كانت الصدمات الثلاث التي تلقيتها وتلقاها كل الأطباء النفسانيين وغيرهم من الأطباء فضلا عن كثير من المرضى عنيفة متتالية الإيلام بشكل غير مسبوق ولا حول ولا قول ولا قوة إلا بالله، كانت الأولى يوم الأحد حين عرفت أن أ.د محمد حافظ الأطروني توفاه الله وقدر صدمتي شعرت بالغضب لأني منذ حوالي الشهر كنت ذاهبا للمنصورة لمناقشة رسالة ماجستير وطلبت أن أزوره حيثما كان ولم يشجعني أخي أ.د السيد صالح ... ولا ضغطت أنا لأنه قال مش هينفع ! ... قدر الله وما شاء فعل، ثم بعد أربعة أيام كنت من المنتدبين لامتحان الزمالة المصرية في الطب النفسي في مبنى الأمانة العامة للصحة النفسية، وخرجت حوالي الواحدة والثلث بعد الظهر لألقى د. طارق أسعد بعيدا واقفا مع د. محمد رفعت الفقي، فغيرت اتجاهي وصافحت واحتضنت طارق وصافحت واحتضنت رفعت... ثم بعد حوالي خمس ساعات أبلغني أحمد أبو هندي ولدي الأوسط وهو مرتعش الصوت في المحمول "بابا دكتور طارق أسعد تعيش إنت" انتفضت مصدوما وقلت له طيب يا ابني ذاكر أنت وسوف أوصل الخبر للزقازيق وبدأت أحاول الاتصال بابن عبد الله فلا يرد ثم قررت الاتصال بجاري في عيادة الزقازيق وصديقي د. أسامة يوسف ... لكن أحمد ابني لم يمهلني واتصل ثانية ليقول : "بابا دكتور منير فوزي تعيش إنت" وقفت على قدمي لقد التقيته من أسبوعين في القسم وكان بصحته لا حول ولا قول ولا قوة إلا بالله ... فقال لي ليس أغرب من موت د. طارق أسعد ! البقاء لله .... لكنني رغم عميق ما أكن من مشاعر لأستاذي حافظ الأطروني رحمة الله عليه الذي تعلمت منه كثيرا عبر حواراتنا على هامش المؤتمرات، ورغم حبي الشديد لأخي د. طارق أسعد يرحمه الله والذي يشاركني فيه كل من رآه وتعامل معه من أطباء النفس العرب، كل منهما يحتاج أن تكتب فيه مدونة إلا أن د. منير فوزي هو أقرب هؤلاء مني فبينما اقتصر تعاملي مع الأولين على الأمور العلمية كانت لي مع د. منير علاقة امتدت 28 سنة أي أكثر من نصف سنين حياتي.
فعلا أرجعتني صدمتي بوفاة أستاذي د. منير حسين فوزي 28 سنة إلى الوراء ... ورحت أتذكر لمسات داعمةٍ بناءةٍ متعددة لذلك الأستاذ الجليل الذي فقدناه في حياتي وعلى المستوى الإنساني... وعلاقتي به رحمه الله، بدأت منذ السنة الأولى لي طالبا في كلية الطب جامعة الزقازيق حيث كنت واحدا من بضعة طلاب (غالبا يتغيرون إلا أنا) ينتظرون حتى الساعة الثانية بعد الظهر لحضور محاضرة العلوم السلوكية، التي كان يدرسها الفقيد بنفسه، ولأن الطب النفسي كان هو الطريق الذي اخترته لنفسي من قبل سنة الثانوية العامة فقد كان حضور محاضرة العلوم السلوكية مهما بالنسبة لي، وربما تكرار حضوري دون الباقين هو ما جعل الفقيد يخصني بابتسامة جادة دافئة فقد لاحظ اهتمامي وجديتي، فرغم أن فرقتي كانت الفرقة الأولى نظام حديث وهو النظام الذي ألغيت بموجبه سنة الإعدادي في كلية العلوم والتي كانت قبل تلك السنة فرض عين على كل من يدخلون كليات الطب أو الصيدلة.... وكانت فرقتنا هي الفرقة التجريبية حيث انتقلنا مباشرة من الثانوية العامة إلى أولى طب بشري...... فكنا فرقة من المساكين المصدومين بالدراسة الكاملة بالإنجليزية للمرة الأولى وكثرة المواد كما ونوعا... وكان أساتذتنا كذلك غير معتادين على قادمين جدد لم يدرسوا من قبل بالإنجليزية ولا تعودوا على العمل في المعامل ولا ......