كثيرا ما نسمَعُ لوما للفقهاء والعلماء كونَهم مشتغلين في تفاصيل تافهة ألهَتْ الأمّة عن القضايا الكبرى، ويُتّهمون بأنّهم سببُ تخلّفِ الأمة وانحدارِها، مع أنّ التخلّف ظاهرة ما ادّعى أحد سببا واحدا لها إلاّ كان كاذبا ! وبصَرْف النّظر عن الأخطاء والمؤاخذات الموضوعية على طائفة الفقهاء، سنُحاوِل هنا تفتيت هذا الاعتقاد والصعود به إلى منابعه الفكرية والنفسيّة.
1- غالبا ما يختزل الناس الظواهر ذهنيّا، وأبسَط تجليّات ذلك الاختزال يتّضح في اللغة، فنتساءل: ما "سببُ" الظاهرة الفلانية؟.. فالسؤال طُرِح مُسبقا بصيغة الإفراد للسبب، ممّا يوحي بأن العقل البشري يبحث عن سبب واحد لا غير، وبالتالي ستُرضيه إحالة على سبب وحيد! وهذه الثّغرة المنطقية تُسمى بتحيّز السبب الوحيد sophisme de la cause unique بالإنجليزية: Fallacy of the single cause وهي مغالطة منطقية(1) نفترض فيها علاقةً بين سبب نضخّمه لدرجة نجعله مسؤولا وحيدا عن نتيجة معيّنة وبين نتيجة ما. فنفترِض أنّ التخلّف هنا نابع فقط من أرْوِقة المتبحّرين وسجالات المتخصّصين، وكأنّ أثر "الفكْر" في الواقع أثرٌ مُباِشر حتميّ ! وتأثير الفقهاء ممتدّ وقهريّ !
2- خوضُ المتخصصين في الحيثيّات الفقهية ليس عيبا في حدّ ذاتِه، بل الإشكال هو خروج تلك التفاصيل وأخذُها لمساحة مجتمعية خارجَ نطاقِ "المختبرات الفقهية" على لسان الأتباع الذين لا يفقهون الأولويات، من تقديم وتأخير، ومهمّ وغير مهمّ... ثم اطلاع الناس عليها في كُتبٌ يُمكنهم اقتناؤها. وهناك فرق كبير بين الخَلفيّتيْن، فلا يمكن الحَجْر على عالم بلغ في تخصّصه ما بلغ ألاّ يخوض في الدقائق !! أرونِ أحدا يحجُر على "محترِف" تدقيقَه؟
فكثير من الدول الغربية، فيها مثلا منتديات خاصّة بأصحاب الدمى الجنسيّة وكأنها زوجاتهم ! وبكل احترام وتبجيل لكيانها ! وفيها منتديات ومدونات يسيل فيها مداد كثير بخصوص ابنة خال بطل الفلم أو الأنمي التي لبِسَت حذاءً من جِلد تمساح اختلفوا في أصله، أآسياوي أم إفريقي أم أمريكي !... مع ذلك لا ننتبه لتلك التفاصيل وذلِك العبث عندهم ونلمز بالتخلف والانحطاط أمّة بأكملها بما فعلته جماعات منها ؟! سيُقال هي ليست متخلّفة، فأنبّه هنا على أنّ تعايش تفاهات وتفاصيل مع التقدم، هو أكبر دليل على عدم وجود تأثير مباشر.
قد نعيب طريقة تدخل بعض الفقهاء في الصراعات السياسية بوعي واقعي وسياسيّ هزيل. أو مُعارضة من هو أدْرى منهم،. أو تناسيهم المنظومة الكليّة التي يخضعُ لها الفرد المراد إصلاحُه! وقد نعترض على تصوّرهم للعمليّة الإصلاحيّة "المثالية"، في معادلة الكلُّ أو لا شيء، دون نمط يوازن بين الإكراهات...إلخ. كل هذا قد يقع، ولكنْ أنْ نُنْكر عليهم كلّ مرة نتعرّض فيها لنكبة، وكأنّ اشتغالهم بتلك التفاصيل هي السبب المباشر في النكبة.. فهذا خطأ كبير ومجازفة تتخذ طابعا نقديا رصينا !! فأخطاء العلماء المنهجية (كغيرهم) واقع لا يُنكره إلا من لم يذُق مرارة الإشكالات المطروحة ولم يعِها، لكنّها لا تُعالج بأخطاء أخرى.
3- عادة ما يبحثُ الناس عن مبرّرات لتفريغ توتّرهم وإحباطهم بشكل عدوانيّ إذا ما ساءَت الأمور. ويُمكن ملاحظَة هذا بسهولة في حياتِنا، فبَعْد أنْ نتعثّر ونتأذّى بشيء، نلْعنُ من وضعه في الطريق بتلك الطريقة، مع أنّه كان دائما وأبدا هناك. أو عند وفاة قريب في نشاط روتيني مثل سياقة سيارته، نلومه لأنّه لم يركب الحافلة يومَها ! مع أننا استبشرنا باقتنائه سيارته الخاصة !
