.
وعلى الرغم من أن البشر تعارفوا على أن الكذب فعل مشين ومستنكر, وأنه عيب جسيم في الشخصية, وأن الأديان استنكرته وجعلته نقيضا للصدق بل للإيمان ذاته (فلا يكون المؤمن كذابا), إلا أنه في المجال السياسي يجد البعض تبريرا للكذب والتلفيق والكتمان, على اعتبار أن العلاقات الدولية ليست بالضرورة علاقات تقوم على الأخلاق والقيم والمنطق, بل تقوم على الغلبة والقوة والسيطرة والتحكم وتحقيق المصالح, ولذلك قسموا الكذب إلى عدة أنواع منها:
1 – الكذب الاستراتيجي, والذي غالبا ما يستخدمه القادة ذريعة للحفاظ علىى مصلحة وسلامة بلدانهم في وجه التقلبات الدولية, وقد يعتبرونه نوعا من المناورات السياسية المقبولة في العلاقات الدولية خاصة وقت الحروب والأزمات والصراعات.
2 – الكذب النبيل, وهذا النوع أطلقه أفلاطون على كذب يكون مفيدا للدولة في عالم تتجاذبه المخاطر. وهذا النوع من الكذب يحكم عليه بأنه نبيل حين يحقق فائدة للدولة أو يجنبها مخاطر, أما إذا فشل في ذلك فربما ينطبق عليه تسمية "الكذب الغبي".
3 – الكذب الغبي, وهو كذب بدائي ساذج وغير متقن يصدر عن قيادات تنقصها الخبرة السياسية ويسهل اكتشافه دوليا ومحليا, ويعرض القائد وبلاده لمخاطر كثيرة, حيث يفقد الثقة الدولية والمحلية ويكون مثار استهجان وسخرية وغضب من الجميع.
4 – الكذب الشخصي الأناني, وهو موجه للحفاظ على المصلحة الشخصية للقائد, وعلى استتباب حكمه وتمكينه من السيطرة على الشعب وقهر معارضيه وتشويههم وإلصاق كل التهم والرذائل بهم, وشغل الرأي العام بقضايا كثيرة ووضعه في أزمات متعددة ومتتالية حتى يصرف الأنظار عن مساءلته أو محاسبته أو الانتباه لما يحدث في الواقع.
ووجد أن الكذب الدولي والكذب على الشعوب لا ينجو منه نظام سياسي سواء كان ديموقراطيا أو دكتاتوريا مستبدا, فقد كذب فرانكلين روزفلت على الشعب الأمريكي فيما يخص الهجوم الألماني على السفينة البحرية الأمريكية عام 1941م لتدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا, وكذب كلينتون في التحقيقات الخاصة بعلاقاته الجنسية بمونيكا, وكذب جورج بوش الإبن حين ادّعى بأن صدام يمتلك أسلحة دمار شامل وكذب معه توني بلير رئيس وزراء بريطانيا ليسوغ لهما كذبهما تدمير العراق وزعزعة الاستقرار في العالم العربي. ولكن الفارق المهم هو في أن الدول الديموقراطية تمتلك آليات من كشف الخداع والكذب والتلفيق والتضليل (من أحزاب وصحف معارضة وقضاء مستقل) تكون بمثابة جهاز مناعة يمنع تفشي كل ذلك للدرجة التي تهدد سلامة المجتمع.
ولكن الخداع (بالكذب والتلفيق والكتمان والتضليل والإلهاء) يزداد ويتوحش في النظم الدكتاتورية والاستبدادية حتى ليكون هو القاعدة في التعامل بين تلك الأنظمة وشعوبها, ويستشري الكذب والتلفيق والكتمان بين الناس فيعم الفساد وتنعدم الثقة ويسود الفشل والإحباط والغضب والعنف والإرهاب والصراعات الأهلية.
والشعوب التي تعيش تحت مظلة الأنظمة الاستبدادية تفتقر إلى جهاز المناعة المشار إليه آنفا من أحزاب وصحف معارضة وقضاء مستقل, لذلك تستشري الأمراض فيها ويساعد على ذلك استخدام الإعلام الموجه كوسيلة للتضليل وتزييف الوعي.
والمتأمل في أحوال العالم العربي يلمح تلك التداعيات الكارثية للدكتاتوريات والاستبداد والخداع والتضليل ولهذا أصبح العالم العربي هو المنطقة الوحيدة في العالم التي تحتدم فيها الصراعات الداخلية والحروب الأهلية والطائفية لدرجة أصبحت تهدد الوجود العربي كله, حيث أشار تقرير التنمية الإنسانية في العالم العربي الصادر عن الأمم المتحدة أنه من المتوقع في عام 2020م أن يكون ثلاثة من كل أربعة مواطنين عرب يعيشون في مناطق صراع.
اللهم سلم أوطاننا واشفنا من أمراضنا العربية المزمنة (الاستبداد والكذب والتلفيق والكتمان والخداع) وارزقنا جميعا حكاما ومحكومين صدقا في القول والعمل.
واقرأ أيضًا:
السكر ! حتى السكر يا مصر معادش !/ عقدة المقبولية.. هي المحرك للنظام السياسي/ مولانا !