إلخ. وكان كل الأساتذة عادة ما يتهموننا بالضعف والعجز عن التحصيل بالقدر المناسب ولا أحد يلتمس العذر حتى أننا فقدنا أكثر من سبعة طلاب حولوا ملفاتهم لكليات غير الطب البشري... وكنا جميعا نعاني خاصة في الشهور الأولى للدراسة، وكان أغلب الطلاب أميل إلى عدم انتظار محاضرة باللغة العربية فهم يستطيعون قراءة المادة بأنفسهم وكفاهم ما هم فيه غارقون بين الكتب والمذكرات الإنجليزية والقواميس والعظام البشرية، إلا أنني لم أفوت واحدة من محاضرات د. منير فوزي رحمه الله.
ولا أنسى المحاضرة الأولى وكيف كان رد فعله فيها على وجود ثلاثة حضور فقط من فرقة تزيد عن 800 طالب وطالبة ... هو تعبيره عن عميق إدراكه لصعوبة ما يواجه الطلاب في هذه السنة -التجريبية- الأولى فهو يعطيهم العذر ولا ينوي أبدا أن يحملهم فوق طاقاتهم، كما يعطي العذر ... ليس هذا فقط بل قال أنه على يقين -في هذه الظروف- من أن الحاضرين هم الأكثر اهتماما بالعلوم الإنسانية والنفسية وهذا يجعل المحاضرة بالنسبة له من أهم المحاضرات، كانت المرة الأولى لي في تلك السنة التي أسمع فيها محاضرا يقول بأنه يقدر معاناتنا ويدركها ويراعيها ولا ينوي أن يزيد منها... وكانت محاضراته دائما تتسم بالبساطة والتشويق ويخلط علم النفس بالطب النفسي بالثقافة والفن والآداب في مزيج متجانس ولغة عربية رصينة.
في السنة الثالثة لي في الكلية تعرضت لصراع عاطفي إبان علاقة مع زميلة أصغر وعندما شعرت بالحاجة الماسة إلى من يساعدني في فهم أبعاد معاناتي خاصة وأنها كانت تفسر ما لا يعجبني من سلوكها بأنه بسبب الفصام.... سألت عن مكان عيادة د. منير فوزي وذهبت إليها.... انتظرت دوري ولفت نظري معلقتان داخل العيادة إحداهما كانت تفيد بأنه ممنوع إعطاء شهادات مرضية لتأجيل الامتحان والأخرى كانت تفيد بأن نقابة الأطباء منحت د. منير لقب الطبيب المثالي.... حين دخلت عليه غرفته فاجأني أنه وقف وسلم عليّ سلام من يعرفني وقال لي ما لك أنا أعرف أنك طالب متميز... فقلت له إنما جئتك لأمر آخر وحكيت له حكايتي مع تلك الفتاة وكيف أنها تبرر تصرفاتها المتناقضة والمضطربة بأنها مريضة نفسيا وأن أحد أساتذة القصر العيني شخص حالتها فصام.... لم أكن أعرف شيئا عن الفصام وقتها... وكنت أظن أن من الممكن أن أعالجها بمعونة د. منير ... وضح لي جيدا أن هذا غير ممكن وأن ما حكيته أنا له عنها غالبا لا يشير لا إلى فصام ولا إلى مرض نفسي بعينه ... والأهم من ذلك هو أنه لا يمكن علاجها بالمراسلة... ولكنه يستطيع مساعدتي متى احتجته ... ثم سألني عن مستوى تحصيلي الحالي وقد بقي أقل من شهر على امتحانات الـ20% كما كانت تسمى وقتها ... فقلت له أنني قصرت كثيرا لكنني إن شاء الله سأنجز ما علي ... فقال لي ألا تريد أن أعطيك شهادة طبية للتأجيل فقلت له لا فقال أنا على يقين أنك تستطيع فقد لاحظت أنك