يستهدف هذا المقال إلقاء نظرة عامة على ظاهرة الانتحار في اليافعين ودور المواقع الاجتماعية على السلوك الانتحاري بصورة خاصة. للوصول إلى استنتاج سليم حول دور المواقع الاجتماعية الإلكترونية والانتحار لابد من مراجعة إحصائيات وأرقام لا تقبل الجدال بدلاً من الاستناد على دراسة تتميز بصغر عينتها التجريبية وضعف قوتها الإحصائية. سيتم تتبع هذه الدراسات لإثبات أو رفض الفرضية التالية: المواقع الاجتماعية (ومنها تحدي الحوت الأزرق) عامل قوي للانتحار في اليافعين.
مقدمة
تحتار المؤسسات الصحية العالمية في وضع مؤشر لقياس فعالية الخدمات الصحية العقلية واختيار مؤشر الانتحار لهذا الغرض لا يخلو من التعقيد. ليس كل من ينتحر يمر عبر الخدمات الصحية العقلية ولكن الجمهور يسقط اللوم عليها ويتهمها بعدم الوصول إلى المواطنين الذين هم بحاجة اليها. يرتفع احتمال الانتحار أيضاً في كل مريض يراجع الخدمات الصحية العقلية وهناك حقيقة لا تقبل الجدال وهي أن احتمال الانتحار يرتفع في أَي مواطن يراجع طبيباً نفسانياً أو غيره بسبب مشاكل نفسية. هناك عوامل اقتصادية واجتماعية وتعليمية تلعب دورها، ولكنها نادراً ما تثير انتباه الإعلام مثل الخدمات الصحية العقلية.
الإحصائيات العامة
لا يتم تصنيف الانتحار كسبب لنهاية الحياة قبل عمر عشرة أعوام. هناك العديد من الإحصائيات التي يمكن مراجعتها ولكن أكثرها دقة وعلمية هو الإحصائيات الصادرة سنويا من الدائرة الوطنية للإحصاء في بريطانيا Office of National Statistics ما نعرفه من هذه الدائرة هو ما يلي:
• أولاً: احتمال انتحار الذكور عموما هو ثلاثة أضعاف الإناث.
• ثانياً: ترتفع نسبة الانتحار تدريجياً من عمر ١٥- ١٩ عاماً وتصل القمة في عمر ٤٠ – ٤٤ عاماً.
• ثالثاً: تنخفض نسبة الانتحار بعد عمر خمسين عاماً تدريجيا إلى عمر ٨٠ عاماً.
• رابعاً: ترتفع معدلات الانتحار تدريجياً بعد عمر ٨٠ عاماً وتقترب إلى نفس معدلها في عمر ٤٥- ٤٩ عاماً.
نسبة الانتحار الإحصائية هي العدد لكل ١٠٠ ألف نسمة. هذا الرقم هو خمسة بين عمر ١٥- ١٩ عاماً و ٢٤ في عمر ٤٠-٤٤ عاماً.
الانتحار خلال نصف قرن من الزمان
النشرات الإعلامية تهول الانتحار وتدعي بأن معدلات الانتحار في ارتفاع دائم بسبب الظروف السياسية والاقتصادية ونمط الحياة الجديد. الحقيقة هي أن هذا الكلام بعيد جداً عن الواقع. معدل الانتحار عموماً يميل إلى الانخفاض منذ بداية الثمانينيّات من القرن الماضي ولكن ذلك يختلف من مجموعة إلى أخرى كالآتي:
• أولاً: لم يحدث أَي تغيير في معدلات الانتحار بين عمر ٣٠ – ٤٩ عاماً وهي المجموعة الأكبر.
• ثانياً: ارتفعت معدلات الانتحار بين ١٩٨٢- عام ٢٠٠٠ في مجموعة ١٠ – ٢٩ عاما وبدأت تنخفض تدريجياً وبصورة ملحوظة حتى وصلت نسبة ثابتة وهي عشرة/١٠٠ ألف نسمة منذ عام ٢٠٠٦ إلى الآن. ما هو ملاحظ انخفاضها أيضاً من عام ٢٠١٥ إلى عام ٢٠١٦.