وهذا ما بحَثَتْه نظريّة "كبش الفداء" Bouc émissaire أو Scapegoat حسَبَ منظور John Dollard في نظريّته الإحباط/الاعتداء Frustration/aggression، الذي يلعبُ فيها كبش الفداء دورا "تفريغيّا" في ظروف سيّئة ويُمكنُه أن يكون فردا أو جماعة أو مجتمعا، يُمارس عليهم عُنْف رمزيّ أو ماديّ (كبش الفداء هُنا هم جماعة الفقهاء على أساس الهويّة وليس بمعنى الجمْع)، ويُسنَدُ إليهم وضعٌ مزرٍ ليس من العدل نَسْبُه إليهم جزئيّا أو كُليّا على الأقلّ، وهذا للتملّص من المسؤوليّة والانتقاد الذاتيّ ومن أجل الحفاظ على صورة إيجابية عن الذّات.(2)
ودراسة أخرى لـ Rothschild, Zachary وآخرون (3) وضّحت دافِعَيْـن أساسين لاختيار فرد أو جماعة تتحمّل المسؤولية:
أ- المحافظة على "القيمة الأخلاقية Moral value" للطّرف المنتقِد. بمعنى إلصاق تُهمة التخلّف سببا ونتيجةً لطرف أضْعفْ لرفع شبهة التخلف والتسبّب فيه عنّ عامّة المسلمين ! لأنّ التقدّم والازدهار وصْفٌ لصِيق بهم، ولا يُمكن نزْعُه إلاّ بسَبب خارجيّ عنهم (الفقهاء هنا) وعن قيمِهم الأخلاقيّة وتصوّراتهم وسلوكياتهم الحضاريّة التي يستحيل في نظرِهم أن تكون سببا من أسباب تخلّفهم!
ب- الإبقاء على نوْع من الضبط والتحكّم في مجريات الواقع. فصعوبة فرزِ أسباب ظاهرة التخلّف وتعقيدُها، أو غموضُها أحيانا، يترك إحساسا بفقد السيطرة، فيلْجأ الناس لتعيين سبب واضِح يُسنِدون له ذلك "الشّر" من أجل زيادة الشعور بالتحكّم، والإبقاء على عالم واضح المعالم والأسباب !
وطبعا لا يقوم الاختيار على أُسُس اعتباطيّة، بل وراء ذلك آليات معرفية ونفسيّة تُحدّد مجال الاختيار من بينها: الاختلاف، والعداوة وما يغذيها من الأحكام المسبقة والأفكار النمطية، سهولة النفاذ لكبش الفداء وقُربُه من الناس، ضُعفه وعدم امتلاكه للسلطة، وبعض مميزاته (فردا أو جماعة) مثل : التحلّي بالفضيلة، رفض قيم ومبادئ الناس، أهداف مختلفة عن عامة الناس... إلخ .(4) وتلاحظون أنّها سمات لا تكاد تنفك عن طائفة الفقهاء !
4- "ما دام الفقهاء يُبيّنون أحكام كلّ شيء، ويخوضون في كلّ شيء، فهُم قادرون على صناعة واقع كلّ شيء !" هذه المسلّمة الخاطئة أحد ركائز الاتّهام، فبما أنّهم ينْبَرون لنا (في علاقة نراها أحيانا قمعيّة) لتوضيح الحلال والحرام فإنّ واجبهم إزاءنا هو إصلاح ظروفنا وإخراجنا من تخلّفنا !!
وهذا لا يقول به عاقل إذ كلّ مختص له مجال معيّن، فضلا عن قدرة معيّنة، ولا يُطلب من الطبيب الذي يعالج المرضى في الحرب أن يوقف الحربَ بدعوى أنّه مشترِك فيها بالتّضْميد والعلاج وإعطاء "الأحكام الصحيّة" الوقائية للمقاتلين أو العلاجية للمرضى. إضافة إلى أنّ عمل الفقهاء هو إسقاط الأحكام (ما يجب أن يكون) على الواقع، وليس صناعة الواقع نفسه (ما هو كائن). فهناك فرق بين أن أعطي معاييرَ محدّدة لبناء منزل صحيّ وبين أن أشيّده بنفسي.
إذن، من منطلق "قدّم لنا حلاّ أو أرحنا بسكُوتك" اختلّ الحُكم في مثل هذه القضايا، وللفقهاء والعلماء النصيب الأكبر من هذا الظلم والتّعسّف، بسبب الشيطنة المُمنهجة، وأيضا بسبب أنّ الناس لا تُحبّ من يذكّرها بالتزاماتها عموما، خصوصا إن كانت شاملة لكل حياتهم وسلوكاتهم. ولا تُحبّ من يصدُر عليها أحكاما بغض النظر عن صحّتها وواقعيّتها. فهي علاقةُ عداء ضمنيّة، وجدتْ أرضية معرفيّة ونفسيّة هشّة.
ولنكنْ صادقين، ونتساءل قليلا: هل للأزبال في شوارعنا علاقة بالفقهاء ؟ هل لأخطائنا الفظيعة مع أزواجنا وأولادنا علاقة بهم؟ تخلف الصناعات عندنا، الاعتداء على بعضنا، شهادة الزور، الزبونية وعدم تكافئ الفرص، فسادُنا كمسؤولين صغارا وكبارا، تعليمُنا، مواعيدنا، عاداتُنا المقرفة... نتغاضى عن كل هذا ثم نقول "الفقهاء" ؟!
المصادر:
1- http://bit.ly/2u85Ya4
2- http://bit.ly/2u4VYKM
3- http://bit.ly/2fcn5AU
4- http://bit.ly/2vtR7Gs