حضرت محاضرات العلوم السلوكية على مدى سنتين وأنا أقدر فيك جديتك ورفضك لفكرة التأجيل... والحقيقة أنني لم أكن أملك الجرأة لأؤجل خوفا من الوالد يرحمه الله والذي كان وقتها مسافرا وأغلب الأسرة معه في السعودية لكنني رغم ذلك كنت أخافه..... وأذكر أني خرجت من عنده وقد اتضحت في ذهني استراتيجية التعامل مع الفتاة وكذلك كنت سعيدا لأني حظيت باحترامه لي وعرفت أنه يعرفني جيدا ... ليس هذا فقط بل يعتبرني زميلا لأنه أمر مساعدته في العيادة أن ترد لي الكشف رغم أنه ظل يسمعني لأكثر من 20 دقيقة.... مرة أخرى تصقل علاقتي مع هذا الأستاذ الجميل رغبتي في أن أكون طبيبا نفسانيا.
في السنة الرابعة من الكلية بدأت الدراسة الإكلينيكية وبدأت أنا العمل الطلابي من خلال الأسر.... وبدأت أكتب الشعر وأسست الجماعة الأدبية التي ضمت أدباء الكلية وأديباتها ... وكنت ألقي الشعر على الزملاء زرافاتٍ ووحدانا وكذلك في حفلات الأسر... وكان الفقيد وقتها مكلفا بمنصب رائد الشباب بالكلية يحضر ما يستطيع منها .... وهو ما جمعني به مرات العديدة هو الضيف الأكبر أو أحد كبار الضيوف وأنا من أصحاب الملكات الأدبية والثقافية ونجوم الحفل... وكان اهتمامه بي وقتها ظاهرا وبقدر ما كان ذلك يسعدني بقدر ما كنت أشعر بالثقة في شعري وكتاباتي .... ويزيدني إصرارا أن أختار الطب النفسي تخصصا.... -ظانا بأن هذا سيمكنني من الاستمرار في مشواري الأدبي- وبعد نهاية تلك السنة وفي إجازة صيف العام الدراسي 1985 كنت عضوا في فريق الكشافة بالكلية حيث استصلحنا خلال أسبوعين بعض مربعات ومستطيلات الأرض المحيطة بمبنى الكلية ووضعنا فيه شتلات النجيل وبعض الشجر، وفي الأسبوع الثاني للمعسكر زارنا رائد الشباب أ.د منير حسين فوزي (يرحمه الله) وأخذت لنا الصور معه ...... ويظهر الفقيد في الصورة على يسار الشاشة بجانبه الأيمن ثاني الواقفين من يمين الصورة ويليه زميلنا الصعيدي عادل غانم ثم أول من فقدنا في قسم الطب النفسي بالزقازيق د. محمد إبراهيم سحلول يرحمه الله.
اضغط الصورة لرؤية نسخة أكبر |
وأما الجماعة الأدبية فقد ظلت تصدر نشرتها الأدبية الأسبوعية المطبوعة في الكلية باسم الاتحاد وهو ما كان يعني أن رائد الشباب كان لابد يوافق ويضع إمضاءه على أحد عشر نسخة -على الأقل- من النشرة لتطبع تصويرا في مكتبة الطلاب بالكلية بمقدار 400 نسخة توزع على الطلاب... يعني كثيرا ما جلست إلى جواره وهو رئيس القسم وأنا طالب بالكلية أعرض عليه صفحات النشرة هذا مقال وذي قصة قصيرة وهذه قصيدة ... وكان رحمة الله عليه كل مرة يقرأ شعري أو كتاباتي ويعلق جميل أنت فنان كما لفت نظره اختياري لاسم ولفوت وقال لي كأنه اسم ألماني...... وكنت طوال تلك الفترة لا أتوقع أني سأكون من متفوقي الفرقة الذين لهم حق التعيين بالكلية، كنت أنوي اختيار تخصص الطب النفسي في وزارة الصحة ... وأواصل مشواري الأدبي..... إلى جانب الطب النفسي..... ربما لذلك السبب لم أخبره يوما خلال فترة الكلية برغبتي في التخصص في الطب النفسي لأني كنت أظن انفصال الجامعة ومستشفياتها عن مستشفيات الصحة كاملا.