أسطورة الحوت الأزرق
لعبة الحوت الأزرق أو تحدي الحوت الأزرق ولدت مع ظهور مقالة في صحيفة روسية Novaya Gazeta في مايو ٢٠١٦ مدعية بأن ما لا يقل عن ٨٠ حالة انتحار بين نوفمبر ٢٠١٥ إلى أبريل ٢٠١٦ ينتمون إلى مجموعة تلعب تحدي الحوت الأزرق عبر الإنترنت. تقول الأسطورة بأن الموقع يعطي المشارك به ٥٠ تحديا على مدى ٥٠ يوماً وفي الْيَوْمَ الأخير عليه أن يقتل نفسه.
هذا الخبر المثير حاله حال كل خبر يحتوي على كمية من الإثارة انتشر بسرعة البرق عبر المواقع الاجتماعية في النصف الشرقي من الكرة الأرضيّة ووصل كذلك إلى النصف الغربي. ادعى بعض ذوي المنتحرين في بريطانيا بأن الحوت الأزرق وراء الانتحار وتم التحقيق في هذا الأمر أكثر من مرة ولم يتم إثبات وجود علاقة فحسب ولكن الاستنتاج كان بأن مثل هذه الظاهرة لا علاقة لها بانتحار أَي مراهق.
بفضل انتشار هذه الأسطورة بدأ بعض اليافعين يدعون بأنهم ينتمون إلى هذه المجموعة ويواجهون هذا التحدي ويحاولون الحصول على الشهرة من خلال ذلك. الحقيقة أن ليس هناك ما يستحق الذكر في هذه التصريحات.
لذلك فمن أجل دراسة هذا الموضوع بصورة علمية لابد أن نتفحص ما يلي:
أولاً: الانتحار في اليافعين.
ثانياً: الأفكار الانتحارية في اليافعين.
ثالثاً: ما هو حقاً دور المواقع الاجتماعية في ولادة الأفكار الانتحارية والانتحار بحد ذاته.
الانتحار في اليافعين(2)
لو تفحصنا مختلف الدراسات الميدانية في هذا الموضوع سنرى عوامل نفسية وعقلية واجتماعية متعددة وهي:
١- محاولة انتحارية سابقة.
٢- الإصابة بمرض عقلي مثل الاكتئاب والفصام والقلق الاجتماعي.
٣- استعمال مواد كيمائية محظورة.
٤- تاريخ للتعرض إلى سوء المعاملة عائلياً أو اجتماعياً.
٥- تاريخ عائلي للسلوك الانتحاري.
٦- الشعور باليأس.
٧- مرض جسدي مثل الصرع.
٨- نزعة عدوانية أو تهور.
٩- خسارة مادية.
١٠- نبذ اجتماعي.
١١- مشاكل في العلاقات الحميمية.
١٢- العزلة وغياب السند الاجتماعي.
١٣- توفر وسائل الانتحار.
١٤- التعرض إلى آخرين مارسوا السلوك الانتحاري.
مقابل ذلك نرى العوامل الواقية للانتحار تشمل:
١- توفر الرعاية الاجتماعية النفسية.
٢- تقييم المخاطر.
٣- السند الاجتماعي والعائلي.
٤- تطوير مهارات الإنسان لمواجهة التحديات والأزمات.
٥- وجود نظام معتقد ثقافي أو ديني معارض للانتحار.
الحقيقة أن هذه العوامل لا تقتصر على أية مجموعة يتم تعريفها بالعمر وفي صدد الحديث عن الانتحار في اليافعين يمكن القول بأن العامل الرئيس الأكثر ملاحظة هو الاكتئاب فيما يقارب ٨٥ ٪ من الحالات والثلث منهم لا تزيد مدة الاكتئاب على ثلاثة أشهر. استعمال المواد الكيمائية المحظورة عامل قوي مع وجود الاكتئاب. هذه الحقيقة لم تتغير منذ أكثر من ٢٥ عاماً.