سمعت بعد ذلك وأنا في سنة الامتياز أن الفقيد تعرض لاعتداء أحد المرضى من طلاب الكلية حدث ذلك أمام مبنى المعامل بالكلية ورغم ما تعرض له الفقيد رحمة الله عليه من اعتداء أمام ابنته الطالبة بالكلية إلا أنه أصر على أن يؤخذ المريض إلى المستشفى النفسي لا قسم الشرطة، ...... ولأنني كت أعرف الطالب المريض الذي ارتكب تلك الجريمة وأعرف ضخامة جسده مقارنة بالفقيد الذي فوجئ بمريضه القديم بعد أن سلم عليه يتهمه بأنه انضم لأعدائه (أفراد أسرته) وهان عليه أن يتركه مريضا ويسافر -وكان رحمة الله عليه سافر إلى السعودية للعمل فترة قصيرة... أتخي ما حدث جيدا لمعرفتي بالمريض المجرم والذي كاد يكرر نفس الفعلة مرة أخرى مع عميد الكلية وكان فعلها مع أحد رؤساء الأقسام قبلا... كنت قادرا على تصور كم الخلق والسماحة والمهنية في إصراره على معاملة المريض كمريض.... وكان إعجابي بشخصه يتزايد وينمو......
وكنت يوم نتيجة البكالوريوس فوجئت بأن لي ترتيبا على الدفعة يسمح لي بأن أعين نائبا بالمستشفيات الجامعية ... كنت نويت اختيار الطب النفسي في وزارة الصحة فشاء الله أن يكون ممكنا ربما في الجامعة.... شغلتني سنة الامتياز بكثير من المتعلق بالأدب ربما أكثر من الطب لكنني قرب نهاية السنة التدريبية كان علي الاجتماع بزملائي للاتفاق على اختيار التخصصات ... وكانت درجاتي في مادة الجراحة أعلى كثيرا منها في مادة الباطنة التي تضم الطب النفسي ... بحيث كان ممكنا أن أكون الأول في تخصصات جراحة القلب والصدر أو العظام ...إلخ ... بينما كنت الثالث في ترتيب المتقدمين لوظيفة نائب طب نفسي .... وكان معنى ذلك أن علي تنفيذ ما نصحني به الزملاء من ضرورة التواصل مع رئيس القسم الذي تريد النيابة فيه لأنه هو الذي يقرر كم متقدما سيقبل .... ولا أذكر الآن لماذا وقتها لم أقابله وإنما اتصلت به تليفونيا ... وأنا أتكلم عن سنة 1987 فلم يكن هناك تليفون محمول واتصلت برقم العيادة الأرضي عرفت نفسي وطلبت محادثة د. منير ... وحقيقة لا أذكر هل تواصلت معه فورا أم انتظرت انتهاء كشف ... لكنني شرحت له الوضع ففاجأني رده يرحمه الله ... قال لي: "برافو يا وائل برافو عليك" ... "دي شغلانة كويسة لك وأنت كويس ليها" ... قلت له ربما أكون الثالث فكان رده "سوف نأخذ كل المتقدمين حتى نأخذك" .... حظيت وقتها بإحساس سعادة واثقة وزهو شامخ وأكثر من ذلك لا أستطيع وصفا.... يرحمه الله ما لقيته إلا وزادني حبا في مهنة الطب النفسي.
وانتهت سنة الامتياز وقد عرفت أني سأكون نائبا في قسم الطب النفسي، وبعدما حان موعد استلام النيابات اكتشفت غياب د. منير بسبب سفره إلى السعودية.... واستمر غيابه أغلب فترة النيابة حتى استطعت ترتيب موعد معه لأطلعه على رسالة الماجستير التي كان موضوعها النواحي النفسية للتعقيم الاختياري في الإناث... سلمته النسخة المبدئية من الرسالة وانتظرت أسبوعين ثم اتصلت به لأسئله فقال لي نلتقي الأحد القادم في القسم.... كنت في ذلك الوقت سعيدا بمجهودي الذي قمت به وسعيدا بالنتائج التي توصلت لها .... لذلك كنت أتعجل اللقاء معه منتظرا أنه سيثني على العمل... وانتظرت يوم الأحد صباحا في فناء المستشفى حتى رأيته نازلا من سيارته المميزة فاتجهت إليه لأصحبه في صعوده إلى القسم وٍسألته مرتين عن رأيه وكان ينظر لي نظر معناها اصبرْ .... وبمجرد ما أغلق باب المصعد قال لي: من يرى استعجالك هذا وإلحاحك يتوقع شيئا مختلفا عن الواقع .... قلت له خير يا أستاذي فقال انتظر حتى نصل المكتب... وعندما وصلنا كان تلميذه المشرف الثاني على الرسالة د. ماهر المغربي حاضرا في المكتب وفوجئت بالدكتور منير يسألني قل لي يا وائل على أي أساس اخترت أن تقارن النساء اللاتي أجريت لهن عملية التعقيم الاختياري بالنساء المشتكيات من العقم الثانوي ؟؟ .... نظرت إلى د. ماهر صاحب الفكرة فلم يتكلم فقلت ردا على السؤال : المجموعة الأولى أنجبن طفلا أو أكثر ثم اخترن التعقيم بربط الأنابيب فأصبحن عاجزات عن الإنجاب وأما المجموعة الثانية فهن عاجزات عن الإنجاب بعد طفل أو أكثر دون أن يخترن ذلك.... فقال لي ولم لم تضف مجموعة ضابطة ؟ أنت في هذا البحث كمن يقارن اثنين انتحرا بالقفز من نافذة طابق مرتفع في شارع البوستة بالزقازيق هذه السنة (1989) باثنين داس فوقهما المترو في القاهرة سنة 1952.... فماذا تتوقع ؟ لم أستطع الرد !! فقال لي الحل الوحيد أمامك هو أن تضيف مجموعة ضابطة وتعيد الإحصاء فهل أنت مستعد لإعادة الجداول والإحصاء وتعديل ما يلزم قلت نعم هذه ليست إلا نسخة مبدئية قال إذن أنجز ودعني أرى...... كنت حتى اللحظة التي خرجت فيها من مبنى المستشفى وأنا في ذهول تام أحسب أن النقد موجها لي وأنني كان يجب أن أكون أفضل كثيرا مما كنت .... حتى قابلني الزميل الأكبر د. خالد عبد العظيم وحدثته بما كان فقال لي ولماذا أنت متوتر إلى هذا الحد فقلت له أني صدمت لأني كنت أنتظر كلاما غير الكلام فكان رده : وما علاقتك أنت بما قاله د. منير قلت أنا صاحب البحث فقال بل أنت المتدرب على البحث والكلام كان للمشرف الثاني عليك لأن د. منير وهو المشرف الأول قد وكله بمتابعتك في غيابه لتسجل الدكتوراه فالمشرف الكبير يشرف على الصغير يا وائل وليس الكلام لك.... لكنني للأسف لم أهدأ إلا قليلا حتى أنجزت ما طلبه مني د. منير وعرضته عليه وهذه المرة كانت في عيادته يرحمه الله .... وبعدما تصفح الرسالة قال لي أنقذت الموقف بهذا الشكل فقلت له أنا آسف على ما حصل فكان رده الاعتذار كان منتظرا من المشرف الذي يفترض أنه يعلمك ويدربك ويشرف عليك .... فأنت أنجزت ما طلب منك بمستوى جيد جدا والمشكلة كانت في خطة البحث....... عرفت وقتها أن الكلام الذي آلمني لم يكن موجها لي بالأساس، وقال لي تذكر دائما أنك تتعلم وإن شاء الله تتجنب مثل هذا في رسالة الدكتوراه......