الأفكار الانتحارية في اليافعين(1)
هناك دراسة قوية وكبيرة صدرت من النرويج تساعدنا في الوصول إلى إجابة للسؤال المطروح في هذا المقال. واحد من كل ٦ يافعين له تجربة مع التفكير بالانتحار. يمكن أولاً أن نقارن هذا الرقم مقابل الانتحار الذي لا يزيد على خمسة في كل ١٠٠ ألف نسمة في هذا العمر. الأفكار الانتحارية أكثر انتشاراً في الإناث (١٩٪) مقابل الذكور (١٤٪).
وهناك علاقة إحصائية قوية بين هذه الأفكار والعوامل التالية:
١- اضطراب القلق والاكتئاب.
٢- اضطرابات التصرف وعجز الانتباه وفرط الحركة.
٣- البدانة.
٤- الشعور بالألم والضغط.
أما العوامل الواقية المضادة للأفكار الانتحارية فهي:
١- عدم استعمال مواد كيمائية محظورة.
٢- النشاط البدني.
المواقع الاجتماعية والانتحار(3)
استعمال التكنولوجيا الحديثة والتواصل عبر الإنترنت انتشر بصورة واسعة مع بداية الألفية الثالثة، وبسبب ذلك يتم إسقاط اللوم عليه بسرعة في الحديث عن مختلف الاضطرابات النفسية والسلوك الانتحاري والانتحار. جميع هذه الدراسات تبحث عن علاقة بين ساعات استعمال الكمبيوتر والمواقع الاجتماعية وتستنتج بأن عدد ساعات الاستعمال اليومية تتناسب طرديا مع الأفكار الانتحارية والسلوك الانتحاري والانتحار نفسه. يستلم الإعلام هذه البحوث ويتم تفسيرها بأن المواقع الاجتماعية هي السبب دون التطرق إلى الاحتمال الآخر الأكثر منطقياً وهو أن القلق والاكتئاب والظروف النفسية الاجتماعية القاهرة هي التي تدفع المراهق لاستعمال هذه المواقع.
الاستنتاج
المواقع الاجتماعية تلعب دورها في التواصل بين اليافعين وربما الحديث عن الأفكار الانتحارية والسلوك الانتحاري. لكن الدليل على أن استعمال المواقع الاجتماعية يؤدي إلى الانتحار ضعيف جداً أو الأصح لا وجود له.
يبقى الاضطراب العقلي بمختلف أنواعه هو السبب الرائد للانتحار في اليافعين وربما استعمال المواقع الاجتماعية يبعد المراهق عن ذويه وبالتالي تصعب ملاحظة أعراض المرض فيه. ربما يتوجه المراهق إلى الإنترنت للبحث عن علاج لإضطرابه النفسي قبل استشارة ذويه وطبيبه وهكذا لا يساعد البعض. لكن هناك حقيقة أخرى لا يمكن غض النظر عنها وهي أن معدلات الانتحار هبطت ولم ترتفع مع ولادة الإنترنت ويجب توخي الحذر في القبول بأرقام تصدر من دراسات ركيكة. بعبارة أخرى ربما استعمال الإنترنت يساعد البعض منهم.
أما أسطورة الحوت الأزرق فأقرب إلى الخرافة فهي إن وجدت فلا يتوجه إليها إلا من يعاني من اضطراب عقلي.
المصادر
1- Strandheim A, Bjerkeset O, Gunnell D, et al (2014): British Medical Journal. Open Access.
2- Brent D, Perper G, Moritz G, Allman C, Friend A, Roth C, Schweers J, Baluch L, Baugher M (1993): Psychiatric risk factors for adolescent suicide: A case Control Study. Journal of American Academy of Child and Adolescent Psychiatry 32(3): 521-529.
3- Luxton D, June J, Fairall J (2012): Social media and suicide: A Public Health Perspective. Am J Public Health 102(Suppl 2):S195-S200.