مرة أخرى لا أذكر توقيتها ولا هدفها على وجه التأكيد، كنت في زيارة له في العيادة لأعرض عليه شيئا وأنا هذه المرة أحد أبنائه بالقسم وبينما أنا على باب غرفته بعد انتهائه من الحالات .... دخل ثلاثة أشخاص وبعد جلوسي معه بقليل دخلت المساعدة لتبلغه بأن كشفا جديدا ينتظر... ثم بعد حوالي 4 دقائق دخلت المساعدة مرة أخرى لتعلمه بأن يأخذ وقته معي لأن المريض وأهله استردوا قيمة الكشف .... شعرت لحظتها بحرج شديد ظانا أني السبب (ولا أعرف حتى اليوم ما إن كنت السبب أو كان آخر).... فقلت له أنا آسف فكان رده علام تتأسف ؟ أنا أفرح في مثل هذه المواقف وأعتبر أن هذا المريض لو لم يسترد الكشف فإني كنت سأفقد قيمته بأي شكل.... وربما فقدت غيره معه.... فلو كان رزقي ما قاموا باسترداده !! كان موقفا تعلمت منه الكثير ..
ثم في موقف عصيب تعرضت له أثناء ترقيتي لأستاذ مساعد ... ودون الدخول في تفاصيل لا أود تذكرها.... كان الفقيد في مرحلة التقاعد عن العمل ورئاسة القسم ... لكنه كان رجل جامعة الزقازيق القوي بالنسبة لمن ينوي التقدم للترقي في اللجنة العلمية للترقيات بالقاهرة..... أخذت ملف الأبحاث التي كان علي تقديم بعضها للجنة الترقيات وعرضته على الدكتور منير رحمة الله عليه فنصحني في الاختيار والترتيب وطمأنني.... ثم لما قدمت الملف وطلب مني كتابة مقال مراجعة عن اضطرابات التحكم في الاندفاع جهزت المقال وذهبت له، فطلب مني اختصارها بعض الشيء وطمأنني بجدية وثقة .... وعرفت بعدها أنه كان المحكم الذي اختارته لجنة الترقيات لتقييم أبحاثي كمتقدم من جامعة الزقازيق، فأكرمني كما يكرم المرء ابنه ... وقالها لي في تلك الفترة مرات ... أنت مثل ابني مهاب.... يعني غلاوتك غلاوة مهاب.
ما نسيت لا أنسى سعادتي بحضوره لبعض محاضراتي القصيرة في المؤتمرات العلمية وتكراره التعليقات الجميلة التي كنت أسمعها منه في صبايا شاعرا أنت إنسان مبدع ... عندك حسٌّ فني أدبي بارع وثقافتك واسعة... مرات عديدة كررها يرحمه الله في كهولتي بعد محاضراتي طبيبا نفسانيا... أنت إنسان مبدع ... عندك حسٌّ إكلينيكي بارع... وعن أكثر كتبي انتشارا الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي والذي حظي بانتشار واسع لأن الكويت طبعت منه 42 ألف نسخة كعادة سلسلة عالم المعرفة أذكر تعليقه : أنت بكتابك هذا ستغير كثيرا من أفكار الناس عن الطب النفسي عموما والوسواس بشكل خاص... الطريقة التي اتبعتها كانت في الجول يا وائل أصبت الهدف... والحقيقة التي قلتها لابنه وأخي وصديقي د. مهاب منير فوزي هي أنني لا خططت ولا صوبت لشيء لا في هذا الموضوع ولا في موقع مجانين ولا في أغلب ما وجدت نفسي أعمله سعيدا وبفضل الله راضيا.
ثم كان لنا لقاء لا أذكر تاريخه ! ولكن كنت أستاذا يعني ربما 2007 أو 2008 أظن في شرم الشيخ أو الغردقة لا أذكر ولم يكن الناس يصورون أيامها كما نحن الآن لأجد ما يذكرني، المهم أنني لأول مرة وآخر مرة في حياتي تناولت عشائي معه أنا وهو فقط وتحدثت معه طويلا وطرحت عليه تساؤلاتي في الوسواس وغير الوسواس غالبا عن العقاقير... تخيلوا هذا ما دار بيننا على العشاء وقد جلسنا أكثر من ساعة معا ليلتها .... فاجأتني الطريقة التي يرد بها على أسئلتي فقد بينت لي أنه يرحمه الله تابع موقعنا مجانين وقرأ أغلب ما فيه ... ووقتها كان عمر الموقع ثلاث أو أربع سنوات ... ويتبين في نفس الوقت أنه قرأ أبحاثا قديمة وحديثة أكثر مني ربما في التوجه البيولوجي في فهم وعلاج الأمراض بما فيها الوسواس وغيره .... وتذكرت وقتها ما قاله لي مهاب مرة من أن أباه يقرأ على الأقل 4 ساعات يوميا ... وما زال وقد جاوز الستين .... لكن الأجمل كان عرضه للمعلومات بطريقة فنان قرر أن يكون عالما... يرحمه الله.... ويحدث ذلك بطريقة طبيعية غير معد لها كما هو في المحاضرات.
ثم في أواخر سنة 2012 وتداعيات الثورة ما تزال مستمرة اتصل بي رحمة الله عليه ليسألني إن كنت سأحضر مؤتمر جمعية الطب النفسي بالأقصر ؟ فقلت إن شاء الله قال إذن نلتقي على كل خير إن شاء الله، وكنت ملتزما بحضور ذلك المؤتمر بناء على دعوة د. أحمد عكاشه لاجتماع اتحاد الأطباء النفسانيين العرب، وهناك التقيته وصحبته في أكثر من مناسبة... لكنه في أول جلسة معا قال لي يا ترى يا وائل سجلت نفسك ضمن المرشحين للجان الترقيات ؟ قلت لا ... فقال إذن سارع بذلك فقد اتفقت مع الدكتور عكاشه في رغبته في ترشحك، قلت سأحتاج دروسا من سيادتك لأكون مقيما للأبحاث كما يجب ! ... قال يا وائل لم أعهد فيك لا التخوف من الجديد ولا التقليل من قيمتك العلمية ... قلت لعله اكتئاب ما بعد الثورة .... فضحك وقال هل هي ثورة أم فوضى ؟
اضغط الصورة لرؤية نسخة أكبر |
واقرأ أيضًا:
طارق أسعد عالم الطب النفسي العظيم المتواضع
التعليق: أشكرك يا دكتور على هذا المقال الذي جعلني أعرف أكثر عن هذا الشخص العظيم الذي تشرفت بمعرفته د/ منير ربنا يرحمه
عندما وصلني الخبر تسائلت لماذا يأخذ الموت الملائكة كما يأخذ البشر ووجدتني أبكي بالساعات
لم أنظر له يوما على أنه بشر أبدا بل نظرتي له على أنه ملاك لن أنسى أبدا هذا الشخص الذي تكفي رؤيته أو حتى سماع صوته للشفاء حتى بدون دواء
لم أجده يوما باحثا عن التربح من وظيفته كطبيب وأستاذ جامعي بل ماتت بالنسبة لي الإنسانية كلها عندما رحل هذا الرجل
تمنيت لو لم ألتقيه يوما حتى لا أفجع بفراقه ومستحيل أن يكون في إمكاني أن أوفيه حقه بكلمات أو مجلدات
ما يعذيني أنه ترك لنا علما ومواقف وكلمات ومبادىءَ وفكرة وقيما وسيرة ستظل في أذهاننا إلى الأبد